وَالْكَلَامُ الْمُحِيطُ بِأُصُولِ هَذَا الْفَصْلِ يَنْحَصِرُ فِي سِتِّ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الأُولَى: مِمَّنْ يَجُوزُ أَخْذُ الْجِزْيَةِ؟
الثَّانِيَةُ: عَلَى أَيِّ الْأَصْنَافِ مِنْهُمْ تَجِبُ الْجِزْيَةُ؟
الثَّالِثَةُ: كَمْ تَجِبُ؟
الرَّابِعَةُ: مَتَى تَجِبُ وَمَتَى تَسْقُطُ؟
الْخَامِسَةُ: كَمْ أَصْنَافُ الْجِزْيَةِ؟
السَّادِسَةُ: فِي مَاذَا يُصْرَفُ مَالُ الْجِزْيَةِ؟
الْمَسْأَلَةُ الأُولَى: فَأَمَّا مَنْ يَجُوزُ أَخْذُ الْجِزْيَةِ مِنْهُ؟ فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَخْذُهَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ الْعَجَمِ، وَمِنَ الْمَجُوسِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَاخْتَلَفُوا فِي أَخْذِهَا مِمَّنْ لَا كِتَابَ لَهُ، وَفِيمَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنَ الْعَرَبِ، بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ فِيمَا حَكَى بَعْضُهُمْ أَنَّهَا لَا تُؤْخَذُ مِنْ قُرَشِيٍّ كِتَابِيٍّ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ.
وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: وَهِيَ أَيُّ الْأَصْنَافِ مِنَ النَّاسِ تَجِبُ عَلَيْهِمْ؟ فَإِنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهَا إِنَّمَا تَجِبُ بِثَلَاثَةِ أَوْصَافٍ: الذُّكُورِيَّةِ، وَالْبُلُوغِ، وَالْحُرِّيَّةِ. وَأَنَّهَا لَا تَجِبُ عَلَى النِّسَاءِ، وَلَا عَلَى الصِّبْيَانِ، إِذَا كَانَتْ إِنَّمَا هِيَ عِوَضٌ مِنَ الْقَتْلِ، وَالْقَتْلُ إِنَّمَا هُوَ مُتَوَجِّهٌ بِالْأَمْرِ نَحْوَ الرِّجَالِ الْبَالِغِينَ، إِذْ قَدْ نُهِيَ عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ، وَكَذَلِكَ أَجْمَعُوا أَنَّهَا لَا تَجِبُ عَلَى الْعَبِيدِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي أَصْنَافٍ مِنْ هَؤُلَاءِ: مِنْهَا فِي الْمَجْنُونِ وَفِي الْمُقْعَدِ، وَمِنْهَا: فِي الشَّيْخِ، وَمِنْهَا: فِي أَهْلِ الصَّوَامِعِ، وَمِنْهَا: فِي الْفَقِيرِ هَلْ يُتْبَعُ بِهَا دَيْنًا مَتَى أَيْسَرَ أَمْ لَا؟ وَكُلُّ هَذِهِ مَسَائِلِ اجْتِهَادِيَّةٌ لَيْسَ فِيهَا تَوْقِيفٌ شَرْعِيٌّ.
وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ مَبْنِيٌّ عَلَى هَلْ يُقْتَلُونَ أَمْ لَا؟ أَعْنِي هَؤُلَاءِ الْأَصْنَافَ.
وأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: وَهِيَ كَمِ الْوَاجِبُ؟ فَإِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ فَرَأَى مَالِكٌ أَنَّ الْقَدْرَ الْوَاجِبَ فِي ذَلِكَ هُوَ مَا فَرَضَهُ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَذَلِكَ عَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ أَرْبَعَةُ دَنَانِيرَ، وَعَلَى أَهْلِ الْوَرِقِ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا، وَمَعَ ذَلِكَ أَرْزَاقُ الْمُسْلِمِينَ، وَضِيَافَةُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، لَا يُزَادُ عَلَى ذَلِكَ وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: أَقَلُّهُ مَحْدُودٌ وَهُوَ دِينَارٌ، وَأَكْثَرُهُ غَيْرُ مَحْدُودٍ، وَذَلِكَ بِحَسَبِ مَا يُصَالَحُونَ عَلَيْهِ. وَقَالَ قَوْمٌ: لَا تَوْقِيتَ فِي ذَلِكَ، وَذَلِكَ مَصْرُوفٌ إِلَى اجْتِهَادِ الْإِمَامِ وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ: الْجِزْيَةُ اثْنَا عَشَرَ دِرْهَمًا، وَأَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا، وَثَمَانِيَةٌ