إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} هذه دعوى من كل واحد من الطائفتين أنه لن يدخل الجنة إلا من كان منهما فقالت اليهود لا يدخلها إلا من كان هودا وقالت النصارى لا يدخلها إلا من كان نصرانيا فاختصر الكلام أبلغ اختصار وأوجزه مع أمن اللبس ووضوح المعنى فطالبهم الله تعالى بالبرهان على صحة الدعوى فقال: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} وهذا هو المسمى سؤال المطالبة بالدليل فمن ادعى دعوى بلا دليل يقال له هات برهانك إن كنت صادقا فيما ادعيت ويحتج بهذه الآية من يقول بلزوم النافي الدليل كما يلزم المثبت وحكوا في ذلك ثلاث مذاهب ثالثها يلزمه في الشرعيات دون العقليات واستدلالهم بالآية لا يصح لأن الله تعالى لم يطالبهم بدليل النفي المجرد بل ادعوا دعوى مضمونها إثبات دخولهم الجنة وإن غيرهم لم يدخلها فطولبوا بالدليل الدال على هذه الدعوى المركبة من النفي والإثبات وصاحب هذه الدعوى يلزمه الدليل باتفاق الناس وإنما الخلاف في النفي المجرد ولو استدل هؤلاء بقوله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً} لكان أقرب مع كونه متضمنا للنفي والإثبات لكن الدعوى فيه إنما توجهت إلى النفي ومقصود الكلام إنا لا نعذب بعد تلك الأيام فلم ينكر عليهم اعترافهم بالتعذيب تلك الأيام بل دعواهم أنهم لا يعذبون بعدها وذلك نفي محض فلذلك قلنا إن الاستدلال بها أقرب من هذه الآية.
وبعد فالتحقيق في مسألة النافي هل عليه دليل أن النفي نوعان:
- نوع مستلزم لإثبات ضد المنفي فهذا يلزم النافي فيه الدليل كمن نفي الإباحة فإنه يطالب بالدليل قطعا لأن نفيها يستلزم ثبوت ضد من أضدادها ولا بد من دليل وكذلك نفي التعذيب بالنار بعد ألأيام المعدودة يستلزم دخول الجنة والفوز بالنعيم ولا بد له من دليل.
- النوع الثاني نفي لا يستلزم ثبوتا كنفي صحة عقد من العقود أو شرط وعبادة في الشرعيات ونفي إمكان شيء ما من الأشياء في العقليات فالنافي إن نفي العلم به لم يلزمه دليل وإن نفى المعلوم نفسه وادعى أنه منتف في نفس الأمر فلا