الْمُعْتِقِ فَأَمْرٌ ثَبَتَ شَرْعًا غَيْرُ مَعْقُولِ الْمَعْنَى بِالْأَحَادِيثِ الَّتِي رَوَيْنَا؛ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ إذَا كَانَ مُتَجَزِّئًا عِنْدَهُ، كَانَ الْمُعْتِقُ مُتَصَرِّفًا فِي مِلْكِ نَفْسِهِ عَلَى طَرِيقِ الِاقْتِصَارِ، وَمَنْ تَصَرَّفَ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ لَا يُؤَاخَذُ بِمَا حَدَثَ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ عِنْدَ تَصَرُّفِهِ، لَا بِتَصَرُّفِهِ كَمَنْ أَحْرَقَ دَارَ نَفْسِهِ فَاحْتَرَقَتْ دَارُ جَارِهِ، أَوْ سَقَى أَرْضَ نَفْسِهِ فَنَزَّتْ أَرْضُ جَارِهِ، أَوْ حَفَرَ بِئْرًا فِي دَارِ نَفْسِهِ فَوَقَعَ فِيهَا إنْسَانٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ، إلَّا أَنَّ وُجُوبَ الضَّمَانِ حَالَةَ الْيَسَارِ ثَبُتَ بِالنُّصُوصِ تَعَبُّدًا غَيْرُ مَعْقُولٍ فَتَبْقَى حَالَةُ الْإِعْسَارِ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ، أَوْ ثَبَتَ مَعْقُولًا بِمَعْنَى النَّظَرِ لِلشَّرِيكِ؛ كَيْ لَا يَتْلَفَ مَالُهُ بِمُقَابَلَةِ مَالٍ فِي ذِمَّةِ الْمُفْلِسِ مِنْ غَيْرِ صُنْعٍ مِنْ الْمُعْتِقِ فِي نَصِيبِ شَرِيكِهِ، فَصَلَحَ أَنْ يَكُونَ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ وَمِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ فِي مُقَابَلَتِهِ عِوَضٌ فَيَكُونُ ضَمَانَ صِلَةٍ وَتَبَرُّعٍ، كَنَفَقَةِ الْمَحَارِمِ، وَضَمَانُ الصِّلَةِ وَالتَّبَرُّعِ إنَّمَا يَجِبُ حَالَةَ الْيَسَارِ كَمَا فِي نَفَقَةِ الْأَقَارِبِ أَوْ وَجَبَ نَظَرًا لِلْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُ تَبَرَّعَ عَلَيْهِ بِإِعْتَاقِ نِصْفِهِ فَلَمْ يَتِمَّ غَرَضُهُ فِي إيصَالِ ثَمَرَاتِ الْعِتْقِ إلَى الْعَبْدِ، فَوَجَبَ عَلَيْهِ الضَّمَانُ تَتْمِيمًا لِغَرَضِهِ فَيَخْتَصُّ وُجُوبُهُ بِحَالَةِ الْيَسَارِ، وَمِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ سَلَكَ طَرِيقَةً أُخْرَى لِأَبِي حَنِيفَةَ فِي ضَمَانِ الْعِتْقِ.
فَقَالَ: هَذَا ضَمَانُ إفْسَادٍ عِنْدَهُ؛ لِأَنَّ الْمُعْتِقَ بِإِعْتَاقِهِ نَصِيبَهُ أَفْسَدَ نَصِيبَ شَرِيكِهِ حَيْثُ أَخْرَجَهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُنْتَفَعًا بِهِ فِي حَقِّهِ، حَتَّى لَا يَمْلِكَ فِيهِ سَائِرَ التَّصَرُّفَاتِ الْمُزِيلَةِ لِلْمِلْكِ عَقِيبَ فِعْلِهِ، وَإِنَّمَا يَمْلِكُ الْإِعْتَاقَ وَالسِّعَايَةَ وَالْحُكْمَ مَتَى ثَبَتَ عَقِيبَ وَصْفٍ مُؤَثِّرٍ يُضَافُ إلَيْهِ، إلَّا أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الْمُعْسِرِ نَصًّا بِخِلَافِ الْقِيَاسِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هُوَ ضَمَانُ تَمَلُّكٍ؛ لِأَنَّهُ بِوُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَى الْمُعْتِقِ يَصِيرُ نَصِيبُ شَرِيكِهِ مِلْكًا لَهُ، حَتَّى كَانَ لَهُ أَنْ يُعْتِقَ نَصِيبَهُ مَجَّانًا بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَإِنْ شَاءَ اسْتَسْعَى الْعَبْدَ، وَهَذَا تَفْسِيرُ ضَمَانِ التَّمَلُّكِ أَنْ يَكُونَ بِمُقَابَلَةِ الضَّمَانِ مِلْكَ الْعِوَضِ، وَهَذَا كَذَلِكَ؛ وَلِهَذَا كَانَ ضَمَانُ الْغَصْبِ ضَمَانَ تَمَلُّكٍ، وَضَمَانُ التَّمَلُّكِ لَا يَسْتَدْعِي وُجُودَ الْإِتْلَافِ كَضَمَانِ الْغَصْبِ، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَكُونُ ضَمَانُ التَّمَلُّكِ، وَالْمَضْمُونُ وَهُوَ نَصِيبُ الشَّرِيكِ لَا يَحْتَمِلُ النَّقْلَ مِنْ مِلْكٍ إلَى مِلْكٍ؟ قِيلَ: يُحْتَمَلُ النَّقْلُ إلَى مِلْكِ الْمُعْتِقِ بِالضَّمَانِ إنْ كَانَ لَا يَحْتَمِلُ النَّقْلَ إلَى مِلْكِ غَيْرِهِ، وَيَجُوزُ بَيْعُهُ مِنْهُ أَيْضًا فِي الْقِيَاسِ، هَكَذَا ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ وَقَالَ: إنْ بَاعَ الَّذِي لَمْ يُعْتِقْ نَصِيبَهُ مِنْ الْمُعْتَقِ أَوْ وَهَبَهُ لَهُ عَلَى عِوَضٍ أَخَذَهُ مِنْهُ، وَهَذَا وَاخْتِيَارُهُ الضَّمَانَ سَوَاءٌ فِي الْقِيَاسِ، غَيْرَ أَنَّ هَذَا أَفْحَشُهُمَا، وَالْبَيْعُ: هُوَ نَقْلُ الْمِلْكِ بِعِوَضٍ، إلَّا أَنَّ فِي الِاسْتِحْسَانِ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ مِنْ الْمُعْتَقِ كَمَا لَا يَجُوزُ فِي غَيْرِهِ، لَكِنَّ هَذَا لَا يَنْفِي جَوَازَ النَّقْلِ لَا عَلَى وَجْهِ الْبَيْعِ، فَإِنَّ الشَّيْءَ قَدْ يَحْتَمِلُ النَّقْلَ إلَى إنْسَانٍ بِالضَّمَانِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَحْتَمِلُهُ بِجِهَةِ الْبَيْعِ، فَإِنَّ الْخَمْرَ تَنْتَقِلُ إلَى الْمُسْلِمِ بِالضَّمَانِ بِأَنْ أَتْلَفَ عَلَى ذِمِّيٍّ خَمْرَهُ وَإِنْ كَانَتْ لَا تَنْتَقِلُ إلَيْهِ بِالْبَيْعِ، عَلَى أَنَّ قَبُولَ الْمَحَلِّ لِانْتِقَالِ الْمِلْكِ فِيهِ بِشَرْطِ حَالِ انْعِقَادِ السَّبَبِ لَا حَالِ أَدَاءِ الضَّمَانِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُهُ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ فَيُرَاعَى قَبُولُ الْمَحَلِّ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ غَصَبَ مِنْ آخَرَ عَبْدًا فَهَلَكَ فِي يَدِهِ ثُمَّ أَدَّى الضَّمَانَ أَنَّهُ يَمْلِكُهُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْهَالِكَ لَا يَقْبَلُ الْمِلْكَ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ قَابِلًا وَقْتَ انْعِقَادِ السَّبَبِ وَالْمِلْكُ يَثْبُتُ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ، يُعْتَبَرُ قَبُولُ الْمَحَلِّ فِيهِ، وَكَذَا هَهُنَا.
ثُمَّ إذَا ضَمِنَ الَّذِي أَعْتَقَ، فَالْمُعْتَقُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَعْتَقَ مَا بَقِيَ وَإِنْ شَاءَ دَبَّرَ وَإِنْ شَاءَ كَاتَبَ وَإِنْ شَاءَ اسْتَسْعَى؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الشَّرِيكِ الَّذِي لَمْ يُعْتِقْ؛ لِأَنَّ نَصِيبَهُ انْتَقَلَ إلَيْهِ فَقَامَ مَقَامَهُ وَبِأَيِّ وَجْهٍ عَتَقَ مِنْ الْإِعْتَاقِ أَوْ السِّعَايَةِ فَوَلَاءُ الْعَبْدِ كُلُّهُ لَهُ؛ لِأَنَّهُ عَتَقَ كُلُّهُ عَلَى مِلْكِهِ، هَذَا إذَا كَانَ الْمُعْتِقُ مُوسِرًا.
فَأَمَّا إنْ كَانَ مُعْسِرًا، فَلِلشَّرِيكِ أَرْبَعُ خِيَارَاتٍ: إنْ شَاءَ أَعْتَقَ وَإِنْ شَاءَ دَبَّرَ وَإِنْ شَاءَ كَاتَبَ وَإِنْ شَاءَ اسْتَسْعَى؛ لِمَا ذَكَرْنَا.
وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فَيُعْتِقُ كُلَّهُ؛ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ عِنْدَهُمَا لَا يَتَجَزَّأُ فَكَانَ إعْتَاقُ بَعْضِهِ إعْتَاقًا لِكُلِّهِ وَلَا خِيَارَ لِلشَّرِيكِ عِنْدَهُمَا، وَإِنَّمَا لَهُ الضَّمَانُ لَا غَيْرُ إنْ كَانَ الْمُعْتِقُ مُوسِرًا، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا فَلَهُ السِّعَايَةُ لَا غَيْرُ؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُعْتِقَ صَارَ مُتْلِفًا نَصِيبَ الشَّرِيكِ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْوَاجِبُ هُوَ الضَّمَانُ فِي حَالَةِ الْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ، إلَّا أَنَّ وُجُوبَ السِّعَايَةِ حَالَ الْإِعْسَارِ ثَبَتَ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ بِالنَّصِّ.
وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ إنْ كَانَ الْمُعْتِقُ مُوسِرًا، عَتَقَ كُلُّهُ وَلِلشَّرِيكِ أَنْ يَضْمَنَهُ لَا غَيْرُ كَمَا قَالَا وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا يُعْتِقُ مَا أَعْتَقَ وَيَبْقَى الْبَاقِي مَحَلًّا لِجَمِيعِ التَّصَرُّفَاتِ الْمُزِيلَةِ لِلْمِلْكِ مِنْ الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ عِنْدَهُ لَا يَتَجَزَّأُ فِي حَالَةِ الْيَسَارِ، وَفِي حَالَةِ الْإِعْسَارِ يَتَجَزَّأُ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الدَّلَائِلِ لِأَبِي حَنِيفَةَ، فَيَقْتَصِرُ حُكْمُ تَصَرُّفِ الْمُعْتِقِ عَلَى نَصِيبِهِ فَيَبْقَى نَصِيبُهُ عَلَى مَا كَانَ مِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ قَالَ: لَا خِلَافَ بَيْنَ أَصْحَابِنَا فِي أَنَّ الْعِتْقَ لَا يَتَجَزَّأُ وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي الْإِعْتَاقِ وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ لَمَّا كَانَ