فَصْلٌ) :
وَأَمَّا مِقْدَارُ الْوَاجِبِ مِنْهَا فَمِقْدَارُ الْكِفَايَةِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَهَا لِلْكِفَايَةِ فَتُقَدَّرُ بِقَدْرِ الْكِفَايَةِ كَنَفَقَةِ الْأَقَارِبِ.
(فَصْلٌ) :
وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ وُجُوبِهَا فَإِنَّهَا تَجِبُ عَلَى وَجْهٍ يُجْبَرُ عَلَيْهَا عِنْدَ الطَّلَبِ وَالْخُصُومَةِ فِي الْجُمْلَةِ بَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الْمَمْلُوكَ إذَا خَاصَمَ مَوْلَاهُ فِي النَّفَقَةِ عِنْدَ الْقَاضِي فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَأْمُرُهُ بِالنَّفَقَةِ عَلَيْهِ فَإِنْ أَبَى يَنْظُرُ الْقَاضِي فَكُلُّ مَنْ يَصْلُحُ لِلْإِجَارَةِ يُؤَاجِرُهُ وَيُنْفِقُ عَلَيْهِ مِنْ أُجْرَتِهِ أَوْ يَبِيعُهُ إنْ كَانَ مَحَلًّا لِلْبَيْعِ كَالْقِنِّ، وَرَأْيُ الْبَيْعِ أَصْلَحُ وَلَا يُجْبَرُ عَلَى الْإِنْفَاقِ وَإِنْ لَمْ يَصْلُحْ لِلْإِجَارَةِ بِأَنْ كَانَ صَغِيرًا أَوْ جَارِيَةً وَلَا مَحَلًّا لِلْبَيْعِ كَالْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ يُجْبِرُهُ عَلَى الْإِنْفَاقِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ بَيْعُهُ وَلَا إجَارَتُهُ، وَتَرْكُهُ جَائِعًا تَضْيِيعٌ إلَى آدَمِيٍّ فَيُجْبَرُ الْمَوْلَى عَلَى الْإِنْفَاقِ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ.
(وَأَمَّا) نَفَقَةُ الْبَهَائِمِ فَلَا يُجْبَرُ عَلَيْهَا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَلَكِنَّهُ يُفْتَى فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهَا.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُجْبَرُ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ فِي تَرْكِهِ جَائِعًا تَعْذِيبَ الْحَيَوَانِ بِلَا فَائِدَةٍ وَتَضْيِيعَ الْمَالِ وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ وَلِأَنَّهُ سَفَهٌ لِخُلُوِّهِ عَنْ الْعَاقِبَةِ الْحَمِيدَةِ وَالسَّفَهُ حَرَامٌ عَقْلًا، وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْجَبْرَ عَلَى الْحَقِّ يَكُونُ عِنْدَ الطَّلَبِ وَالْخُصُومَةِ مِنْ صَاحِبِ الْحَقِّ، وَلَا خَصْمَ؛ فَلَا يُجْبَرُ وَلَكِنْ تَجِبُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى لِمَا قَالَهُ أَبُو يُوسُفَ.
وَأَمَّا نَفَقَةُ الْجَمَادَاتِ كَالدُّورِ وَالْعَقَارِ فَلَا يُجْبَرُ عَلَيْهَا لِمَا قُلْنَا، وَلَا يُفْتَى أَيْضًا بِالْوُجُوبِ إلَّا أَنَّهُ إذَا كَانَ هُنَاكَ تَضْيِيعَ الْمَالِ فَيُكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ.
(كِتَابُ الْحَضَانَةِ) :
الْكَلَامُ فِي هَذَا الْكِتَابِ فِي مَوَاضِعَ: فِي تَفْسِيرِ الْحَضَانَةِ وَفِي بَيَانِ مَنْ لَهُ الْحَضَانَةُ، وَفِي بَيَانِ مُدَّةِ الْحَضَانَةِ، وَفِي بَيَانِ مَكَانِ الْحَضَانَةِ.
أَمَّا الْأَوَّلُ: فَالْحَضَانَةُ فِي اللُّغَةِ تُسْتَعْمَلُ فِي مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا جَعْلُ الشَّيْءِ فِي نَاحِيَةٍ يُقَالُ: حَضَنَ الرَّجُلُ الشَّيْءَ أَيْ اعْتَزَلَهُ فَجَعَلَهُ فِي نَاحِيَةٍ مِنْهُ، وَالثَّانِي: الضَّمُّ إلَى الْجَنْبِ يُقَالُ: حَضَنْته وَاحْتَضَنْته إذَا ضَمَمْته إلَى جَنْبِك، وَالْحَضْنُ الْجَنْبُ فَحَضَانَةُ الْأُمِّ وَلَدَهَا هِيَ ضَمُّهَا إيَّاهُ إلَى جَنْبِهَا وَاعْتِزَالُهَا إيَّاهُ مِنْ أَبِيهِ لِيَكُونَ عِنْدَهَا فَتَقُومَ بِحِفْظِهِ وَإِمْسَاكِهِ وَغَسْلِ ثِيَابِهِ وَلَا تُجْبَرُ الْأُمُّ عَلَى إرْضَاعِهِ إلَّا أَنْ لَا يُوجَدَ مَنْ تُرْضِعُهُ فَتُجْبَرَ عَلَيْهِ وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَقَالَ مَالِكٌ: إنْ كَانَتْ شَرِيفَةً لَمْ تُجْبَرْ وَإِنْ كَانَتْ دَنِيَّةً تُجْبَرْ وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} [البقرة: 233] قِيلَ: فِي بَعْضِ وُجُوهِ التَّأْوِيلِ أَيْ: لَا تُضَارَّ بِإِلْزَامِ الْإِرْضَاعِ مَعَ كَرَاهَتِهَا وَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي الْمُطَلَّقَاتِ {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] جَعَلَ تَعَالَى أَجْرَ الرَّضَاعِ عَلَى الْأَبِ لَا عَلَى الْأُمِّ مَعَ وُجُودِهَا؛ فَدَلَّ أَنَّ الرَّضَاعَ لَيْسَ عَلَى الْأُمِّ وَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] أَيْ: رِزْقُ الْوَالِدَاتِ الْمُرْضِعَاتِ فَإِنْ أُرِيدَ بِهِ الْمُطَلَّقَاتُ؛ فَفِيهِ أَنَّهُ لَا إرْضَاعَ عَلَى الْأُمِّ حَيْثُ أَوْجَبَ بَدَلَ الْإِرْضَاعِ عَلَى الْأَبِ مَعَ وُجُودِ الْأُمِّ وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ الْمَنْكُوحَاتُ كَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ - وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ - إيجَابَ زِيَادَةِ النَّفَقَةِ عَلَى الْأَبِ لِلْأُمِّ الْمُرْضِعَةِ لِأَجْلِ الْوَلَدِ، وَإِلَّا فَالنَّفَقَةُ تَسْتَحِقُّهَا الْمَنْكُوحَةُ مِنْ غَيْرِ وَلَدٍ وَلِأَنَّ الْإِرْضَاعَ إنْفَاقٌ عَلَى الْوَلَدِ وَنَفَقَةُ الْوَلَدِ يَخْتَصُّ بِهَا الْوَالِدُ لَا يُشَارِكُهُ فِيهَا الْأُمُّ كَنَفَقَتِهِ بَعْدَ الِاسْتِغْنَاءِ.
فَكَمَا لَا تَجِبُ عَلَيْهَا نَفَقَتُهُ بَعْدَ الِاسْتِغْنَاءِ؛ لَا تَجِبُ عَلَيْهَا قَبْلَهُ، وَهُوَ إرْضَاعُهُ وَهَذَا فِي الْحُكْمِ.
وَأَمَّا فِي الْفَتْوَى فَتُفْتَى بِأَنَّهَا تُرْضِعُهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} [البقرة: 233] قِيلَ فِي بَعْضِ تَأْوِيلَاتِ الْآيَةِ: أَيْ لَا تُضَارَّ بِوَلَدِهَا بِأَنْ تَرْمِيَهُ عَلَى الزَّوْجِ بَعْدَ مَا عَرَفَهَا وَأَلِفَهَا وَلَا تُرْضِعَهُ فَيَتَضَرَّرَ الْوَلَدُ وَمَتَى تَضَرَّرَ الْوَلَدُ تَضَرَّرَ الْوَالِدُ؛ لِأَنَّهُ يَتَأَلَّمُ قَلْبُهُ بِذَلِكَ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ} [البقرة: 233] أَيْ: لَا يُضَارَّ الْمَوْلُودُ لَهُ بِسَبَبِ الْإِضْرَارِ بِوَلَدِهِ كَذَا قِيلَ: فِي بَعْضِ وُجُوهِ التَّأْوِيلِ وَلِأَنَّ النِّكَاحَ عَقْدُ سَكَنٍ وَازْدِوَاجٍ وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِاجْتِمَاعِهِمَا عَلَى مَصَالِحِ النِّكَاحِ وَمِنْهَا إرْضَاعُ الْوَلَدِ فَيُفْتَى بِهِ وَلَكِنَّهَا إنْ أَبَتْ لَا تُجْبَرُ عَلَيْهِ؛ لِمَا قُلْنَا، إلَّا إذَا كَانَ لَا يُوجَدُ مَنْ يُرْضِعُهُ فَحِينَئِذٍ تُجْبَرُ عَلَى إرْضَاعِهِ؛ إذْ لَوْ لَمْ تُجْبَرْ عَلَيْهِ لَهَلَكَ الْوَلَدُ، وَلَوْ الْتَمَسَ الْأَبُ لِوَلَدِهِ مُرْضِعًا فَأَرَادَتْ الْأُمُّ أَنْ تُرْضِعَهُ بِنَفْسِهَا فَهِيَ أَوْلَى؛ لِأَنَّهَا أَشْفَقُ عَلَيْهِ وَلِأَنَّ فِي انْتِزَاعِ الْوَلَدِ مِنْهَا إضْرَارًا بِهَا وَإِنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} [البقرة: 233] قِيلَ فِي بَعْضِ الْأَقَاوِيلِ: أَيْ لَا يُضَارَّهَا زَوْجُهَا بِانْتِزَاعِ الْوَلَدِ مِنْهَا وَهِيَ تُرِيدُ إمْسَاكَهُ وَإِرْضَاعَهُ فَإِنْ أَرَادَتْ أَنْ تَأْخُذَ عَلَى ذَلِكَ أَجْرًا فِي صُلْبِ النِّكَاحِ لَمْ يَجُزْ لَهَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْإِرْضَاعَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَحَقًّا عَلَيْهَا فِي الْحُكْمِ فَهُوَ مُسْتَحَقٌّ فِي الْفَتْوَى وَلَا يَجُوزُ أَخْذُ