فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فَارِقْهَا فَقُلْت إنَّهَا امْرَأَةٌ سَوْدَاءُ وَإِنَّهَا كَيْت وَكَيْت فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَيْفَ وَقَدْ قِيلَ: وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ قَالَ عُقْبَةُ فَذَكَرْت ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَعْرَضَ ثُمَّ ذَكَرْتُهُ فَأَعْرَضَ حَتَّى قَالَ فِي الثَّالِثَةِ أَوْ الرَّابِعَةِ: فَدَعْهَا إذًا» وَقَوْلُهُ: فَارِقْهَا أَوْ فَدَعْهَا إذًا نَدْبٌ إلَى الْأَفْضَلِ وَالْأَوْلَى.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُمَا بَلْ أَعْرَضَ وَلَوْ كَانَ التَّفْرِيقُ وَاجِبًا لَمَا أَعْرَضَ فَدَلَّ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَارِقْهَا عَلَى بَقَاءِ النِّكَاحِ.
وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا تَزَوَّجَ امْرَأَةً فَجَاءَتْ امْرَأَةٌ فَزَعَمَتْ أَنَّهَا أَرْضَعَتْهُمَا فَسَأَلَ الرَّجُلُ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ هِيَ امْرَأَتُك لَيْسَ أَحَدٌ يُحَرِّمُهَا عَلَيْك فَإِنْ تَنَزَّهْت فَهُوَ أَفْضَلُ وَسَأَلَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ وَلِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ صَادِقَةً فِي شَهَادَتِهَا فَكَانَ الِاحْتِيَاطُ هُوَ الْمُفَارَقَةَ.
فَإِذَا فَارَقَهَا فَالْأَفْضَلُ لَهُ أَنْ يُعْطِيَهَا نِصْفَ الْمَهْرِ إنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا لِاحْتِمَالِ صِحَّةِ النِّكَاحِ لِاحْتِمَالِ كَذِبِهَا فِي الشَّهَادَةِ وَالْأَفْضَلُ لَهَا أَنْ تَأْخُذَ شَيْئًا مِنْهُ لِاحْتِمَالِ فَسَادِ النِّكَاحِ لِاحْتِمَالِ صِدْقِهَا فِي الشَّهَادَةِ وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ فَالْأَفْضَلُ لِلزَّوْجِ أَنْ يُعْطِيَهَا كَمَالَ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى لِاحْتِمَالِ جَوَازِ النِّكَاحِ وَالْأَفْضَلُ لَهَا أَنْ تَأْخُذَ الْأَقَلَّ مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا وَمِنْ الْمُسَمَّى وَلَا تَأْخُذُ النَّفَقَةَ وَالسُّكْنَى لِاحْتِمَالِ الْفَسَادِ وَإِنْ لَمْ يُطَلِّقْهَا فَهُوَ فِي سَعَةٍ مِنْ الْمُقَامِ مَعَهَا؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ قَائِمٌ فِي الْحُكْمِ، وَكَذَا إذَا شَهِدَتْ امْرَأَتَانِ أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ أَوْ رَجُلَانِ غَيْرُ عَدْلَيْنِ أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ غَيْرُ عُدُولٍ لِمَا قُلْنَا، وَإِذَا شَهِدَ رَجُلَانِ عَدْلَانِ أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ وَفُرِّقَ بَيْنَهُمَا فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا فَلَا شَيْءَ لَهَا؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ النِّكَاحَ كَانَ فَاسِدًا وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ بِهَا يَجِبُ الْأَقَلُّ مِنْ الْمُسَمَّى وَمِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ وَلَا تَجِبُ لَهَا النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى فِي سَائِرِ الْأَنْكِحَةِ الْفَاسِدَةِ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ.
(كِتَابُ النَّفَقَةِ) :
النَّفَقَةُ أَنْوَاعٌ أَرْبَعَةٌ: نَفَقَةُ الزَّوْجَاتِ، وَنَفَقَةُ الْأَقَارِبِ، وَنَفَقَةُ الرَّقِيقِ، وَنَفَقَةُ الْبَهَائِمِ وَالْجَمَادَاتِ أَمَّا نَفَقَةُ الزَّوْجَاتِ فَالْكَلَامُ فِيهَا يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ: فِي.
بَيَانِ وُجُوبِهَا وَفِي بَيَانِ سَبَبِ الْوُجُوبِ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ، وَفِي بَيَانِ مِقْدَارِ الْوَاجِبِ مِنْهَا، وَفِي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ وُجُوبِهَا وَبَيَانِ سَبَبِ الْوُجُوبِ، وَفِي بَيَانِ مَا يُسْقِطُهَا بَعْدَ وُجُوبِهَا وَصَيْرُورَتِهَا دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ.
أَمَّا وُجُوبُهَا فَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ وَالْمَعْقُولُ أَمَّا الْكِتَابُ الْعَزِيزُ فَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} [الطلاق: 6] أَيْ: عَلَى قَدْرِ مَا يَجِدُهُ أَحَدُكُمْ مِنْ السَّعَةِ وَالْمَقْدِرَةِ وَالْأَمْرُ بِالْإِسْكَانِ أَمْرٌ بِالْإِنْفَاقِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَصِلُ إلَى النَّفَقَةِ إلَّا بِالْخُرُوجِ وَالِاكْتِسَابِ وَفِي حَرْفِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ وَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ مِنْ وُجْدِكُمْ وَهُوَ نَصٌّ وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ} [الطلاق: 6] أَيْ: لَا تُضَارُّوهُنَّ فِي الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِنَّ فَتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ النَّفَقَةَ فَيَخْرُجْنَ أَوْ لَا تُضَارُّوهُنَّ فِي الْمَسْكَنِ فَتَدْخُلُوا عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ فَتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ الْمَسْكَنَ فَيَخْرُجْنَ، وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6] وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} [الطلاق: 7] وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 228] قِيلَ: هُوَ الْمَهْرُ وَالنَّفَقَةُ.
وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «اتَّقُوا اللَّهَ فِي النِّسَاءِ فَإِنَّهُنَّ عِنْدَكُمْ عَوَانٌ لَا يَمْلِكْنَ لِأَنْفُسِهِنَّ شَيْئًا وَإِنَّمَا أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانَةِ اللَّهِ وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ لَكُمْ عَلَيْهِنَّ حَقٌّ أَنْ لَا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا وَلَا يَأْذَنَّ فِي بُيُوتِكُمْ لِأَحَدٍ تَكْرَهُونَهُ، فَإِنْ خِفْتُمْ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ كِسْوَتُهُنَّ وَرِزْقُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ثُمَّ قَالَ ثَلَاثًا: أَلَا هَلْ بَلَّغْت» وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْحَدِيثُ تَفْسِيرًا لِمَا أَجْمَلَ الْحَقُّ فِي قَوْلِهِ {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 228] فَكَانَ الْحَدِيثُ مُبَيِّنًا لِمَا فِي الْكِتَابِ أَصْلُهُ.
وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ مَا حَقُّ الْمَرْأَةِ عَلَى الزَّوْجِ؟ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يُطْعِمُهَا إذَا طَعِمَ وَيَكْسُوهَا إذَا كُسِيَ وَأَنْ لَا يَهْجُرَهَا إلَّا فِي الْمَبِيتِ وَلَا يَضْرِبَهَا وَلَا يُقَبِّحْ» وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِهِنْدٍ امْرَأَةِ أَبِي سُفْيَانَ «خُذِي مِنْ مَالِ أَبِي سُفْيَانَ مَا يَكْفِيك وَوَلَدَك