وَفِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - " أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ وَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ مِنْ وُجْدِكُمْ " وَلَا اخْتِلَافَ بَيْنَ الْقِرَاءَتَيْنِ لَكِنَّ إحْدَاهُمَا تَفْسِيرُ الْأُخْرَى كَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] وَقِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - " أَيْمَانَهُمَا " وَلَيْسَ ذَلِكَ اخْتِلَافَ الْقِرَاءَةِ بَلْ قِرَاءَتُهُ تَفْسِيرُ الْقِرَاءَةِ الظَّاهِرَةِ كَذَا هَذَا.
وَلِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْإِسْكَانِ أَمْرٌ بِالْإِنْفَاقِ؛ لِأَنَّهَا إذَا كَانَتْ مَحْبُوسَةً مَمْنُوعَةً عَنْ الْخُرُوجِ لَا تَقْدِرُ عَلَى اكْتِسَابِ النَّفَقَةِ فَلَوْ لَمْ تَكُنْ نَفَقَتُهَا عَلَى الزَّوْجِ وَلَا مَالَ لَهَا لَهَلَكَتْ، أَوْ ضَاقَ الْأَمْرُ عَلَيْهَا وَعَسُرَ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ وقَوْله تَعَالَى {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} [الطلاق: 7] مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ مَا قَبْلَ الطَّلَاقِ وَبَعْدَهُ فِي الْعِدَّةِ، وَلِأَنَّ النَّفَقَةَ إنَّمَا وَجَبَتْ قَبْلَ الطَّلَاقِ لِكَوْنِهَا مَحْبُوسَةً عَنْ الْخُرُوجِ وَالْبُرُوزِ لِحَقِّ الزَّوْجِ وَقَدْ بَقِيَ ذَلِكَ الِاحْتِبَاسُ بَعْدَ الطَّلَاقِ فِي حَالَةِ الْعِدَّةِ وَتَأَبَّدَ بِانْضِمَامِ حَقِّ الشَّرْعِ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْحَبْسَ قَبْلَ الطَّلَاقِ كَانَ حَقًّا لِلزَّوْجِ عَلَى الْخُلُوصِ وَبَعْدَ الطَّلَاقِ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الشَّرْعِ حَتَّى لَا يُبَاحَ لَهَا الْخُرُوجُ، وَإِنْ أَذِنَ الزَّوْجُ لَهَا بِالْخُرُوجِ فَلِمَا وَجَبَتْ بِهِ النَّفَقَةُ قَبْلَ التَّأَكُّدِ فَلَأَنْ تَجِبَ بَعْدَ التَّأَكُّدِ أَوْلَى.
وَأَمَّا الْآيَةُ فَفِيهَا أَمْرٌ بِالْإِنْفَاقِ عَلَى الْحَامِلِ وَأَنَّهُ لَا يَنْفِي وُجُوبَ الْإِنْفَاقِ عَلَى غَيْرِ الْحَامِلِ وَلَا يُوجِبُهُ أَيْضًا فَيَكُونُ مَسْكُونًا مَوْقُوفًا عَلَى قِيَامِ الدَّلِيلِ وَقَدْ قَامَ دَلِيلُ الْوُجُوبِ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا.
وَأَمَّا حَدِيثُ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ فَقَدْ رَدَّهُ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّهَا لَمَّا رَوَتْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَجْعَلْ لَهَا سُكْنَى وَلَا نَفَقَةَ قَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَا نَدَعُ كِتَابَ رَبِّنَا وَلَا سُنَّةَ نَبِيِّنَا بِقَوْلِ امْرَأَةٍ لَا نَدْرِي أَصَدَقَتْ أَمْ كَذَبَتْ وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ قَالَ: لَا نَدَعُ كِتَابَ رَبِّنَا وَسُنَّةَ نَبِيِّنَا وَنَأْخُذُ بِقَوْلِ امْرَأَةٍ لَعَلَّهَا نَسِيَتْ أَوْ شُبِّهَ لَهَا، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: لَهَا السُّكْنَى وَالنَّفَقَةُ وَقَوْلُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - " لَا نَدَعُ كِتَابَ رَبِّنَا " يُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ قَوْلَهُ عَزَّ وَجَلَّ: أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ وَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ مِنْ وُجْدِكُمْ، كَمَا هُوَ قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَيَكُونُ هَذَا قِرَاءَةَ عُمَرَ أَيْضًا وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ قَوْلَهُ عَزَّ وَجَلَّ {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} [الطلاق: 7] مُطْلَقًا، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِقَوْلِهِ: لَا نَدَعُ كِتَابَ رَبِّنَا فِي السُّكْنَى خَاصَّةً وَهُوَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} [الطلاق: 6] كَمَا هُوَ الْقِرَاءَةُ الظَّاهِرَةُ، وَأَرَادَ بِقَوْلِهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - " سُنَّةَ نَبِيِّنَا " مَا رُوِيَ عَنْهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «لَهَا النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى» وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي هَذَا تِلَاوَةٌ رُفِعَتْ عَيْنُهَا وَبَقِيَ حُكْمُهَا فَأَرَادَ بِقَوْلِهِ: " لَا نَدَعُ كِتَابَ رَبِّنَا " تِلْكَ الْآيَةَ كَمَا رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ فِي بَابِ الزِّنَا: كُنَّا نَتْلُوا فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ: الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا نَكَالًا مِنْ اللَّهِ وَاَللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ، ثُمَّ رُفِعَتْ التِّلَاوَةُ وَبَقِيَ حُكْمُهَا.
كَذَا هَهُنَا وَرُوِيَ أَنَّ زَوْجَهَا أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ كَانَ إذَا سَمِعَهَا تَتَحَدَّثُ بِذَلِكَ حَصَبَهَا بِكُلِّ شَيْءٍ فِي يَدِهِ.
وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَتْ لَهَا: لَقَدْ فَتَنْتِ النَّاسَ بِهَذَا الْحَدِيثِ وَأَقَلُّ أَحْوَالِ إنْكَارِ الصَّحَابَةِ عَلَى رَاوِي الْحَدِيثِ أَنْ يُوجِبَ طَعْنًا فِيهِ، ثُمَّ قَدْ قِيلَ فِي تَأْوِيلِهِ إنَّهَا كَانَتْ تَبْدُو عَلَى أَحْمَائِهَا أَيْ تَفْحُشُ عَلَيْهِمْ بِاللِّسَانِ مِنْ قَوْلِهِمْ: بَذَوْتُ عَلَى فُلَانٍ، أَيْ فَحُشْتُ عَلَيْهِ، أَيْ كَانَتْ تُطِيلُ لِسَانَهَا عَلَيْهِمْ بِالْفُحْشِ فَنَقَلَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى بَيْتِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهَا نَفَقَةً وَلَا سُكْنَى؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ كَالنَّاشِزَةِ إذْ كَانَ سَبَبُ الْخُرُوجِ مِنْهَا، وَهَكَذَا نَقُولُ فِيمَنْ خَرَجَتْ مِنْ بَيْتِ زَوْجِهَا فِي عِدَّتِهَا أَوْ كَانَ مِنْهَا سَبَبٌ أَوْجَبَ الْخُرُوجَ أَنَّهَا لَا تَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ مَا دَامَتْ فِي بَيْتِ غَيْرِ الزَّوْجِ، وَقِيلَ: إنَّ زَوْجَهَا كَانَ غَائِبًا فَلَمْ يُقْضَ لَهَا بِالنَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى عَلَى الزَّوْجِ لِغَيْبَتِهِ؛ إذْ لَا يَجُوزُ الْقَضَاءُ عَلَى الْغَائِبِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ عَنْهُ خَصْمٌ حَاضِرٌ، فَإِنْ قِيلَ: رُوِيَ أَنَّ زَوْجَهَا خَرَجَ إلَى الشَّامِ وَقَدْ كَانَ وَكَّلَ أَخَاهُ فَالْجَوَابُ أَنَّهُ إنَّمَا وَكَّلَهُ بِطَلَاقِهَا وَلَمْ يُوَكِّلْهُ بِالْخُصُوصِيَّةِ، وَقَوْلُهُمَا إنَّ النَّفَقَةَ تَجِبُ لَهَا بِمُقَابَلَةِ الْمِلْكِ مَمْنُوعٌ فَإِنَّ لِلْمِلْكِ ضَمَانًا آخَرَ وَهُوَ الْمَهْرُ عَلَى مَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَإِنَّمَا تَجِبُ بِالِاحْتِبَاسِ، وَقَدْ بَقِيَ بَعْدَ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ وَالْبَائِنِ فَتَبْقَى النَّفَقَةُ وَسَوَاءٌ كَانَتْ الْمُعْتَدَّةُ عَنْ طَلَاقٍ كَبِيرَةً أَوْ صَغِيرَةً مُسْلِمَةً أَوْ كِتَابِيَّةً؛ لِأَنَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الدَّلَائِلِ لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ، وَلَا نَفَقَةَ وَلَا سُكْنَى لِلْأَمَةِ الْمُعْتَدَّةِ عَنْ طَلَاقٍ إذَا لَمْ يُبَوِّئْهَا الْمَوْلَى بَيْتًا؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يُبَوِّئْهَا الْمَوْلَى بَيْتًا فَحَقُّ الْحَبْسِ لَمْ يَثْبُتْ لِلزَّوْجِ.
أَلَا تَرَى أَنَّ لَهَا أَنْ تَخْرُجَ فَإِنْ كَانَ الْمَوْلَى قَدْ بَوَّأَهَا بَيْتًا فَلَهَا السُّكْنَى وَالنَّفَقَةُ لِثُبُوتِ حَقِّ الْحَبْسِ لِلزَّوْجِ، وَكَذَلِكَ