لَا يُجْزِئُهُ وَيَصِيرُ الْمَاءُ مُسْتَعْمَلًا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَاقَى رَأْسُهُ الْمَاءَ عَلَى قَصْدِ إقَامَةِ الْقُرْبَةِ صَيَّرَهُ مُسْتَعْمَلًا، وَلَا يَجُوزُ الْمَسْحُ بِالْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَجُوزُ وَلَا يَصِيرُ الْمَاءُ مُسْتَعْمَلًا بِالْمُلَاقَاةِ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ إنَّمَا يَأْخُذُ حُكْمَ الِاسْتِعْمَالِ بَعْدَ الِانْفِصَالِ فَلَمْ يَكُنْ مُسْتَعْمَلًا قَبْلَهُ فَيُجْزِئُهُ الْمَسْحُ بِهِ جُنُبٌ عَلَى يَدِهِ قَذَرٌ فَأَخَذَ الْمَاءَ بِفَمِهِ وَصَبَّهُ عَلَيْهِ، رَوَى الْمُعَلَّى عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَطْهُرُ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُسْتَعْمَلًا بِإِزَالَةِ الْحَدَثِ عَنْ الْفَمِ، وَالْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ لَا يُزِيلُ النَّجَاسَةَ بِالْإِجْمَاعِ، وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْآثَارِ أَنَّهُ يَطْهُرُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقُمْ بِهِ قُرْبَةٌ فَلَمْ يَصِرْ مُسْتَعْمَلًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(فَصْلٌ) :
وَأَمَّا بَيَانُ الْمِقْدَارِ الَّذِي يَصِيرُ بِهِ الْمَحَلُّ نَجِسًا شَرْعًا: فَالنَّجَسُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَقَعَ فِي الْمَائِعَاتِ كَالْمَاءِ وَالْخَلِّ وَنَحْوِهِمَا، وَإِمَّا أَنْ يُصِيبَ الثَّوْبَ وَالْبَدَنَ وَمَكَانَ الصَّلَاةِ، فَإِنْ وَقَعَ فِي الْمَاءِ، فَإِنْ كَانَ جَارِيًا، فَإِنْ كَانَ النَّجَسُ غَيْرَ مَرْئِيٍّ كَالْبَوْلِ وَالْخَمْرِ وَنَحْوِهِمَا لَا يَنْجَسُ، مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ لَوْنُهُ أَوْ طَعْمُهُ أَوْ رِيحُهُ، وَيَتَوَضَّأُ مِنْهُ مِنْ أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ مِنْ الْجَانِبِ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ النَّجَسُ أَوْ مِنْ جَانِبٍ آخَرَ، كَذَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ فِي كِتَابِ الْأَشْرِبَةِ لَوْ أَنَّ رَجُلًا صَبَّ خَابِيَةً مِنْ الْخَمْرِ فِي الْفُرَاتِ، وَرَجُلٌ آخَرَ - أَسْفَلَ مِنْهُ - يَتَوَضَّأُ إنْ تَغَيَّرَ لَوْنُهُ أَوْ طَعْمُهُ أَوْ رِيحُهُ لَا يَجُوزُ، وَإِنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ يَجُوزُ وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْجَاهِلِ بَالَ فِي الْمَاءِ الْجَارِي، وَرَجُلٌ أَسْفَلَ مِنْهُ يَتَوَضَّأُ بِهِ قَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمَاءَ الْجَارِي مِمَّا لَا يَخْلُصُ بَعْضُهُ إلَى بَعْضٍ، فَالْمَاءُ الَّذِي يَتَوَضَّأُ بِهِ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ نَجِسٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ طَاهِرٌ، وَالْمَاءُ طَاهِرٌ فِي الْأَصْلِ فَلَا نَحْكُمُ بِنَجَاسَتِهِ بِالشَّكِّ، وَإِنْ كَانَتْ النَّجَاسَةُ مَرْئِيَّةً كَالْجِيفَةِ وَنَحْوِهَا، فَإِنْ كَانَ جَمِيعُ الْمَاءِ يَجْرِي عَلَى الْجِيفَةِ لَا يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ مِنْ أَسْفَلِ الْجِيفَةِ؛ لِأَنَّهُ نَجِسٌ بِيَقِينٍ، وَالنَّجَسُ لَا يَطْهُرُ بِالْجَرَيَانِ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرُهُ يَجْرِي عَلَى الْجِيفَةِ فَكَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ لِلْغَالِبِ وَإِنْ كَانَ أَقَلُّهُ يَجْرِي عَلَى الْجِيفَةِ، وَالْأَكْثَرُ يَجْرِي عَلَى الطَّاهِرِ يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ بِهِ مِنْ أَسْفَلِ الْجِيفَةِ؛ لِأَنَّ الْمَغْلُوبَ مُلْحَقٌ بِالْعَدَمِ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ، وَإِنْ كَانَ يَجْرِي عَلَيْهَا النِّصْفُ أَوْ دُونَ النِّصْفِ فَالْقِيَاسُ أَنْ يَجُوزَ التَّوَضُّؤُ بِهِ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ كَانَ طَاهِرًا بِيَقِينٍ فَلَا يُحْكَمُ بِكَوْنِهِ نَجِسًا بِالشَّكِّ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا يَجُوزُ احْتِيَاطًا، وَعَلَى هَذَا إذَا كَانَ النَّجَسُ عِنْدَ الْمِيزَابِ وَالْمَاءُ يَجْرِي عَلَيْهِ فَهُوَ عَلَى التَّفْصِيلِ الَّذِي ذَكَرْنَا، وَإِنْ كَانَتْ الْأَنْجَاسُ مُتَفَرِّقَةً عَلَى السَّطْحِ وَلَمْ تَكُنْ عِنْدَ الْمِيزَابِ، ذَكَرَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ أَنَّهُ لَا يَصِيرُ نَجِسًا مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ لَوْنُهُ أَوْ طَعْمُهُ أَوْ رِيحُهُ، وَحُكْمُهُ حُكْمُ الْمَاءِ الْجَارِي.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ: إنْ كَانَتْ النَّجَاسَةُ فِي جَانِبٍ مِنْ السَّطْحِ أَوْ جَانِبَيْنِ مِنْهُ لَا يَنْجَسُ الْمَاءُ، وَيَجُوزُ التَّوَضُّؤُ بِهِ، وَإِنْ كَانَتْ فِي ثَلَاثَةِ جَوَانِبَ يَنْجَسُ اعْتِبَارًا لِلْغَالِبِ وَعَنْ مُحَمَّدٍ فِي مَاءِ الْمَطَرِ إذَا مَرَّ بِعَذِرَاتٍ، ثُمَّ اسْتَنْقَعَ فِي مَوْضِعٍ فَخَاضَ فِيهِ إنْسَانٌ، ثُمَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَصَلَّى لَا بَأْسَ بِهِ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا مَرَّ أَكْثَرُهُ عَلَى الطَّاهِرِ، وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِي حَدِّ الْجَرَيَانِ قَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ أَنْ يَجْرِيَ بِالتِّبْنِ وَالْوَرَقِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنْ كَانَ بِحَيْثُ لَوْ وَضَعَ رَجُلٌ يَدَهُ فِي الْمَاءِ عَرْضًا لَمْ يَنْقَطِعْ جَرَيَانُهُ فَهُوَ جَارٍ وَإِلَّا فَلَا.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ كَانَ بِحَالٍ لَوْ اغْتَرَفَ إنْسَانٌ الْمَاءَ بِكَفَّيْهِ لَمْ يَنْحَسِرْ وَجْهُ الْأَرْضِ بِالِاغْتِرَافِ فَهُوَ جَارٍ وَإِلَّا فَلَا، وَقِيلَ: مَا يَعُدُّهُ النَّاسُ جَارِيًا فَهُوَ جَارٍ، وَمَا لَا فَلَا؛ وَهُوَ أَصَحُّ الْأَقَاوِيلِ، وَإِنْ كَانَ رَاكِدًا فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ قَالَ أَصْحَابُ الظَّوَاهِرِ: إنَّ الْمَاءَ لَا يَنْجَسُ بِوُقُوعِ النَّجَاسَةِ فِيهِ أَصْلًا سَوَاءٌ كَانَ جَارِيًا أَوْ رَاكِدًا، وَسَوَاءٌ كَانَ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا، تَغَيَّرَ لَوْنُهُ أَوْ طَعْمُهُ أَوْ رِيحُهُ أَوْ لَمْ يَتَغَيَّرْ.
وَقَالَ عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ: إنْ كَانَ الْمَاءُ قَلِيلًا يَنْجَسُ، وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا لَا يَنْجَسُ، لَكِنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي الْحَدِّ الْفَاصِلِ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ قَالَ مَالِكٌ: إنْ تَغَيَّرَ لَوْنُهُ أَوْ طَعْمُهُ أَوْ رِيحُهُ فَهُوَ قَلِيلٌ، وَإِنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ فَهُوَ كَثِيرٌ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ فَهُوَ كَثِيرٌ، وَالْقُلَّتَانِ عِنْدَهُ خَمْسُ قِرَبٍ، كُلُّ قِرْبَةٍ خَمْسُونَ مَنًّا فَيَكُونُ جُمْلَتُهُ مِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ مَنًّا وَقَالَ أَصْحَابُنَا: إنْ كَانَ بِحَالٍ يَخْلُصُ بَعْضُهُ إلَى بَعْضٍ فَهُوَ قَلِيلٌ، وَإِنْ كَانَ لَا يَخْلُصُ فَهُوَ كَثِيرٌ.
فَأَمَّا أَصْحَابُ الظَّوَاهِرِ فَاحْتَجُّوا بِظَاهِرِ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ» (وَاحْتَجَّ) مَالِكٌ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «خُلِقَ الْمَاءُ طَهُورًا لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ إلَّا مَا غَيَّرَ لَوْنَهُ أَوْ طَعْمَهُ أَوْ رِيحَهُ» وَهُوَ تَمَامُ الْحَدِيثِ، أَوْ بَنَى الْعَامَّ عَلَى الْخَاصِّ عَمَلًا بِالدَّلِيلَيْنِ (وَاحْتَجَّ) الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَا يَحْمِلُ خَبَثًا» أَيْ يَدْفَعُ الْخَبَثَ عَنْ نَفْسِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: أَرَادَ بِالْقُلَّتَيْنِ قِلَالَ هَجَرَ، كُلُّ قُلَّةٍ يَسَعُ فِيهَا قِرْبَتَانِ وَشَيْءٌ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَهُوَ شَيْءٌ مَجْهُولٌ فَقَدَّرْتُهُ بِالنِّصْفِ احْتِيَاطًا.
(وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «إذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ مَنَامِهِ فَلَا يَغْمِسَنَّ