فَوَجَبَ حَمْلُ النَّهْيِ عَنْ الِاغْتِسَالِ فِيهِ - عَلَى مَا ذَكَرْنَا - صِيَانَةً لِكَلَامِ صَاحِبِ الشَّرْعِ عَنْ الْإِعَادَةِ الْخَالِيَةِ عَنْ الْإِفَادَة؛ وَلِأَنَّ هَذَا مِمَّا تَسْتَخْبِثُهُ الطِّبَاعُ السَّلِيمَةُ فَكَانَ مُحَرَّمًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157] وَالْحُرْمَةُ - لَا لِلِاحْتِرَامِ - دَلِيلُ النَّجَاسَةِ؛ وَلِأَنَّ الْأُمَّةَ أَجْمَعَتْ عَلَى أَنَّ مَنْ كَانَ فِي السَّفَرِ وَمَعَهُ مَاءٌ يَكْفِيهِ لِوُضُوئِهِ وَهُوَ بِحَالٍ يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ الْعَطَشَ يُبَاحُ لَهُ التَّيَمُّمُ.

وَلَوْ بَقِيَ الْمَاءُ طَاهِرًا بَعْدَ الِاسْتِعْمَالِ لَمَا أُبِيحَ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَوَضَّأَ وَيَأْخُذَ الْغُسَالَةَ فِي إنَاءٍ نَظِيفٍ وَيُمْسِكُهَا لِلشُّرْبِ، وَالْمَعْنَى فِي الْمَسْأَلَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فِي الْمُحْدِثِ خَاصَّةً وَالثَّانِي: يَعُمُّ الْفَصْلَيْنِ أَمَّا الْأَوَّلُ؛ فَلِأَنَّ الْحَدَثَ هُوَ خُرُوجُ شَيْءٍ نَجِسٍ مِنْ الْبَدَنِ وَبِهِ يَتَنَجَّسُ بَعْضُ الْبَدَنِ حَقِيقَةً فَيَتَنَجَّسُ الْبَاقِي تَقْدِيرًا؛ وَلِهَذَا أُمِرْنَا بِالْغُسْلِ وَالْوُضُوءِ؛ وَسُمِّيَ تَطْهِيرًا، وَتَطْهِيرُ الطَّاهِرِ لَا يُعْقَلُ، فَدَلَّ تَسْمِيَتُهَا تَطْهِيرًا عَلَى النَّجَاسَةِ تَقْدِيرًا؛ وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ لَهُ أَدَاءُ الصَّلَاةِ الَّتِي هِيَ مِنْ بَابِ التَّعْظِيمِ، وَلَوْلَا النَّجَاسَةُ الْمَانِعَةُ مِنْ التَّعْظِيمِ لَجَازَتْ، فَثَبَتَ أَنَّ عَلَى أَعْضَاءِ الْمُحْدِثِ نَجَاسَةً تَقْدِيرِيَّةً، فَإِذَا تَوَضَّأَ انْتَقَلَتْ تِلْكَ النَّجَاسَةُ إلَى الْمَاءِ فَيَصِيرُ الْمَاءُ نَجِسًا تَقْدِيرًا وَحُكْمًا، وَالنَّجَسُ قَدْ يَكُونُ حَقِيقِيًّا وَقَدْ يَكُونُ حُكْمِيًّا كَالْخَمْرِ وَالثَّانِي - مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ يُزِيلُ نَجَاسَةَ الْآثَامِ وَخُبْثِهَا فَنَزَلَ ذَلِكَ مَنْزِلَةَ خُبْثِ الْخَمْرِ إذَا أَصَابَ الْمَاءَ يُنَجِّسُهُ كَذَا هَذَا، ثُمَّ إنَّ أَبَا يُوسُفَ جَعَلَ نَجَاسَتَهُ خَفِيفَةً؛ لِعُمُومِ الْبَلْوَى فِيهِ؛ لِتَعَذُّرِ صِيَانَةِ الثِّيَابِ عَنْهُ وَلِكَوْنِهِ مَحَلَّ الِاجْتِهَادِ فَأَوْجَبَ ذَلِكَ خِفَّةً فِي حُكْمِهِ وَالْحَسَنُ جَعَلَ نَجَاسَتَهُ غَلِيظَةً؛ لِأَنَّهَا نَجَاسَةٌ حُكْمِيَّةٌ؛ وَأَنَّهَا أَغْلَظُ مِنْ الْحَقِيقَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ عُفِيَ عَنْ الْقَلِيلِ مِنْ الْحَقِيقِيَّةِ دُونَ الْحُكْمِيَّةِ بِأَنْ بَقِيَ عَلَى جَسَدِهِ لَمْعَةٌ يَسِيرَةٌ، وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ يَنْبَنِي أَنَّ التَّوَضُّؤَ فِي الْمَسْجِدِ مَكْرُوهٌ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا بَأْسَ بِهِ، إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ قَذَرٌ، فَمُحَمَّدٌ مَرَّ عَلَى أَصْلِهِ أَنَّهُ طَاهِرٌ، وَأَبُو يُوسُفَ مَرَّ عَلَى أَصْلِهِ أَنَّهُ نَجِسٌ.

وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَعَلَى رِوَايَةِ النَّجَاسَةِ لَا يُشْكِلُ.

وَأَمَّا عَلَى رِوَايَةِ الطَّهَارَةِ؛ فَلِأَنَّهُ مُسْتَقْذَرٌ طَبْعًا فَيَجِبُ تَنْزِيهُ الْمَسْجِدِ عَنْهُ كَمَا يَجِبُ تَنْزِيهُهُ عَنْ الْمُخَاطِ وَالْبَلْغَمِ، وَلَوْ اخْتَلَطَ الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ بِالْمَاءِ الْقَلِيلِ؟ قَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ بِهِ وَإِنْ قَلَّ وَهَذَا فَاسِدٌ، أَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ فَلِأَنَّهُ طَاهِرٌ لَمْ يَغْلِبْ عَلَى الْمَاءِ الْمُطْلَقِ فَلَا يُغَيِّرُهُ عَنْ صِفَةِ الطَّهُورِيَّةِ كَاللَّبَنِ.

وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَلِأَنَّ الْقَلِيلَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ يُجْعَلُ عَفْوًا؛ وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حِينَ سُئِلَ عَنْ الْقَلِيلِ مِنْهُ: لَا بَأْسَ بِهِ وَسُئِلَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ عَنْ الْقَلِيلِ فَقَالَ: وَمَنْ يَمْلِكُ نَشْرَ الْمَاءِ؟ وَهُوَ مَا تَطَايَرَ مِنْهُ عِنْدَ الْوُضُوءِ وَانْتَشَرَ أَشَارَ إلَى تَعَذُّرِ التَّحَرُّزِ عَنْ الْقَلِيلِ، فَكَانَ الْقَلِيلُ عَفْوًا، وَلَا تَعَذُّرَ فِي الْكَثِيرِ فَلَا يَكُونُ عَفْوًا، ثُمَّ الْكَثِيرُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ مَا يَغْلِبُ عَلَى الْمَاءِ الْمُطْلَقِ، وَعِنْدَهُمَا أَنْ يَتَبَيَّنَ مَوَاقِعَ الْقَطْرَةِ فِي الْإِنَاءِ.

(وَأَمَّا) بَيَانُ حَالِ الِاسْتِعْمَالِ وَتَفْسِيرُ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ فَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا: الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ: مَا زَايَلَ الْبَدَنَ وَاسْتَقَرَّ فِي مَكَان وَذَكَرَ فِي الْفَتَاوَى: أَنَّ الْمَاءَ إذَا زَالَ عَنْ الْبَدَنِ لَا يَنْجَسُ مَا لَمْ يَسْتَقِرَّ عَلَى الْأَرْضِ أَوْ فِي الْإِنَاءِ، وَهَذَا مَذْهَبُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ فَأَمَّا عِنْدَنَا فَمَا دَامَ عَلَى الْعُضْوِ الَّذِي اسْتَعْمَلَهُ فِيهِ لَا يَكُونُ مُسْتَعْمَلًا، وَإِذَا زَايَلَهُ صَارَ مُسْتَعْمَلًا وَإِنْ لَمْ يَسْتَقِرَّ عَلَى الْأَرْضِ أَوْ فِي الْإِنَاءِ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ إذَا مَسَحَ رَأْسَهُ بِمَاءٍ أَخَذَهُ مِنْ لِحْيَتِهِ لَمْ يُجْزِهِ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَقِرَّ عَلَى الْأَرْضِ أَوْ فِي الْإِنَاءِ، وَذَكَرَ فِي بَابِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ أَنَّ مَنْ مَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ وَبَقِيَ فِي كَفِّهِ بَلَلٌ فَمَسَحَ بِهِ رَأْسَهُ لَا يُجْزِيهِ، وَعَلَّلَ بِأَنَّ هَذَا مَاءٌ قَدْ مَسَحَ بِهِ مَرَّةً أَشَارَ إلَى صَيْرُورَتِهِ مُسْتَعْمَلًا وَإِنْ لَمْ يَسْتَقِرَّ عَلَى الْأَرْضِ أَوْ فِي الْإِنَاءِ، وَقَالُوا فِيمَنْ تَوَضَّأَ وَبَقِيَ عَلَى رِجْلِهِ لَمْعَةٌ فَغَسَلَهَا بِبَلَلٍ أَخَذَهُ مِنْ عُضْوٍ آخَرَ: لَا يَجُوزُ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ الِاسْتِقْرَارُ عَلَى الْمَكَانِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَذْهَبَ مَا قُلْنَا.

(أَمَّا) سُفْيَانُ فَقَدْ اسْتَدَلَّ بِمَسَائِلَ زَعَمَ أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ (مِنْهَا) : إذَا تَوَضَّأَ أَوْ اغْتَسَلَ وَبَقِيَ عَلَى يَدِهِ لَمْعَةٌ فَأَخَذَ الْبَلَلَ مِنْهَا فِي الْوُضُوءِ أَوْ مِنْ أَيِّ عُضْوٍ كَانَ فِي الْغُسْلِ وَغَسَلَ اللَّمْعَةَ يَجُوزُ.

(وَمِنْهَا) : إذَا تَوَضَّأَ وَبَقِيَ فِي كَفِّهِ بَلَلٌ فَمَسَحَ بِهِ رَأْسَهُ يَجُوزُ، وَإِنْ زَايَلَ الْعُضْوَ الَّذِي اسْتَعْمَلَهُ فِيهِ لِعَدَمِ الِاسْتِقْرَارِ فِي مَكَان.

(وَمِنْهَا) : إذَا مَسَحَ أَعْضَاءَهُ بِالْمِنْدِيلِ وَابْتَلَّ، حَتَّى صَارَ كَثِيرًا فَاحِشًا أَوْ تَقَاطَرَ الْمَاءُ عَلَى ثَوْبٍ مِقْدَارَ الْكَثِيرِ الْفَاحِشِ جَازَتْ الصَّلَاةُ مَعَهُ وَلَوْ أُعْطِيَ لَهُ حُكْمُ الِاسْتِعْمَالِ عِنْدَ الْمُزَايَلَةِ لَمَا جَازَتْ.

(وَلَنَا) أَنَّ الْقِيَاسَ أَنْ يَصِيرَ الْمَاءُ مُسْتَعْمَلًا بِنَفْسِ الْمُلَاقَاةِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ وُجِدَ سَبَبُ صَيْرُورَتِهِ مُسْتَعْمَلًا وَهُوَ إزَالَةُ الْحَدَثِ أَوْ اسْتِعْمَالُهُ عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ.

وَقَدْ حَصَلَ ذَلِكَ بِمُجَرَّدِ الْمُلَاقَاةِ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُؤْخَذَ لِكُلِّ جُزْءٍ مِنْ الْعُضْوِ جُزْءٌ مِنْ الْمَاءِ، إلَّا أَنَّ فِي ذَلِكَ حَرَجًا، فَالشَّرْعُ أَسْقَطَ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015