فَصْلٌ) :
وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَرْفَعُ حُكْمَ النِّكَاحِ، فَبَيَانُهُ بَيَانُ مَا تَقَعُ بِهِ الْفُرْقَةُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، وَلِوُقُوعِ الْفُرْقَةِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ أَسْبَابٌ لَكِنَّ الْوَاقِعَ بِبَعْضِهَا فُرْقَةٌ بِطَلَاقٍ، وَبَعْضُهَا فُرْقَةٌ بِغَيْرِ طَلَاقٍ، وَفِي بَعْضِهَا يَقَعُ فُرْقَةٌ بِغَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي، وَفِي بَعْضِهَا لَا يَقَعُ إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي، فَنَذْكُرُ جُمْلَةَ ذَلِكَ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْهَا.
الطَّلَاقُ بِصَرِيحِهِ، وَكِنَايَاتِهِ، وَلَهُ كِتَابٌ مُفْرَدٌ، وَمِنْهَا اللِّعَانُ وَلَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ إلَّا بِتَفْرِيقِ الْقَاضِي عِنْدَ أَصْحَابِنَا.
وَكَذَا فِي كَيْفِيَّةِ هَذِهِ الْفُرْقَةِ خِلَافٌ بَيْنَ أَصْحَابِنَا نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِ اللِّعَانِ، وَمِنْهَا اخْتِيَارُ الصَّغِيرِ أَوْ الصَّغِيرَةِ بَعْدَ الْبُلُوغِ فِي خِيَارِ الْبُلُوغِ، وَهَذِهِ الْفُرْقَةُ لَا تَقَعُ إلَّا بِتَفْرِيقِ الْقَاضِي بِخِلَافِ الْفُرْقَةِ بِاخْتِيَارِ الْمَرْأَةِ نَفْسِهَا فِي خِيَارِ الْعِتْقِ أَنَّهَا تَثْبُتُ بِنَفْسِ الِاخْتِيَارِ، وَقَدْ بَيَّنَّا وَجْهَ الْفَرْقِ فِيمَا تَقَدَّمَ، وَالْفُرْقَةُ فِي الْخِيَارَيْنِ جَمِيعًا تَكُونُ فُرْقَةً بِغَيْرِ طَلَاقٍ، بَلْ تَكُونُ فَسْخًا حَتَّى لَوْ كَانَ الزَّوْجُ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا، فَلَا مَهْرَ لَهَا أَمَّا فِي خِيَارِ الْعِتْقِ، فَلَا شَكَّ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ وَقَعَتْ بِسَبَبٍ وُجِدَ مِنْهَا، وَهُوَ اخْتِيَارُهَا نَفْسَهَا، وَاخْتِيَارُهَا نَفْسَهَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ طَلَاقًا؛ لِأَنَّهَا لَا تَمْلِكُ الطَّلَاقَ إلَّا إذَا مُلِكَتْ كَالْمُخَيَّرَةِ، فَكَانَ فَسْخًا، وَفَسْخُ الْعَقْدِ رَفْعُهُ مِنْ الْأَصْلِ، وَجَعْلُهُ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ.
وَلَوْ لَمْ يَكُنْ حَقِيقَةً لَمْ يَكُنْ لَهَا مَهْرٌ، فَكَذَا إذَا اُلْتُحِقَ بِالْعَدَمِ مِنْ الْأَصْلِ.
وَكَذَا فِي خِيَارِ الْبُلُوغِ إذَا كَانَ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ هُوَ الْمَرْأَةُ، فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا لِمَا قُلْنَا.
وَأَمَّا إذَا كَانَ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ هُوَ الْغُلَامُ، فَاخْتَارَ نَفْسَهُ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا، فَلَا مَهْرَ لَهَا أَيْضًا، وَهَذَا فِيهِ نَوْعُ إشْكَالٍ؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ جَاءَتْ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ، فَيَجِبُ أَنْ تَكُونَ فُرْقَةً بِطَلَاقٍ، وَيَتَعَلَّقُ بِهَا نِصْفُ الْمَهْرِ وَالِانْفِصَالُ أَنَّ الشَّرْعَ أَثْبَتَ لَهُ الْخِيَارَ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُفِيدًا.
وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ طَلَاقًا، وَوَجَبَ عَلَيْهِ الْمَهْرُ لَمْ يَكُنْ لِإِثْبَاتِ الْخِيَارِ مَعْنًى؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ الطَّلَاقَ، فَإِذًا لَا فَائِدَةَ فِي الْخِيَارِ إلَّا سُقُوطُ الْمَهْرِ.
وَإِنْ كَانَ قَدْ دَخَلَ بِهَا لَا يَسْقُطُ الْمَهْرُ؛ لِأَنَّ الْمَهْرَ قَدْ تَأَكَّدَ بِالدُّخُولِ، فَلَا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ بِالْفُرْقَةِ، كَمَا لَا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ بِالْمَوْتِ؛ وَلِأَنَّ الدُّخُولَ اسْتِيفَاءُ مَنَافِعِ الْبُضْعِ، وَأَنَّهُ أَمْرٌ خَفِيٌّ، فَلَا يَحْتَمِلُ الِارْتِفَاعَ مِنْ الْأَصْلِ بِالْفَسْخِ بِخِلَافِ الْعَقْدِ، فَإِنَّهُ أَمْرٌ شَرْعِيٌّ، فَكَانَ مُحْتَمِلًا لِلْفَسْخِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ فُسِخَ النِّكَاحُ بَعْدَ الدُّخُولِ لَوَجَبَ عَلَيْهِ رَدُّ الْمَنَافِعِ الْمُسْتَوْفَاةِ؛ لِأَنَّهُ عَادَ الْبَدَلُ إلَيْهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَعُودَ الْمُبْدَلُ إلَيْهَا، وَهُوَ لَا يَقْدِرُ عَلَى رَدِّهَا، فَلَا يُفْسَخُ، وَإِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى رَدِّهَا يَغْرَمُ قِيمَتَهَا، وَقِيمَتُهَا هُوَ الْمَهْرُ الْمُسَمَّى، فَلَا يُفِيدُ؛ وَلِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَوْفَى الْمَنَافِعَ، فَقَدْ اسْتَوْفَى الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ، وَهُوَ الْمُبْدَلُ، فَلَا يَسْقُطُ الْبَدَلُ.
وَمِنْهَا اخْتِيَارُ الْمَرْأَةِ نَفْسَهَا لِعَيْبِ الْجَبِّ، وَالْعُنَّةِ وَالْخِصَاءِ وَالْخُنُوثَةِ، وَالتَّأَخُّذِ بِتَفْرِيقِ الْقَاضِي أَوْ بِنَفْسِ الِاخْتِيَارِ، عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَأَنَّهُ فُرْقَةُ بُطْلَانٍ؛ لِأَنَّ سَبَبَ ثُبُوتِهَا حَصَلَ مِنْ الزَّوْجِ، وَهُوَ الْمَنْعُ مِنْ إيفَاءِ حَقِّهَا الْمُسْتَحَقِّ بِالنِّكَاحِ، وَأَنَّهُ ظُلْمٌ وَضَرَرٌ فِي حَقِّهَا إلَّا أَنَّ الْقَاضِيَ قَامَ مَقَامَهُ فِي دَفْعِ الظُّلْمِ، وَالْأَصْلُ أَنَّ الْفُرْقَةَ إذَا حَصَلَتْ بِسَبَبٍ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ مُخْتَصٍّ بِالنِّكَاحِ أَنْ تَكُونَ فُرْقَةَ بُطْلَانٍ حَتَّى لَوْ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا، وَقَبْلَ الْخَلْوَةِ، فَلَهَا نِصْفُ الْمُسَمَّى إنْ كَانَ فِي النِّكَاحِ تَسْمِيَةٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ تَسْمِيَةٌ، فَلَهَا الْمُتْعَةُ.
وَمِنْهَا التَّفْرِيقُ لِعَدَمِ الْكَفَاءَةِ أَوْ لِنُقْصَانِ الْمَهْرِ، وَالْفُرْقَةُ بِهِ فُرْقَةٌ بِغَيْرِ طَلَاقٍ؛ لِأَنَّهَا فُرْقَةٌ حَصَلَتْ لَا مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ ذَلِكَ طَلَاقًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِغَيْرِ الزَّوْجِ وِلَايَةُ الطَّلَاقِ، فَيُجْعَلُ فَسْخًا، وَلَا تَكُونُ هَذِهِ الْفُرْقَةُ إلَّا عِنْدَ الْقَاضِي لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْفُرْقَةِ بِخِيَارِ الْبُلُوغِ.
وَمِنْهَا إبَاءُ الزَّوْجِ الْإِسْلَامَ بَعْدَ مَا أَسْلَمَتْ زَوْجَتُهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَمِنْهَا إبَاءُ الزَّوْجَةِ الْإِسْلَامَ بَعْدَ مَا أَسْلَمَ زَوْجُهَا الْمُشْرِكُ أَوْ الْمَجُوسِيُّ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ.
وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الزَّوْجَيْنِ الْكَافِرَيْنِ إذَا أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، فَإِنْ كَانَا كِتَابِيَّيْنِ، فَأَسْلَمَ الزَّوْجُ، فَالنِّكَاحُ بِحَالِهِ؛ لِأَنَّ الْكِتَابِيَّةَ مَحَلٌّ لِنِكَاحِ الْمُسْلِمِ ابْتِدَاءً، فَكَذَا بَقَاءً، وَإِنْ أَسْلَمَتْ الْمَرْأَةُ لَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ بِنَفْسِ الْإِسْلَامِ عِنْدَنَا، وَلَكِنْ يُعْرَضُ الْإِسْلَامُ عَلَى زَوْجِهَا، فَإِنْ أَسْلَمَ بَقِيَا عَلَى النِّكَاحِ، وَإِنْ أَبَى الْإِسْلَامَ، فَرَّقَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْمُسْلِمَةُ تَحْتَ نِكَاحِ الْكَافِرِ، وَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ نِكَاحُ الْكَافِرِ الْمُسْلِمَةَ ابْتِدَاءً، فَكَذَا فِي الْبَقَاءِ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَا مُشْرِكَيْنِ أَوْ مَجُوسِيَّيْنِ، فَأَسْلَمَ أَحَدُهُمَا أَيُّهُمَا كَانَ يَعْرِضُ الْإِسْلَامَ عَلَى الْآخَرِ، وَلَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ بِنَفْسِ الْإِسْلَامِ عِنْدَنَا، فَإِنْ أَسْلَمَ؛ فَهُمَا عَلَى النِّكَاحِ، وَإِنْ أَبَى الْإِسْلَامَ؛ فَرَّقَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ الْمُشْرِكَةَ لَا تَصْلُحُ لِنِكَاحِ الْمُسْلِمِ غَيْرَ أَنَّ الْإِبَاءَ إنْ كَانَ مِنْ الْمَرْأَةِ يَكُونُ فُرْقَةً بِغَيْرِ طَلَاقٍ؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ جَاءَتْ مِنْ قِبَلِهَا، وَهُوَ الْإِبَاءُ مِنْ الْإِسْلَامِ، وَالْفُرْقَةُ مِنْ قِبَلِ الْمَرْأَةِ لَا تَصْلُحُ طَلَاقًا؛ لِأَنَّهَا لَا تَلِي الطَّلَاقَ، فَيُجْعَلُ فَسْخًا، وَإِنْ كَانَ الْإِبَاءُ مِنْ الزَّوْجِ يَكُونُ فُرْقَةً بِطَلَاقٍ