يَلْزَمُهُ؛ لِأَنَّ الْمَنْدُوبَ إلَيْهِ أَيْضًا لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ الْمُتَّقِي، وَالْمُحْسِنُ، وَغَيْرُهُمَا، ثُمَّ نَقُولُ: الْإِيجَابُ عَلَى الْمُحْسِنِ، وَالْمُتَّقِي لَا يَنْفِي الْإِيجَابَ عَلَى غَيْرِهِمَا أَلَا تَرَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّ الْقُرْآنَ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ، ثُمَّ لَمْ يَنْفِ أَنْ يَكُونَ هُدًى لِلنَّاسِ كُلِّهِمْ كَذَا هَذَا، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمُتْعَةَ هَهُنَا وَاجِبَةٌ أَنَّهَا بَدَلُ الْوَاجِبِ، وَهُوَ نِصْفُ مَهْرِ الْمِثْلِ، وَبَدَلُ الْوَاجِبِ وَاجِبٌ؛ لِأَنَّهُ يَقُومُ مَقَامَ الْوَاجِبِ، وَيَحْكِي حِكَايَتَهُ أَلَا تَرَى أَنَّ التَّيَمُّمَ لَمَّا كَانَ بَدَلًا عَنْ الْوُضُوءِ، وَالْوُضُوءُ وَاجِبٌ كَانَ التَّيَمُّمُ وَاجِبًا، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمُتْعَةَ تَجِبُ بَدَلًا عَنْ نِصْفِ الْمَهْرِ، أَنَّ بَدَلَ الشَّيْءِ مَا يَجِبُ بِسَبَبِ الْأَصْلِ عِنْدَ عَدَمِهِ كَالتَّيَمُّمِ مَعَ الْوُضُوءِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَالْمُتْعَةُ بِالسَّبَبِ الَّذِي يَجِبُ بِهِ مَهْرُ الْمِثْلِ، وَهُوَ النِّكَاحُ لَا الطَّلَاقُ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ مُسْقِطٌ لِلْحُقُوقِ لَا مُوجِبٌ لَهَا لَكِنْ عِنْدَ الطَّلَاقِ يَسْقُطُ نِصْفُ مَهْرِ الْمِثْلِ، فَتَجِبُ الْمُتْعَةُ بَدَلًا عَنْ نِصْفِهِ، وَهَذَا طَرِيقُ مُحَمَّدٍ، فَإِنَّ الرَّهْنَ بِمَهْرِ الْمِثْلِ يَكُونُ رَهْنًا بِالْمُتْعَةِ عِنْدَهُ حَتَّى إذَا هَلَكَ تَهْلَكُ الْمُتْعَةُ.
وَأَمَّا أَبُو يُوسُفَ: فَإِنَّهُ لَا يَجْعَلُهُ رَهْنًا بِهَا حَتَّى إذَا هَلَكَ الرَّهْنُ يَهْلَكُ بِغَيْرِ شَيْءٍ، وَالْمُتْعَةُ بَاقِيَةٌ عَلَيْهِ، فَلَا يَكُونُ وُجُوبُهَا بِطَرِيقِ الْبَدَلِ عِنْدَهُ بَلْ يُوجِبُهَا ابْتِدَاءً بِظَوَاهِرِ النُّصُوصِ الَّتِي ذَكَرْنَا أَوْ يُوجِبُهَا بَدَلًا عَنْ الْبُضْعِ بِالِاسْتِدْلَالِ بِنِصْفِ الْمُسَمَّى فِي نِكَاحٍ فِيهِ تَسْمِيَةٌ، وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الدُّخُولِ فِي نِكَاحٍ لَمْ يُسَمَّ فِيهِ الْمَهْرُ، وَإِنَّمَا فُرِضَ بَعْدَهُ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٍ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَخِيرُ، وَكَانَ يَقُولُ: أَوَّلًا يَجِبُ نِصْفُ الْمَفْرُوضَ كَمَا إذَا كَانَ الْمَهْرُ مَفْرُوضًا فِي الْعَقْدِ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] أَوْجَبَ تَعَالَى نِصْفَ الْمَفْرُوضَ فِي الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ مَا إذَا كَانَ الْفَرْضُ فِي الْعَقْدِ أَوْ بَعْدَهُ؛ وَلِأَنَّ الْفَرْضَ بَعْدَ الْعَقْدِ كَالْفَرْضِ فِي الْعَقْدِ.
ثُمَّ الْمَفْرُوضُ فِي الْعَقْدِ يَتَنَصَّفُ، فَكَذَا الْمَفْرُوضُ بَعْدَهُ، وَلَهُمَا قَوْله تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ} [الأحزاب: 49] أَوْجَبَ الْمُتْعَةَ فِي الْمُطَلَّقَاتِ قَبْلَ الدُّخُولِ عَامًّا، ثُمَّ خُصَّتْ مِنْهُ الْمُطَلَّقَةُ قَبْلَ الدُّخُولِ فِي نِكَاحٍ فِيهِ تَسْمِيَةٌ عِنْدَ وُجُودِهِ، فَبَقِيَتْ الْمُطَلَّقَةُ قَبْلَ الدُّخُولِ فِي نِكَاحٍ لَا تَسْمِيَةَ فِيهِ عِنْدَ وُجُودِهِ عَلَى أَصْلِ الْعُمُومِ، وقَوْله تَعَالَى {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ} [البقرة: 236] أَيْ: وَلَمْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ، وَهُوَ مُنْصَرِفٌ إلَى الْفَرْضِ فِي الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ الْخِطَابَ يَنْصَرِفُ إلَى الْمُتَعَارَفِ، وَالْمُتَعَارَفُ هُوَ الْفَرْضُ فِي الْعَقْدِ لَا مُتَأَخِّرًا عَنْهُ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْفَرْضَ الْمَذْكُورَ فِي قَوْله تَعَالَى {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة: 237] مُنْصَرِفٌ إلَى الْمَفْرُوضِ فِي الْعَقْدِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُتَعَارَفُ، وَبِهِ نَقُولُ إنَّ الْمَفْرُوضَ فِي الْعَقْدِ يَتَنَصَّفُ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ؛ وَلِأَنَّ مَهْرَ الْمِثْلِ قَدْ وَجَبَ بِنَفْسِ الْعَقْدِ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ، فَكَانَ الْفَرْضُ بَعْدَهُ تَقْدِيرًا لِمَا وَجَبَ بِالْعَقْدِ، وَهُوَ مَهْرُ الْمِثْلِ، وَمَهْرُ الْمِثْلِ يَسْقُطُ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَتَجِبُ الْمُتْعَةُ، فَكَذَا مَا هُوَ بَيَانٌ وَتَقْدِيرٌ لَهُ إذْ هُوَ تَقْدِيرٌ لِذَلِكَ الْوَاجِبِ.
وَكَذَا الْفُرْقَةُ بِالْإِيلَاءِ، وَاللِّعَانِ، وَالْجَبِّ، وَالْعُنَّةِ، فَكُلُّ فُرْقَةٍ جَاءَتْ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ قَبْلَ الدُّخُولِ فِي نِكَاحٍ لَا تَسْمِيَةَ فِيهِ، فَتُوجِبُ الْمُتْعَةَ؛ لِأَنَّهَا تُوجِبُ نِصْفَ الْمُسَمَّى فِي نِكَاحٍ فِيهِ تَسْمِيَةٌ، وَالْمُتْعَةُ عِوَضٌ عَنْهُ كَرِدَّةِ الزَّوْجِ، وَإِبَايَةِ الْإِسْلَامِ، وَكُلُّ فُرْقَةٍ جَاءَتْ مِنْ قِبَلِ الْمَرْأَةِ، فَلَا مُتْعَةَ لَهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ بِهَا الْمَهْرُ أَصْلًا، فَلَا تَجِبُ بِهَا الْمُتْعَةُ.
وَالْمُخَيَّرَةُ إذَا اخْتَارَتْ نَفْسَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ فِي نِكَاحٍ لَا تَسْمِيَةَ فِيهِ، فَلَهَا الْمُتْعَةُ؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةُ جَاءَتْ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّ الْبَيْنُونَةَ مُضَافَةٌ إلَى الْإِبَانَةِ السَّابِقَةِ، وَهِيَ فِعْلُ الزَّوْجِ.
(وَأَمَّا) الَّذِي تُسْتَحَبُّ فِيهِ الْمُتْعَةُ، فَهُوَ الطَّلَاقُ بَعْدَ الدُّخُولِ، وَالطَّلَاقُ قَبْلَ الدُّخُولِ فِي نِكَاحٍ فِيهِ تَسْمِيَةٌ، وَهَذَا عِنْدَنَا.
وَقَالَ: الشَّافِعِيُّ الْمُتْعَةُ فِي الطَّلَاقِ بَعْدَ الدُّخُولِ وَاجِبَةٌ، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 241] جَعَلَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعًا فَاللَّامُ الْمِلْكِ عَامًّا إلَّا أَنَّهُ خُصِّصَتْ مِنْهُ الْمُطَلَّقَةُ قَبْلَ الدُّخُولِ فِي نِكَاحٍ فِيهِ تَسْمِيَةٌ، فَبَقِيَتْ الْمُطَلَّقَةُ قَبْلَ الدُّخُولِ فِي نِكَاحٍ لَا تَسْمِيَةَ فِيهِ، وَالْمُطَلَّقَةُ بَعْدَ الدُّخُولِ عَلَى ظَاهِرِ الْعُمُومِ، وَلَنَا مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُتْعَةَ وَجَبَتْ بِالنِّكَاحِ بَدَلًا عَنْ الْبُضْعِ إمَّا بَدَلًا عَنْ نِصْفِ الْمَهْرِ أَوْ ابْتِدَاءً، فَإِذَا اسْتَحَقَّتْ الْمُسَمَّى أَوْ مَهْرَ الْمِثْلِ بَعْدَ الدُّخُولِ، فَلَوْ وَجَبَتْ الْمُتْعَةُ؛ لَأَدَّى إلَى أَنْ يَكُونَ لِمِلْكٍ وَاحِدٍ بَدَلَانِ وَإِلَى الْجَمْعِ بَيْنَ الْبَدَلِ، وَالْأَصْلِ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهَذَا مُمْتَنِعٌ؛ وَلِأَنَّ الْمُطَلَّقَةَ قَبْلَ الدُّخُولِ فِي نِكَاحٍ فِيهِ تَسْمِيَةٌ لَا تَجِبُ لَهَا الْمُتْعَةُ بِالْإِجْمَاعِ، فَالْمُطَلَّقَةُ بَعْدَ الدُّخُولِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْأُولَى تَسْتَحِقُّ بَعْضَ الْمَهْرِ