أَحَدُهُمَا أَنَّ النِّكَاحَ كَانَ مَوْقُوفًا عَلَى إذْنِ الْمَالِكِ كَنِكَاحِ الْفُضُولِيِّ، وَالْعَقْدُ الْمَوْقُوفُ إذَا اتَّصَلَتْ بِهِ الْإِجَازَةُ تَسْتَنِدُ الْإِجَازَةُ إلَى وَقْتِ الْعَقْدِ، وَإِذَا اسْتَنَدَتْ الْإِجَازَةُ إلَيْهِ صَارَ كَأَنَّهُ عَقَدَهُ بِإِذْنِهِ، إذْ الْإِجَازَةُ اللَّاحِقَةُ كَالْإِذْنِ السَّابِقِ فَلَا يَجِبُ إلَّا مَهْرٌ وَاحِدٌ.
وَالثَّانِي: أَنَّ مَهْرَ الْمِثْلِ لَوْ وَجَبَ لَكَانَ لِوُجُودِهِ تَعَلُّقًا بِالْعَقْدِ؛ لِأَنَّهُ لَوْلَاهُ لَكَانَ الْفِعْلُ زِنًا، وَلَكَانَ الْوَاجِبُ هُوَ الْحَدُّ لَا الْمَهْرُ، وَقَدْ وَجَبَ الْمُسَمَّى بِالْعَقْدِ فَلَوْ وَجَبَ بِهِ مَهْرُ الْمِثْلِ أَيْضًا لَوَجَبَ بِعَقْدٍ وَاحِدٍ مَهْرَانِ وَأَنَّهُ مُمْتَنِعٌ ثُمَّ كُلُّ مَا وَجَبَ مِنْ مَهْرِ الْأَمَةِ فَهُوَ لِلْمَوْلَى، سَوَاءً وَجَبَ بِالْعَقْدِ أَوْ بِالدُّخُولِ، وَسَوَاءً كَانَ الْمَهْرُ مُسَمًّى أَوْ مَهْرَ الْمِثْلِ، وَسَوَاءً كَانَتْ الْأَمَةُ قِنَّةً أَوْ مُدَبَّرَةً أَوْ أُمَّ وَلَدٍ، إلَّا الْمُكَاتَبَةَ وَالْمُعْتَقَ بَعْضُهَا، فَإِنَّ الْمَهْرَ لَهُمَا؛ لِأَنَّ الْمَهْرَ وَجَبَ عِوَضًا عَنْ الْمُتْعَةِ وَهِيَ مَنَافِعُ الْبُضْعِ، ثُمَّ إنْ كَانَتْ مَنَافِعُ الْبُضْعِ مُلْحَقَةً بِالْأَجْزَاءِ وَالْأَعْيَانِ فَعِوَضُهَا يَكُونُ لِلْمَوْلَى كَالْأَرْشِ، وَإِنْ كَانَتْ مُبْقَاةً عَلَى حَقِيقَةِ الْمَنْفَعَةِ فَبَدَلُهَا يَكُونُ لِلْمَوْلَى أَيْضًا كَالْأُجْرَةِ، بِخِلَافِ الْمُكَاتَبَةِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ الْأَرْشُ وَالْأُجْرَةُ لَهَا، فَكَانَ الْمَهْرُ لَهَا أَيْضًا، وَكُلُّ مَهْرٍ لَزِمَ الْعَبْدَ، فَإِنْ كَانَ قِنًّا وَالنِّكَاحُ بِإِذْنِ الْمَوْلَى يَتَعَلَّقُ بِكَسْبِهِ، وَرَقَبَتُهُ تُبَاعُ فِيهِ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ كَسْبٌ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ ثَابِتٌ فِي حَقِّ الْعَبْدِ ظَاهِرٌ فِي حَقِّ الْمَوْلَى.
وَمِثْلُ هَذَا الدَّيْنِ يَتَعَلَّقُ بِرَقَبَةِ الْعَبْدِ عَلَى أَصْلِ أَصْحَابِنَا، وَالْمَسْأَلَةُ سَتَأْتِي فِي كِتَابِ الْمَأْذُونِ وَإِنْ كَانَ مُدَبَّرًا أَوْ مُكَاتَبًا فَإِنَّهُمَا يَسْعَيَانِ فِي الْمَهْرِ فَيُسْتَوْفَى مِنْ كَسْبِهِمَا لِتَعَذُّرِ الِاسْتِيفَاءِ مِنْ رَقَبَتِهِمَا بِخُرُوجِهِمَا عَنْ احْتِمَالِ الْبَيْعِ بِالتَّدْبِيرِ وَالْكِتَابَةِ.
وَمَا لَزِمَ الْعَبِيدَ مِنْ ذَلِكَ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَوْلَى اُتُّبِعُوا بِهِ بَعْدَ الْعِتْقِ؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ تَعَلَّقَ بِسَبَبٍ لَمْ يَظْهَرْ فِي حَقِّ الْمَوْلَى، فَأَشْبَهَ الدَّيْنَ الثَّابِتَ بِإِقْرَارِ الْعَبْدِ الْمَحْجُورِ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ لِلْحَالِ وَيُتْبَعُ بِهِ بَعْدَ الْعَتَاقِ لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ -.
وَمِنْهَا الْوِلَايَةُ فِي النِّكَاحِ فَلَا يَنْعَقِدُ إنْكَاحُ مَنْ لَا وِلَايَةَ لَهُ، وَالْكَلَامُ فِي هَذَا الشَّرْطِ يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ أَنْوَاعِ الْوِلَايَةِ، وَفِي بَيَانِهِ سَبَبَ ثُبُوتِ كُلِّ نَوْعٍ، وَفِي بَيَانِ شَرْطِ ثُبُوتِ كُلِّ نَوْعٍ وَمَا يَتَّصِلُ بِهِ أَمَّا الْأَوَّلُ: فَالْوِلَايَةُ فِي بَابِ النِّكَاحِ أَنْوَاعٌ أَرْبَعَةٌ: وِلَايَةُ الْمِلْكِ، وَوِلَايَةُ الْقَرَابَةِ، وَوِلَايَةُ الْوَلَاءِ، وَوِلَايَةُ الْإِمَامَةِ، أَمَّا.
وِلَايَةٌ الْمِلْكِ: فَسَبَبُ ثُبُوتِهَا الْمِلْكُ؛ لِأَنَّ وِلَايَةَ الْإِنْكَاحِ وِلَايَةُ نَظَرٍ، وَالْمِلْكُ دَاعٍ إلَى الشَّفَقَةِ وَالنَّظَرِ فِي حَقِّ الْمَمْلُوكِ؛ فَكَانَ سَبَبًا لِثُبُوتِ الْوِلَايَةِ، وَلَا وِلَايَةَ لِلْمَمْلُوكِ لِعَدَمِ الْمِلْكِ لَهُ؛ إذْ هُوَ مَمْلُوكٌ فِي نَفْسِهِ فَلَا يَكُونُ مَالِكًا.
وَأَمَّا شَرَائِطُ ثُبُوتِ هَذِهِ الْوِلَايَةِ فَمِنْهَا: عَقْلُ الْمَالِكِ، وَمِنْهَا بُلُوغُهُ، فَلَا يَجُوزُ الْإِنْكَاحُ مِنْ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ الَّذِي لَا يَعْقِلُ وَلَا مِنْ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَةِ؛ لِأَنَّ أَهْلِيَّةَ الْوِلَايَةِ بِالْقُدْرَةِ عَلَى تَحْصِيلِ النَّظَرِ فِي حَقِّ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ، وَذَلِكَ بِكَمَالِ الرَّأْيِ وَالْعَقْلِ وَلَمْ يُوجَدْ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ فَكَيْفَ يَكُونُ عَلَى غَيْرِهِمْ؟ ؛ وَمِنْهَا الْمِلْكُ الْمُطْلَقُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ مَمْلُوكًا لِلْمَالِكِ رَقَبَةً وَيَدًا، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ إنْكَاحُ الرَّجُلِ أَمَتَهُ، أَوْ مُدَبَّرَتَهُ، أَوْ أُمَّ وَلَدِهِ، أَوْ عَبْدَهُ، أَوْ مُدَبَّرَهُ أَنَّهُ جَائِزٌ سَوَاءً رَضِيَ بِهِ الْمَمْلُوكُ أَوْ لَا، وَلَا يَجُوزُ إنْكَاحُ الْمُكَاتَبِ وَالْمُكَاتَبَةِ إلَّا بِرِضَاهُمَا أَمَّا إنْكَاحُ الْأَمَةِ وَالْمُدَبَّرَةِ وَأُمِّ الْوَلَدِ فَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِهِ، صَغِيرَةً كَانَتْ أَوْ كَبِيرَةً.
وَأَمَّا إنْكَاحُ الْعَبْدِ فَإِنْ كَانَ صَغِيرًا يَجُوزُ، وَإِنْ كَانَ كَبِيرًا فَقَدْ ذُكِرَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ يَجُوزُ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إلَّا بِرِضَاهُ.
وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ.
(وَجْهُ) هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ مَنَافِعَ بُضْعِ الْعَبْدِ لَمْ تَدْخُلْ تَحْتَ مِلْكِ الْمَوْلَى بَلْ هُوَ أَجْنَبِيٌّ عَنْهَا، وَالْإِنْسَانُ لَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ، وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ إنْكَاحَ الْمُكَاتَبِ وَالْمُكَاتَبَةِ، بِخِلَافِ الْأَمَةِ؛ لِأَنَّ مَنَافِعَ بُضْعِهَا مَمْلُوكَةً لِلْمَوْلَى وَلِأَنَّ نِكَاحَ الْمُكْرَهِ لَا يَنْفُذُ مَا وُضِعَ لَهُ مِنْ الْمَقَاصِدِ الْمَطْلُوبَةِ مِنْهُ؛ لِأَنَّ حُصُولَهَا بِالدَّوَامِ عَلَى النِّكَاحِ، وَالْقَرَارِ عَلَيْهِ.
وَنِكَاحُ الْمُكْرَهِ لَا يَدُومُ بَلْ يُزِيلُهُ الْعَبْدُ بِالطَّلَاقِ فَلَا يُفِيدُ فَائِدَةً.
(وَجْهُ) ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ قَوْله تَعَالَى {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور: 32] أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْمَوَالِيَ بِإِنْكَاحِ الْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ مُطْلَقًا عَنْ شَرْطِ الرِّضَا، فَمَنْ شَرَطَهُ يَحْتَاجُ إلَى الدَّلِيلِ؛ وَلِأَنَّ إنْكَاحَ الْمَمْلُوكِ مِنْ الْمَوْلَى تَصَرُّفٌ لِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّ مَقَاصِدَ النِّكَاحِ تَرْجِعُ إلَيْهِ؛ فَإِنَّ الْوَلَدَ فِي إنْكَاحِ الْأَمَةِ لَهُ وَكَذَا فِي إنْكَاحِ أَمَتِهِ مِنْ عَبْدِهِ، وَمَنْفَعَةَ الْعَقْدِ عَنْ الزِّنَا الَّذِي يُوجِبُ نُقْصَانَ مَالِيَّةِ مَمْلُوكِهِ حَصَلَ لَهُ أَيْضًا، فَكَانَ هَذَا الْإِنْكَاحُ تَصَرُّفًا لِنَفْسِهِ.
وَمَنْ تَصَرَّفَ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ لِنَفْسِهِ يَنْفُذُ،