أَمَّا الْأَوَّلُ: فَلَا يَجُوزُ نِكَاحُ مَمْلُوكٍ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُ وَإِنْ كَانَ عَاقِلًا، بَالِغًا، سَوَاءً كَانَ قِنًّا أَوْ مُدَبَّرًا، أَوْ مُدَبَّرَةٍ أَوْ أُمَّ وَلَدٍ، أَوْ مُكَاتَبَةً، أَوْ مُكَاتَبًا أَمَّا الْقِنُّ، فَإِنْ كَانَ أَمَةً فَلَا يَجُوزُ نِكَاحُهَا بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهَا بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّ مَنَافِعَ الْبُضْعِ مَمْلُوكَةٌ لِسَيِّدِهَا، وَلَا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ، وَكَذَلِكَ الْمُدَبَّرَةُ وَأُمُّ الْوَلَدِ لِمَا قُلْنَا.

وَكَذَا الْمُكَاتَبَةُ لِأَنَّهَا مِلْكُ الْمَوْلَى رَقَبَةً، وَمِلْكُ الْمُتْعَةِ يَتْبَعُ مِلْكَ الرَّقَبَةِ، إلَّا أَنَّهُ مُنِعَ مِنْ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا لِزَوَالِ مِلْكِ الْيَدِ، وَفِي الِاسْتِمْتَاعِ إثْبَاتُ مِلْكِ الْيَدِ، وَلِأَنَّ مِنْ الْجَائِزِ أَنَّهَا تَعْجِزُ فَتُرَدُّ إلَى الرِّقِّ فَتَعُودُ قِنَّةً كَمَا كَانَتْ فَتَبَيَّنَ أَنَّ نِكَاحَهَا صَادَفَ الْمَوْلَى فَلَا يَصِحُّ، وَإِنْ كَانَ عَبْدًا فَلَا يَجُوزُ نِكَاحُهُ أَيْضًا عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ.

وَقَالَ مَالِكٌ: يَجُوزُ.

(وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ مَنَافِعَ بُضْعِ الْعَبْدِ لَا تَدْخُلُ تَحْتَ مِلْكِ الْمَوْلَى فَكَانَ الْمَوْلَى فِيهَا عَلَى أَصْلِ الْحُرِّيَّةِ، وَالْمَوْلَى أَجْنَبِيٌّ عَنْهَا، فَيَمْلِكُ النِّكَاحَ كَالْحُرِّ بِخِلَافِ الْأَمَةِ؛ لِأَنَّ مَنَافِعَ بُضْعِهَا مِلْكُ الْمَوْلَى فَمُنِعَتْ مِنْ التَّصَرُّفِ بِغَيْرِ إذْنِهِ، وَلَنَا أَنَّ الْعَبْدَ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ مِلْكُ الْمَوْلَى لِقَوْلِهِ تَعَالَى {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ} [الروم: 28] أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّ الْعَبِيدَ لَيْسُوا شُرَكَاءَ فِيمَا رُزِقَ السَّادَاتُ، وَلَا هُمْ بِسَوَاءٍ فِي ذَلِكَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ مَا أَرَادَ بِهِ نَفْيَ الشَّرِكَةِ فِي الْمَنَافِعِ؛ لِاشْتِرَاكِهِمْ فِيهَا دَلَّ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ حَقِيقَةَ الْمِلْكِ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا عَبْدًا مَمْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} [النحل: 75] وَالْعَبْدُ اسْمٌ لِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ، وَلِأَنَّ سَبَبَ الْمِلْكِ أُضِيفَ إلَى كُلِّهِ فَيَثْبُتُ الْمِلْكُ فِي كُلِّهِ إلَّا أَنَّهُ مُنِعَ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِبَعْضِ أَجْزَائِهِ بِنَفْسِهِ، وَهَذَا لَا يَمْنَعُ ثُبُوتَ الْمِلْكِ لَهُ كَالْأَمَةِ الْمَجُوسِيَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ الْمَأْذُونُ فِي التِّجَارَةِ؛ لِأَنَّهُ عَبْدٌ مَمْلُوكٌ، وَلِأَنَّهُ كَانَ مَحْجُورًا قَبْلَ الْإِذْنِ بِالتِّجَارَةِ وَالنِّكَاحُ لَيْسَ مِنْ التِّجَارَةِ لِأَنَّ التِّجَارَةَ مُعَاوَضَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ، وَالنِّكَاحُ مُعَاوَضَةُ الْبُضْعِ بِالْمَالِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا زَوَّجَتْ نَفْسَهَا عَلَى عَبْدٍ تَنْوِي أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ لِلتِّجَارَةِ لَمْ يَكُنْ لِلتِّجَارَةِ.

وَلَوْ كَانَ النِّكَاحُ مِنْ التِّجَارَةِ لَكَانَ بَدَلُ الْبُضْعِ لِلتِّجَارَةِ كَالْبَيْعِ، فَكَانَ هُوَ بِالنِّكَاحِ مُتَصَرِّفًا فِي مِلْكِ مَوْلَاهُ، فَلَا يَجُوزُ كَمَا لَا يَجُوزُ نِكَاحُ الْأَمَةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} [النحل: 75] وَصَفَ الْعَبْدَ الْمَمْلُوكَ بِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ إنَّمَا أَرَادَ بِهِ الْقُدْرَةَ الْحَقِيقِيَّةَ؛ لِأَنَّهَا ثَابِتَةٌ لَهُ فَتَعَيَّنَ الْقُدْرَةُ الشَّرْعِيَّةُ وَهِيَ إذْنُ الشَّرْعِ وَإِطْلَاقِهِ، فَكَانَ نَفْيُ الْقُدْرَةِ الشَّرْعِيَّةِ نَفْيًا لِلْإِذْنِ وَالْإِطْلَاقِ، وَلَا يَجُوزُ إثْبَاتُ التَّصَرُّفِ الشَّرْعِيِّ بِغَيْرِ إذْنِ الشَّرْعِ، وَكَذَلِكَ الْمُدَبَّرُ؛ لِأَنَّهُ عَبْدٌ مَمْلُوكٌ، وَكَذَلِكَ الْمُكَاتَبُ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِأَنَّهُ كَانَ مَحْجُورًا عَنْ التَّزَوُّجِ قَبْلَ الْكِتَابَةِ.

وَعِنْدَ الْكِتَابَةِ مَا أَفَادَ لَهُ إلَّا الْإِذْنَ بِالتِّجَارَةِ، وَالنِّكَاحُ لَيْسَ مِنْ التِّجَارَةِ؛ لِأَنَّ التِّجَارَةَ مُعَاوَضَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ وَالنِّكَاحُ مُعَاوَضَةُ الْبُضْعِ بِالْمَالِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا زَوَّجَتْ نَفْسَهَا عَلَى عَبْدٍ تَنْوِي أَنَّ الْعَبْدَ يَكُونُ لِلتِّجَارَةِ لَمْ يَكُنْ لِلتِّجَارَةِ.

وَلَوْ كَانَ النِّكَاحُ مِنْ التِّجَارَةِ لَكَانَ بَدَلُ الْبُضْعِ لِلتِّجَارَةِ كَالْبَيْعِ.

وَأَمَّا مُعْتَقُ الْبَعْضِ فَلَا يَجُوزُ نِكَاحُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ عِنْدَهُ.

وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَجُوزُ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ حُرٍّ عَلَيْهِ دَيْنٌ عِنْدَهُمَا.

وَلَوْ تَزَوَّجَ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَوْلَى وَاحِدٌ مِمَّنْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَزْوِيجُهُ إلَّا بِإِذْنِ الْمَوْلَى ثُمَّ إنْ أَجَازَ الْمَوْلَى النِّكَاحَ جَازَ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ صَدَرَ مِنْ الْأَهْلِ فِي الْمَحِلِّ، إلَّا أَنَّهُ امْتَنَعَ النَّفَاذُ لِحَقِّ الْمَوْلَى فَإِذَا أَجَازَ فَقَدْ زَالَ الْمَانِعُ، وَلَا يَجُوزُ لِلْعَبْدِ أَنْ يَتَسَرَّى وَإِنْ أَذِنَ لَهُ مَوْلَاهُ؛ لِأَنَّ حِلَّ الْوَطْءِ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِأَحَدِ الْمِلْكَيْنِ قَالَ اللَّه تَعَالَى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} [المؤمنون: 5] {إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون: 6] وَلَمْ يُوجَد أَحَدُهُمَا.

وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا يَتَسَرَّى الْعَبْدُ وَلَا يُسَرِّيه مَوْلَاهُ وَلَا يَمْلِكُ الْعَبْدُ وَلَا الْمُكَاتَبُ شَيْئًا إلَّا الطَّلَاقَ» وَهَذَا نَصٌّ.

وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَكُونُ إجَازَةً: فَالْإِجَازَةُ قَدْ ثَبَتَتْ بِالنَّصِّ وَقَدْ ثَبَتَتْ بِالدَّلَالَةِ وَقَدْ ثَبَتَتْ بِالضَّرُورَةِ، أَمَّا النَّصُّ: فَهُوَ الصَّرِيحُ بِالْإِجَازَةِ وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهَا نَحْوَ أَنْ يُقَوَّلَ: أَجَزْت، أَوْ رَضِيت، أَوْ أَذِنْت، وَنَحْوَ ذَلِكَ.

وَأَمَّا الدَّلَالَةُ: فَهِيَ قَوْلٌ أَوْ فِعْلٌ يَدُلُّ عَلَى الْإِجَازَةِ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ الْمَوْلَى إذَا أُخْبِرَ بِالنِّكَاحِ: حَسَنٌ، أَوْ صَوَابٌ، أَوْ لَا بَأْسَ بِهِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ، أَوْ يَسُوقُ إلَى الْمَرْأَةِ الْمَهْرَ أَوْ شَيْئًا مِنْهُ فِي نِكَاحِ الْعَبْدِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا.

وَلَوْ قَالَ لَهُ الْمَوْلَى: طَلِّقْهَا أَوْ فَارِقْهَا لَمْ يَكُنْ إجَازَةً؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ طَلِّقْهَا أَوْ فَارِقْهَا يَحْتَمِلُ حَقِيقَةَ الطَّلَاقِ وَالْمُفَارَقَةِ وَيَحْتَمِلُ الْمُتَارَكَةَ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ الْفَاسِدَ وَالنِّكَاحَ الْمَوْقُوفَ يُسَمَّى طَلَاقًا وَمُفَارَقَةً

طور بواسطة نورين ميديا © 2015