الْوَلِيِّ ضَرُورَةٌ لِأَنَّ النِّكَاحَ لَا يَنْعَقِدُ بِلَا وَلِيٍّ، فَإِذَا كَانَ الْوَلِيُّ مُتَعَيَّنًا فَلَوْ لَمْ يُجِزْ نِكَاحَ الْمُوَلِّيَةِ لَامْتَنَعَ نِكَاحُهَا أَصْلًا، وَهَذَا لَا يَجُوزُ، وَهَذِهِ الضَّرُورَةُ مُنْعَدِمَةٌ فِي الْوَكِيلِ وَنَحْوِهِ، وَلَنَا قَوْله تَعَالَى {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} [النساء: 127] قِيلَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي يَتِيمَةٍ فِي حِجْرِ وَلِيِّهَا، وَهِيَ ذَاتُ مَالٍ (وَوَجْهُ) الِاسْتِدْلَالِ بِالْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ قَوْله تَعَالَى {لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} [النساء: 127] خَرَجَ مَخْرَجَ الْعِتَابِ، فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَلِيَّ يَقُومُ بِنِكَاحِ وَلِيَّتِهِ وَحْدَهُ، إذْ لَوْ لَمْ يَقُمْ وَحْدَهُ بِهِ لَمْ يَكُنْ لِلْعِتَابِ مَعْنًى، لِمَا فِيهِ مِنْ إلْحَاقِ الْعِتَابِ بِأَمْرٍ لَا يَتَحَقَّقُ.
وقَوْله تَعَالَى {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور: 32] أَمَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِالْإِنْكَاحِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْإِنْكَاحِ مِنْ غَيْرِهِ أَوْ مِنْ نَفْسِهِ؛ وَلِأَنَّ الْوَكِيلَ فِي بَابِ النِّكَاحِ لَيْسَ بِعَاقِدٍ بَلْ هُوَ سَفِيرٌ عَنْ الْعَاقِدِ وَمُعَبِّرٌ عَنْهُ بِدَلِيلِ أَنَّ حُقُوقَ النِّكَاحِ وَالْعَقْدِ لَا تَرْجِعُ إلَى الْوَكِيلِ، وَإِذَا كَانَ مُعَبِّرًا عَنْهُ وَلَهُ وِلَايَةٌ عَلَى الزَّوْجَيْنِ؛ فَكَانَتْ عِبَارَتُهُ كَعِبَارَةِ الْمُوَكِّلِ؛ فَصَارَ كَلَامُهُ كَكَلَامِ شَخْصَيْنِ فَيُعْتَبَرُ إيجَابُهُ كَلَامًا لِلْمَرْأَةِ، كَأَنَّهَا قَالَتْ زَوَّجْت نَفْسِي مِنْ فُلَانٍ، وَقَبُولُهُ كَلَامًا لِلزَّوْجِ؛ كَأَنَّهُ قَالَ قَبِلْت فَيَقُومُ الْعَقْدُ بِاثْنَيْنِ حُكْمًا وَالثَّابِتُ بِالْحُكْمِ مُلْحَقٌ بِالثَّابِتِ حَقِيقَةً.
وَأَمَّا الْبَيْعُ فَالْوَاحِدُ فِيهِ إذَا كَانَ وَلِيًّا يَقُومُ بِطَرَفَيْ الْعَقْدِ، كَالْأَبِ يَشْتَرِي مَالَ الصَّغِيرِ لِنَفْسِهِ، أَوْ يَبِيعُ مَالَ نَفْسِهِ مِنْ الصَّغِيرِ، أَوْ يَبِيعُ مَالَ ابْنِهِ الصَّغِيرِ مِنْ ابْنِهِ الصَّغِيرِ، أَوْ يَشْتَرِي، إلَّا أَنَّهُ إذَا كَانَ وَكِيلًا لَا يَقُومُ بِهِمَا؛ لِأَنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ مُقْتَصِرَةٌ عَلَى الْعَاقِدِ، فَلَا يَصِيرُ كَلَامُ الْعَاقِدِ كَلَامَ الشَّخْصَيْنِ؛ وَلِأَنَّ حُقُوقَ الْبَيْعِ إذَا كَانَتْ مُقْتَصِرَةً عَلَى الْعَاقِدِ وَلِلْبَيْعِ أَحْكَامٌ مُتَضَادَّةٌ مِنْ التَّسْلِيمِ وَالْقَبْضِ وَالْمُطَالَبَةِ، فَلَوْ تَوَلَّى طَرَفَيْ الْعَقْدِ لَصَارَ الشَّخْصُ الْوَاحِدُ مُطَالِبًا وَمَطْلُوبًا وَمُسَلِّمًا وَمُتَسَلِّمًا وَهَذَا مُمْتَنِعٌ - وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ -.
(وَأَمَّا) .
صِفَةُ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ فَهِيَ: أَنْ لَا يَكُونَ أَحَدُهُمَا لَازِمًا قَبْلَ وُجُودِ الْآخَرِ، حَتَّى لَوْ وُجِدَ الْإِيجَابُ مِنْ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ قَبْلَ قَبُولِ الْآخَرِ، كَمَا فِي الْبَيْعِ؛ لِأَنَّهُمَا جَمِيعًا رُكْنٌ وَاحِدٌ، فَكَانَ أَحَدُهُمَا بَعْضَ الرُّكْنِ، وَالْمُرَكَّبُ مِنْ شَيْئَيْنِ لَا وُجُودَ لَهُ بِأَحَدِهِمَا.
(فَصْلٌ) :
وَأَمَّا شَرَائِطُ الرُّكْنِ فَأَنْوَاعٌ: بَعْضُهَا شَرْطُ الِانْعِقَادِ، وَبَعْضُهَا شَرْطُ الْجَوَازِ وَالنَّفَاذِ، وَبَعْضُهَا شَرْطُ اللُّزُومِ.
(أَمَّا) .
شَرْطُ الِانْعِقَادِ فَنَوْعَانِ:.
نَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى الْعَاقِدِ، وَنَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى مَكَانِ الْعَقْدِ بِالْفِعْلِ، فَلَا يَنْعَقِدُ نِكَاحُ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ الَّذِي لَا يَعْقِلُ؛ لِأَنَّ الْعَقْلَ مِنْ شَرَائِطِ أَهْلِيَّةِ التَّصَرُّفِ فَأَمَّا الْبُلُوغُ: فَشَرْطُ النَّفَاذِ عِنْدَنَا لَا شَرْطُ الِانْعِقَادِ عَلَى مَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَأَمَّا تَعَذُّرُ الْعَاقِدِ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِانْعِقَادِ النِّكَاحِ خِلَافًا لِزُفَرَ عَلَى مَا مَرَّ.
(وَأَمَّا) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى مَكَانِ الْعَقْدِ فَهُوَ اتِّحَادُ الْمَجْلِسِ إذَا كَانَ الْعَاقِدَانِ حَاضِرَيْنِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ حَتَّى لَوْ اخْتَلَفَ الْمَجْلِسُ لَا يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ، بِأَنْ كَانَا حَاضِرَيْنِ فَأَوْجَبَ أَحَدُهُمَا فَقَامَ الْآخَرُ عَنْ الْمَجْلِسِ قَبْلَ الْقَبُولِ، أَوْ اشْتَغَلَ بِعَمَلٍ يُوجِبُ اخْتِلَافَ الْمَجْلِسِ، لَا يَنْعَقِدُ؛ لِأَنَّ انْعِقَادَهُ عِبَارَةٌ عَنْ ارْتِبَاطِ أَحَدِ الشَّطْرَيْنِ بِالْآخَرِ، فَكَانَ الْقِيَاسُ وُجُودَهُمَا فِي مَكَان وَاحِدٍ، إلَّا أَنَّ اعْتِبَارَ ذَلِكَ يُؤَدِّي إلَى سَدِّ بَابِ الْعُقُودِ؛ فَجُعِلَ الْمَجْلِسُ جَامِعًا لِلشَّطْرَيْنِ حُكْمًا مَعَ تَفَرُّقِهِمَا حَقِيقَةً لِلضَّرُورَةِ، وَالضَّرُورَةُ تَنْدَفِعُ عِنْدَ اتِّحَادِ الْمَجْلِسِ، فَإِذَا اخْتَلَفَ تَفَرُّقُ الشَّطْرَيْنِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا فَلَا يَنْتَظِمُ الرُّكْنُ.
(وَأَمَّا) الْفَوْرُ فَلَيْسَ مِنْ شَرَائِطِ الِانْعِقَادِ عِنْدَنَا.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ: هُوَ شَرْطٌ وَالْمَسْأَلَةُ سَتَأْتِي فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ، وَنَذْكُرُ الْفَرْقَ هُنَاكَ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا تَنَاكَحَا وَهُمَا يَمْشِيَانِ أَوْ يَسِيرَانِ عَلَى الدَّابَّةِ وَهُوَ عَلَى التَّفْصِيلِ الَّذِي نَذْكُرُ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ، وَنَذْكُرُ الْفَرْقَ هُنَاكَ بَيْنَ الْمَشْيِ وَالسَّيْرِ عَلَى الدَّابَّةِ وَبَيْنَ جَرَيَانِ السَّفِينَةِ، هَذَا إذَا كَانَ الْعَاقِدَانِ حَاضِرَيْنِ فَأَمَّا إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا غَائِبًا؛ لَمْ يَنْعَقِدْ حَتَّى لَوْ قَالَتْ امْرَأَةٌ بِحَضْرَةِ شَاهِدَيْنِ: زَوَّجْت نَفْسِي مِنْ فُلَانٍ وَهُوَ غَائِبٌ فَبَلَغَهُ الْخَبَرُ فَقَالَ: قَبِلْت أَوْ قَالَ رَجُلٌ بِحَضْرَةِ شَاهِدَيْنِ: تَزَوَّجْت فُلَانَةَ وَهِيَ غَائِبَةٌ فَبَلَغَهَا الْخَبَرُ فَقَالَتْ: زَوَّجْت نَفْسِي مِنْهُ لَمْ يَجُزْ، وَإِنْ كَانَ الْقَبُولُ بِحَضْرَةِ ذَيْنك الشَّاهِدَيْنِ.
وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَنْعَقِدُ وَيَتَوَقَّفُ عَلَى إجَازَةِ الْغَائِبِ.
(وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ كَلَامَ الْوَاحِدِ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ عَقْدًا فِي