فَصْلٌ) وَيَتَّصِلُ بِهَذَا بَيَانُ مَا يَعُمُّ الْمُحْرِمَ وَالْحَلَالَ جَمِيعًا وَهُوَ.
مَحْظُورَاتُ الْحَرَمِ، فَنَذْكُرُهَا فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ مَحْظُورَاتُ الْحَرَمِ نَوْعَانِ: نَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى الصَّيْدِ، وَنَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى النَّبَاتِ.
أَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الصَّيْدِ فَهُوَ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ قَتْلُ صَيْدِ الْحَرَمِ لِلْمُحْرِمِ وَالْحَلَالِ جَمِيعًا إلَّا الْمُؤْذِيَاتِ الْمُبْتَدِئَةَ بِالْأَذَى غَالِبًا، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي صَيْدِ الْإِحْرَامِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا} [العنكبوت: 67] وقَوْله تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 95] وقَوْله تَعَالَى {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة: 96] وَهَذَا يَتَنَاوَلُ صَيْدَ الْإِحْرَامِ وَالْحَرَمِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ يُقَالُ أَحْرَمَ إذَا دَخَلَ فِي الْإِحْرَامِ، وَأَحْرَمَ إذَا دَخَلَ فِي الْحَرَمِ كَمَا يُقَالُ: أَنْجَدَ إذَا دَخَلَ نَجْدَ، وَاتَّهَمَ إذَا دَخَلَ تِهَامَةَ، وَأَعْرَقَ إذَا دَخَلَ الْعِرَاقَ وَأَحْرَمَ إذَا دَخَلَ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ فِي عُثْمَانَ: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -:
قُتِلَ ابْنُ عَفَّانَ الْخَلِيفَةُ مُحْرِمًا ... وَدَعَا فَلَمْ أَرَ مِثْلَهُ مَخْذُولًا
الْخَلِيفَةُ مُحْرِمًا، أَيْ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ.
وَاللَّفْظُ وَإِنْ كَانَ مُشْتَرَكًا لَكِنَّ الْمُشْتَرَكَ فِي مَحَلِّ النَّفْيِ يَعُمُّ؛ لِعَدَمِ التَّنَافِي إلَّا أَنَّ الدُّخُولَ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ لَيْسَ بِمُرَادٍ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ أَخْذَ الصَّيْدِ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ لَمْ يَكُنْ مَحْظُورًا ثُمَّ قَدْ نُسِخَتْ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ، فَبَقِيَ الدُّخُولُ فِي الْحَرَمِ وَالْإِحْرَامِ مُرَادًا بِالْآيَتَيْنِ إلَّا مَا خُصَّ بِدَلِيلٍ، وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَلَا إنَّ مَكَّةَ حَرَامٌ حَرَّمَهَا اللَّهُ تَعَالَى يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ لَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي وَلَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدِي، وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ ثُمَّ عَادَتْ حَرَامًا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا يُخْتَلَى خَلَاهَا وَلَا يُعْضَدُ شَجَرُهَا وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا» وَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: قَوْلُهُ (مَكَّةَ حَرَامٌ) وَالثَّانِي: قَوْلُهُ (حَرَّمَهَا اللَّهُ تَعَالَى) وَالثَّالِثُ: قَوْلُهُ (وَلَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدِي) وَالرَّابِعُ: قَوْلُهُ (ثُمَّ عَادَتْ حَرَامًا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) وَالْخَامِسُ: قَوْلُهُ (لَا يُخْتَلَى خَلَاهَا وَلَا يُعْضَدُ شَجَرُهَا وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا) فَإِنْ قَتَلَ صَيْدَ الْحَرَمِ فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ مُحْرِمًا كَانَ الْقَاتِلُ أَوْ حَلَالًا؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ} [المائدة: 95] وَجَزَاؤُهُ مَا هُوَ جَزَاءُ قَاتِلِ صَيْدِ الْإِحْرَامِ، وَهُوَ أَنْ تَجِبَ عَلَيْهِ قِيمَتُهُ فَإِنْ بَلَغَتْ هَدْيًا لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهَا هَدْيًا أَوْ طَعَامًا إلَّا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الصَّوْمُ هَكَذَا ذُكِرَ فِي الْأَصْلِ، وَهَكَذَا ذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرِ الطَّحَاوِيِّ أَنَّ حُكْمَهُ حُكْمَ صَيْدِ الْإِحْرَام إلَّا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِيهِ الصَّوْمُ وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرِ الْكَرْخِيِّ أَنَّ الْإِطْعَامَ يُجْزِئُ فِي صَيْدِ الْحَرَمِ، وَلَا يُجْزِئُ الصَّوْمُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ، وَعِنْدَ زُفَرَ يُجْزِئُ، وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ وَفِي الْهَدْيِ رِوَايَتَانِ.
وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ الِاعْتِبَارُ بِصَيْدِ الْإِحْرَامِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الضَّمَانَيْنِ يَجِبُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى، ثُمَّ يُجْزِئُ الصَّوْمُ فِي أَحَدِهِمَا كَذَا فِي الْآخَرِ.
(وَلَنَا) الْفَرْقُ بَيْنَ الصَّيْدَيْنِ وَالضَّمَانَيْنِ، وَهُوَ أَنَّ ضَمَانَ صَيْدِ الْإِحْرَامِ وَجَبَ لِمَعْنًى يَرْجِعُ إلَى الْفَاعِلِ؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ جَزَاءً عَلَى جِنَايَتِهِ عَلَى الْإِحْرَامِ فَأَمَّا ضَمَانُ صَيْدِ الْحَرَمِ فَإِنَّمَا وَجَبَ لِمَعْنًى يَرْجِعُ إلَى الْمَحِلِّ، وَهُوَ تَفْوِيتُ أَمْنِ الْحَرَمِ وَرِعَايَةٌ لِحُرْمَةِ الْحَرَمِ، فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ ضَمَانِ سَائِرِ الْأَمْوَالِ، وَضَمَانُ سَائِرِ الْأَمْوَالِ لَا يَدْخُلُ فِيهِ الصَّوْمُ كَذَا هَذَا.
وَأَمَّا الْهَدْيُ فَوَجْهُ رِوَايَةِ عَدَمِ الْجَوَازِ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ هَذَا الضَّمَانَ يُشْبِهُ ضَمَانَ سَائِرِ الْأَمْوَالِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَهُ لِمَعْنًى فِي الْمَحِلِّ، فَلَا يَجُوزُ فِيهِ الْهَدْيُ كَمَا لَا يَجُوزُ فِي سَائِرِ الْأَمْوَالِ إلَّا أَنْ تَكُونَ قِيمَتُهُ مَذْبُوحًا مِثْلَ قِيمَةِ الصَّيْدِ، فَيُجْزِئُ عَنْ الطَّعَامِ.
وَجْهُ رِوَايَةِ الْجَوَازِ أَنَّ ضَمَانَ صَيْدِ الْحَرَمِ لَهُ شَبَهٌ بِأَصْلَيْنِ: ضَمَانِ الْأَمْوَالِ وَضَمَانِ الْأَفْعَالِ، أَمَّا شَبَهُهُ بِضَمَانِ الْأَمْوَالِ فَلِمَا ذَكَرْنَا، وَأَمَّا شَبَهُهُ بِضَمَانِ الْأَفْعَالِ وَهُوَ ضَمَانُ الْإِحْرَامِ فَلِأَنَّهُ يَجِبُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى فَيُعْمَلُ بِالشَّبَهَيْنِ، فَنَقُولُ: إنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِيهِ الصَّوْمُ اعْتِبَارًا لِشَبَهِ الْأَمْوَالِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ الْهَدْيُ اعْتِبَارًا لِشَبَهِ الْأَفْعَالِ وَهُوَ الْإِحْرَامُ عَمَلًا بِالشَّبَهَيْنِ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ إذْ لَا يُمْكِنُ الْقَوْلُ بِالْعَكْسِ؛ وَلِأَنَّ الْهَدْيَ مَالٌ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْإِطْعَامِ، وَالصَّوْمُ لَيْسَ بِمَالٍ وَلَا فِيهِ مَعْنَى الْمَالِ فَافْتَرَقَا وَلَوْ قَتَلَ الْمُحْرِمُ صَيْدًا فِي الْحَرَمِ فَعَلَيْهِ مَا عَلَى الْمُحْرِمِ إذَا قَتَلَ صَيْدًا فِي الْحِلِّ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ لِأَجْلِ الْحَرَمِ شَيْءٌ، وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ، وَالْقِيَاسُ أَنْ يَلْزَمَهُ كَفَّارَتَانِ؛ لِوُجُودِ الْجِنَايَةِ عَلَى شَيْئَيْنِ وَهُمَا: الْإِحْرَامُ وَالْحَرَمُ فَأَشْبَهَ الْقَارِنَ إلَّا أَنَّهُمْ اسْتَحْسَنُوا وَأَوْجَبُوا كَفَّارَةَ الْإِحْرَامِ لَا غَيْرَ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ الْإِحْرَامِ أَقْوَى مِنْ حُرْمَةِ الْحَرَمِ فَاسْتَتْبَعَ الْأَقْوَى الْأَضْعَفُ، وَبَيَانُ أَنَّ حُرْمَةَ الْإِحْرَامِ أَقْوَى مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ حُرْمَةَ الْإِحْرَامِ ظَهَرَ أَثَرُهَا فِي الْحَرَمِ وَالْحِلِّ جَمِيعًا، حَتَّى حَرُمَ عَلَى الْمُحْرِمِ الصَّيْدُ فِي الْحَرَمِ وَالْحِلِّ جَمِيعًا، وَحُرْمَةُ الْإِحْرَامِ لَا يَظْهَرُ أَثَرُهَا إلَّا فِي الْحَرَمِ حَتَّى يُبَاحَ لِلْحَلَالِ الِاصْطِيَادُ