يُبَاحُ، وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُ لَوْ ذَهَبَ وَتَوَضَّأَ لَا تَفُوتُهُ الصَّلَاةُ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ إتْمَامُ الْبَقِيَّةِ وَحْدَهُ؛ لِأَنَّهُ لَاحِقٌ وَلَا عِبْرَةَ بِالتَّيَمُّمِ عِنْدَ عَدَمِ خَوْفِ الْفَوْتِ أَصْلًا، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إنْ كَانَ لَا يَخَافُ الْفَوْتَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ يَخَافُ الْفَوْتَ بِسَبَبِ الْفَسَادِ؛ لِازْدِحَامِ النَّاسِ، فَقَلَّمَا يَسْلَمُ عَنْ عَارِضٍ يُفْسِدُ عَلَيْهِ صَلَاتَهُ، فَكَانَ فِي الِانْصِرَافِ لِلْوُضُوءِ تَعْرِيضُ صَلَاتِهِ لِلْفَسَادِ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ؛ فَيَتَيَمَّمُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(وَمِنْهَا) النِّيَّةُ وَالْكَلَامُ فِي النِّيَّةِ فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا - فِي بَيَانِ أَنَّهَا شَرْطُ جَوَازِ التَّيَمُّمِ وَالثَّانِي - فِي بَيَانِ كَيْفِيَّتِهَا أَمَّا الْأَوَّلُ - فَالنِّيَّةُ شَرْطُ جَوَازِ التَّيَمُّمِ فِي قَوْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ.
وَقَالَ زُفَرُ: " لَيْسَتْ بِشَرْطٍ " وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ التَّيَمُّمَ خَلْفٌ وَالْخَلْفُ، لَا يُخَالِفُ الْأَصْلَ فِي الشُّرُوطِ، ثُمَّ الْوُضُوءُ يَصِحُّ بِدُونِ النِّيَّةِ كَذَا التَّيَمُّمُ.
(وَلَنَا) أَنَّ التَّيَمُّمَ لَيْسَ بِطَهَارَةٍ حَقِيقِيَّةٍ وَإِنَّمَا جُعِلَ طَهَارَةً عِنْدَ الْحَاجَةِ، وَالْحَاجَةُ إنَّمَا تُعْرَفُ بِالنِّيَّةِ بِخِلَافِ الْوُضُوءِ؛ لِأَنَّهُ طَهَارَةٌ حَقِيقِيَّةٌ فَلَا يُشْتَرَطُ لَهُ الْحَاجَةُ لَيَصِيرَ طَهَارَةً فَلَا يُشْتَرَطُ لَهُ النِّيَّةُ، وَلِأَنَّ مَأْخَذَ الِاسْمِ دَلِيلُ كَوْنِهَا شَرْطًا لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ يُنْبِئُ عَنْ الْقَصْدِ، وَالنِّيَّةُ هِيَ الْقَصْدُ فَلَا يَتَحَقَّقُ بِدُونِهَا، فَأَمَّا الْوُضُوءُ فَإِنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ الْوَضَاءَةِ وَأَنَّهَا تَحْصُلُ بِدُونِ النِّيَّةِ.
وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ النِّيَّةِ فِي التَّيَمُّمِ فَقَدْ ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ أَنَّ الصَّحِيحَ مِنْ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ إذَا نَوَى الطَّهَارَةَ، أَوْ نَوَى اسْتِبَاحَةَ الصَّلَاةِ أَجْزَأَهُ.
وَذَكَرَ الْجَصَّاصُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ فِي التَّيَمُّمِ نِيَّةُ التَّطْهِيرِ وَإِنَّمَا يَجِبُ نِيَّةُ التَّمْيِيزِ، وَهُوَ أَنْ يَنْوِيَ الْحَدَثَ، أَوْ الْجَنَابَةَ؛ لِأَنَّ التَّيَمُّمَ لَهُمَا يَقَعُ عَلَى صِفَةٍ وَاحِدَةٍ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّمْيِيزِ بِالنِّيَّةِ كَمَا فِي صَلَاةِ الْفَرْضِ؛ أَنَّهُ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ نِيَّةِ الْفَرْضِ لِأَنَّ الْفَرْضَ وَالنَّفَلَ يَتَأَدَّيَانِ عَلَى هَيْئَةٍ وَاحِدَةٍ وَالصَّحِيحُ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِشَرْطٍ، فَإِنَّ ابْنَ سِمَاعَةَ رَوَى عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْجُنُبَ إذَا تَيَمَّمَ يُرِيدُ بِهِ الْوُضُوءَ أَجْزَأَهُ عَنْ الْجَنَابَةِ، وَهَذَا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ افْتِقَارَ التَّيَمُّمِ إلَى النِّيَّةِ لِيَصِيرَ طَهَارَةً إذْ هُوَ لَيْسَ بِتَطْهِيرٍ حَقِيقَةً وَإِنَّمَا جُعِلَ تَطْهِيرًا شَرْعًا لِلْحَاجَةِ، وَالْحَاجَةُ تُعْرَفُ بِالنِّيَّةِ، وَنِيَّةُ الطَّهَارَةِ تَكْفِي دَلَالَةً عَلَى الْحَاجَةِ وَكَذَا نِيَّةُ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهُ لَا جَوَازَ لِلصَّلَاةِ بِدُونِ الطَّهَارَةِ فَكَانَتْ دَلِيلًا عَلَى الْحَاجَةِ فَلَا حَاجَةَ إلَى نِيَّةِ التَّمْيِيزِ أَنَّهُ لِلْحَدَثِ أَوْ لِلْجَنَابَةِ.
وَلَوْ تَيَمَّمَ وَنَوَى مُطْلَقَ الطَّهَارَةِ أَوْ نَوَى اسْتِبَاحَةَ الصَّلَاةِ؛ فَلَهُ أَنْ يَفْعَلَ كُلَّ مَا لَا يَجُوزُ بِدُونِ الطَّهَارَةِ، كَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَسَجْدَةِ التِّلَاوَةِ وَمَسِّ الْمُصْحَفِ وَنَحْوِهَا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أُبِيحَ لَهُ أَدَاءُ الصَّلَاةِ فَلَأَنْ يُبَاحَ لَهُ مَا دُونَهَا أَوْ مَا هُوَ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَائِهَا أَوْلَى.
وَكَذَا لَوْ تَيَمَّمَ لِصَلَاةِ الْجِنَازَةِ أَوْ لِسَجْدَةِ التِّلَاوَةِ أَوْ لِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ بِأَنْ كَانَ جُنُبًا جَازَ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِ سَائِرَ الصَّلَوَاتِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ ذَلِكَ عِبَادَةٌ مَقْصُودَةٌ بِنَفْسِهَا وَهُوَ مِنْ جِنْسِ أَجْزَاءِ الصَّلَاةِ فَكَانَ نِيَّتُهَا عِنْدَ التَّيَمُّمِ كَنِيَّةِ الصَّلَاةِ، فَأَمَّا إذَا تَيَمَّمَ لِدُخُولِ الْمَسْجِدِ أَوْ لَمْسِ الْمُصْحَفِ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِ؛ لِأَنَّ دُخُولَ الْمَسْجِدِ وَمَسَّ الْمُصْحَفِ لَيْسَ بِعِبَادَةٍ مَقْصُودَةٍ بِنَفْسِهِ، وَلَا هُوَ؛ مِنْ جِنْسِ أَجْزَاءِ الصَّلَاةِ؛ فَيَقَعُ طَهُورًا لِمَا أَوْقَعَهُ لَهُ لَا غَيْرُ.
(وَمِنْهَا) الْإِسْلَامُ فَإِنَّهُ شَرَطَ وُقُوعَهُ صَحِيحًا عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى لَا يَصِحَّ تَيَمُّمُ الْكَافِرِ، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ الْإِسْلَامَ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ إذَا تَيَمَّمَ يَنْوِي الْإِسْلَامَ جَازَ، حَتَّى لَوْ أَسْلَمَ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِذَلِكَ التَّيَمُّمِ عِنْدَ الْعَامَّةِ وَعَلَى رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ يَجُوزُ، وَجْهُ رِوَايَتِهِ أَنَّ الْكَافِرَ مِنْ أَهْلِ نِيَّةِ الْإِسْلَامِ، وَالْإِسْلَامُ رَأْسُ الْعِبَادَةِ فَيَصِحُّ تَيَمُّمُهُ لَهُ بِخِلَافِ مَا إذَا تَيَمَّمَ لِلصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ فَكَانَ تَيَمُّمُهُ لِلصَّلَاةِ سَفَهًا فَلَا يُعْتَبَرُ.
(وَلَنَا) أَنَّ التَّيَمُّمَ لَيْسَ بِطَهُورٍ حَقِيقَةً وَإِنَّمَا جُعِلَ طَهُورًا لِلْحَاجَةِ إلَى فِعْلٍ لَا صِحَّةَ لَهُ بِدُونِ الطَّهَارَةِ، وَالْإِسْلَامُ يَصِحُّ بِدُونِ الطَّهَارَةِ فَلَا حَاجَةَ إلَى أَنْ يُجْعَلَ طَهُورًا فِي حَقِّهِ بِخِلَافِ الْوُضُوءِ؛ لِأَنَّهُ يَصِحُّ مِنْ الْكَافِرِ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّهُ طَهُورٌ حَقِيقَةً فَلَا تُشْتَرَطُ لَهُ الْحَاجَةُ لِيَصِيرَ طَهُورًا وَلِهَذَا لَوْ تَيَمَّمَ مُسْلِمٌ بِنِيَّةِ الصَّوْمِ لَمْ يَصِحَّ.
وَإِنْ كَانَ الصَّوْمُ عِبَادَةً فَكَذَا هَهُنَا بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ هُنَاكَ بِاشْتِغَالِهِ بِالتَّيَمُّمِ لَمْ يَرْتَكِبْ نَهْيًا، وَهَهُنَا ارْتَكَبَ أَعْظَمَ نَهْيٍ؛ لِأَنَّهُ بِقَدْرِ مَا اشْتَغَلَ صَارَ بَاقِيًا عَلَى الْكُفْرِ مُؤَخِّرًا لِلْإِسْلَامِ، وَتَأْخِيرُ الْإِسْلَامِ مِنْ أَعْظَمِ الْعِصْيَانِ، ثُمَّ لَمَّا لَمْ يَصِحَّ ذَاكَ فَلَأَنْ لَا يَصِحَّ هَذَا أَوْلَى مُسْلِمٌ تَيَمَّمَ، ثُمَّ ارْتَدَّ عَنْ الْإِسْلَامِ - وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ - لَمْ يَبْطُلْ تَيَمُّمُهُ، حَتَّى لَوْ رَجَعَ إلَى الْإِسْلَامِ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِذَلِكَ التَّيَمُّمِ، وَعِنْدَ زُفَرَ بَطَلَ تَيَمُّمُهُ؛ حَتَّى لَا يَجُوزَ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِذَلِكَ التَّيَمُّمِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ فَالْإِسْلَامُ عِنْدَنَا شَرْطُ وُقُوعِ التَّيَمُّمِ صَحِيحًا لَا شَرْطُ بَقَائِهِ عَلَى الصِّحَّةِ.
وَعِنْدَ زُفَرَ هُوَ شَرْطُ بَقَائِهِ عَلَى الصِّحَّةِ أَيْضًا، فَزُفَرُ يَجْمَعُ بَيْنَ حَالَةِ الِابْتِدَاءِ وَالْبَقَاءِ بِعِلَّةٍ جَامِعَةٍ بَيْنَهُمَا، وَهِيَ مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ جُعِلَ طَهُورًا مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ بِطَهُورٍ حَقِيقَةً لِمَكَانِ الْحَاجَةِ إلَى مَا لَا صِحَّةَ لَهُ بِدُونِ الطَّهَارَةِ مِنْ الصَّلَاةِ