الرَّمْيِ فِي يَوْمِ النَّحْرِ فَكَذَا فِي الْيَوْمِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ؛ لِأَنَّ الْكُلَّ أَيَّامُ النَّحْرِ، وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ مَا رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَمَى الْجَمْرَةَ يَوْمَ النَّحْرِ ضُحًى، وَرَمَى فِي بَقِيَّةِ الْأَيَّامِ بَعْدَ الزَّوَالِ» ، وَهَذَا بَابٌ لَا يُعْرَفُ بِالْقِيَاسِ بَلْ بِالتَّوْقِيفِ، فَإِنْ أَخَّرَ الرَّمْيَ فِيهِمَا إلَى اللَّيْلِ فَرَمَى قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ جَازَ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ اللَّيْلَ وَقْتُ الرَّمْيِ فِي أَيَّامِ الرَّمْيِ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْحَدِيثِ فَإِذَا رَمَى فِي الْيَوْمِ الثَّانِي مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ بَعْدَ الزَّوَالِ فَأَرَادَ أَنْ يَنْفِرَ مِنْ مِنًى إلَى مَكَّةَ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ النَّفْرِ الْأَوَّلِ فَلَهُ ذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 203] أَيْ مَنْ نَفَرَ إلَى مَكَّةَ بَعْدَمَا رَمَى يَوْمَيْنِ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَتَرَكَ الرَّمْيَ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ فِي تَعْجِيلِهِ، وَالْأَفْضَلُ أَنْ لَا يَتَعَجَّلَ بَلْ يَتَأَخَّرَ إلَى آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَهُوَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ مِنْهَا فَيَسْتَوْفِي الرَّمْيَ فِي الْأَيَّامِ كُلِّهَا ثُمَّ يَنْفِرُ، وَهُوَ الْمَعْنِيُّ مِنْ النَّفْرِ الثَّانِي، وَذَلِكَ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى {وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 203] ، وَفِي ظَاهِرِ هَذِهِ الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ إشْكَالٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ ذَكَرَ قَوْله تَعَالَى {فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 203] فِي الْمُتَعَجِّلِ، وَالْمُتَأَخِّرِ جَمِيعًا، وَهَذَا إنْ كَانَ يَسْتَقِيمُ فِي حَقِّ الْمُتَعَجِّلِ؛ لِأَنَّهُ يَتَرَخَّصُ لَا يَسْتَقِيمُ فِي حَقِّ الْمُتَأَخِّرِ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَ بِالْعَزِيمَةِ وَالْأَفْضَلِ، وَالثَّانِي أَنَّهُ قَالَ تَعَالَى فِي الْمُتَأَخِّرِ {فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى} [البقرة: 203] قَيَّدَهُ بِالتَّقْوَى، وَهَذَا التَّقْيِيدُ بِالْمُتَعَجِّلِ أَلْيَقُ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَ بِالرُّخْصَةِ، وَلَمْ يَذْكَرْ فِيهِ هَذَا التَّقْيِيدَ، وَالْجَوَابُ عَنْ الْإِشْكَالِ الْأَوَّلِ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ غُفِرَ لَهُ، وَمَنْ تَأَخَّرَ غُفِرَ لَهُ

وَكَذَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْله تَعَالَى {فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 203] رَجَعَ مَغْفُورًا لَهُ، وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى {لِمَنِ اتَّقَى} [البقرة: 203] فَهُوَ بَيَانُ أَنَّ مَا سَبَقَ مِنْ وَعْدِ الْمَغْفِرَةِ لِلْمُتَعَجِّلِ وَالْمُتَأَخِّرِ بِشَرْطِ التَّقْوَى، ثُمَّ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ مَنْ صَرَفَ التَّقْوَى إلَى الِاتِّقَاءِ عَنْ قَتْلِ الصَّيْدِ فِي الْإِحْرَامِ أَيْ لِمَنْ اتَّقَى قَتْلَ الصَّيْدِ فِي حَالِ الْإِحْرَامِ، وَصَرَفَ أَيْضًا قَوْله تَعَالَى {وَاتَّقُوا اللَّهَ} [البقرة: 203] أَيْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تَسْتَحِلُّوا قَتْلَ الصَّيْدِ فِي الْإِحْرَامِ، وَمِنْهُمْ مَنْ صَرَفَ التَّقْوَى إلَى الِاتِّقَاءِ عَنْ الْمَعَاصِي كُلِّهَا فِي الْحَجِّ، وَفِيمَا بَقِيَ مِنْ عُمُرِهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ التَّقْوَى عَمَّا حُظِرَ عَلَيْهِ الْإِحْرَامُ مِنْ الرَّفَثِ، وَالْفُسُوقِ، وَالْجِدَالِ، وَغَيْرِهَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَإِنَّمَا يَجُوزُ لَهُ النَّفْرُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ مَا لَمْ يَطْلُعْ الْفَجْرُ مِنْ الْيَوْمِ الثَّانِي فَإِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ لَمْ يَجُزْ لَهُ النَّفْرُ.

وَأَمَّا وَقْتُ الرَّمْيِ مِنْ الْيَوْمِ الثَّالِثِ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَهُوَ الْيَوْمُ الرَّابِعُ مِنْ أَيَّامِ الرَّمْيِ فَالْوَقْتُ الْمُسْتَحَبُّ لَهُ بَعْدَ الزَّوَالِ، وَلَوْ رَمَى قَبْلَ الزَّوَالِ يَجُوزُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ، وَاحْتَجَّا بِمَا رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَمَى الْجَمْرَةَ يَوْمَ النَّحْرِ ضُحًى، وَرَمَى فِي بَقِيَّةِ الْأَيَّامِ بَعْدَ الزَّوَالِ» ، وَأَوْقَاتُ الْمَنَاسِكِ لَا تُعْرَفُ قِيَاسًا فَدَلَّ أَنَّ وَقْتَهُ بَعْدَ الزَّوَالِ، وَلِأَنَّ هَذَا يَوْمٌ مِنْ أَيَّامِ الرَّمْيِ فَكَانَ وَقْتُ الرَّمْيِ فِيهِ بَعْدَ الزَّوَالِ كَالْيَوْمِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ إذَا اُفْتُتِحَ النَّهَارُ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ جَازَ الرَّمْيُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ قَالَهُ سَمَاعًا مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذْ هُوَ بَابٌ لَا يُدْرَكُ بِالرَّأْيِ، وَالِاجْتِهَادِ فَصَارَ الْيَوْمُ الْأَخِيرُ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ مَخْصُوصًا مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِهَذَا الْحَدِيثِ أَوْ يُحْمَلُ فِعْلُهُ فِي الْيَوْمِ الْأَخِيرِ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ، وَلِأَنَّ لَهُ أَنْ يَنْفِرَ قَبْلَ الرَّمْيِ، وَيَتْرُكَ الرَّمْيَ فِي هَذَا الْيَوْمِ رَأْسًا فَإِذَا جَازَ لَهُ تَرْكُ الرَّمْيِ أَصْلًا فَلَأَنْ يَجُوزَ لَهُ الرَّمْيُ قَبْلَ الزَّوَالِ أَوْلَى، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

[فَصْلٌ مَكَانُ رَمْيِ الْجِمَارِ]

(فَصْلٌ) :

وَأَمَّا مَكَانُ الرَّمْيِ فَفِي يَوْمِ النَّحْرِ عِنْدَ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، وَفِي الْأَيَّامِ الْأُخَرِ عِنْدَ ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ: عِنْدَ الْجَمْرَةِ الْأُولَى، وَالْوُسْطَى، وَالْعَقَبَةِ، وَيُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ مَكَانُ وُقُوعِ الْجَمْرَةِ لَا مَكَانُ الرَّمْيِ حَتَّى لَوْ رَمَاهَا مِنْ مَكَان بَعِيدٍ فَوَقَعَتْ الْحَصَاةُ عِنْدَ الْجَمْرَةِ أَجْزَأَهُ، وَإِنْ لَمْ تَقَعْ عِنْدَهُ لَمْ تُجْزِهَا إلَّا إذَا، وَقَعَتْ بِقُرْبٍ مِنْهَا؛ لِأَنَّ مَا يَقْرُبُ مِنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ كَانَ فِي حُكْمِهِ لِكَوْنِهِ تَبَعًا لَهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

[فَصْلٌ عَدَدِ الْجِمَارِ]

(فَصْلٌ) :

وَأَمَّا الْكَلَامُ فِي عَدَدِ الْجِمَارِ وَقَدْرِهَا، وَجِنْسِهَا، وَمَأْخَذِهَا، وَمِقْدَارِ مَا يُرْمَى كُلَّ يَوْمٍ عِنْدَ كُلِّ مَوْضِعٍ، وَكَيْفِيَّةِ الرَّمْيِ، وَمَا يُسَنُّ فِي ذَلِكَ، وَمَا يُسْتَحَبُّ، وَمَا يُكْرَهُ فَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي بَيَانِ سُنَنِ أَفْعَالِ الْحَجِّ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

[فَصْلٌ بَيَانُ حُكْمِ رَمْي الْجِمَار إذَا تَأَخَّرَ عَنْ وَقْتِهِ]

(فَصْلٌ) :

وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِهِ إذَا تَأَخَّرَ عَنْ وَقْتِهِ أَوْ فَاتَ فَنَقُولُ: إذَا تَرَكَ مِنْ جِمَارِ يَوْمِ النَّحْرِ حَصَاةً أَوْ حَصَاتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا إلَى الْغَدِ فَإِنَّهُ يَرْمِي مَا تَرَكَ أَوْ يَتَصَدَّقُ لِكُلِّ حَصَاةٍ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ حِنْطَةٍ إلَّا أَنْ يَبْلُغَ قَدْرُ الطَّعَامِ دَمًا فَيُنْقِصُ مَا شَاءَ، وَلَا

طور بواسطة نورين ميديا © 2015