فَاتَ عَنْ وَقْتِهِ الْمُعَيَّنِ لَهُ بِأَنْ نَذْرَ اعْتِكَافَ شَهْرٍ بِعَيْنِهِ أَنَّهُ إذَا فَاتَ بَعْضُهُ قَضَاهُ لَا غَيْرُ وَلَا يَلْزَمُهُ الِاسْتِقْبَالُ كَمَا فِي الصَّوْمِ وَإِنْ فَاتَهُ كُلُّهُ قَضَى الْكُلَّ مُتَتَابِعًا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَعْتَكِفْ حَتَّى مَضَى الْوَقْتُ صَارَ الِاعْتِكَافُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ فَصَارَ كَأَنَّهُ أَنْشَأَ النَّذْرَ بِاعْتِكَافِ شَهْرٍ بِعَيْنِهِ فَإِنْ قَدَرَ عَلَى قَضَائِهِ فَلَمْ يَقْضِهِ حَتَّى أَيِسَ مِنْ حَيَاتِهِ؛ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُوصِيَ بِالْفِدْيَةِ لِكُلِّ يَوْمٍ طَعَامُ مِسْكِينٍ لِأَجْلِ الصَّوْمِ لَا لِأَجْلِ الِاعْتِكَافِ كَمَا فِي قَضَاءِ رَمَضَانَ وَالصَّوْمِ الْمَنْذُورِ فِي وَقْتٍ بِعَيْنِهِ.
وَإِنْ قَدَرَ عَلَى الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ فَلَمْ يَعْتَكِفْ فَكَذَلِكَ إنْ كَانَ صَحِيحًا وَقْتَ النَّذْرِ فَإِنْ كَانَ مَرِيضًا وَقْتَ النَّذْرِ فَذَهَبَ الْوَقْتُ وَهُوَ مَرِيضٌ حَتَّى مَاتَ؛ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَإِنْ صَحَّ يَوْمًا؛ فَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي الصَّوْمِ الْمَنْذُورِ فِي وَقْتٍ بِعَيْنِهِ وَإِذَا نَذَرَ اعْتِكَافَ شَهْرٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ؛ فَجَمِيعُ الْعُمُرِ وَقْتُهُ كَمَا فِي النَّذْرِ بِالصَّوْمِ فِي وَقْتٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ وَفِي أَيِّ وَقْتٍ أَدَّى؛ كَانَ مُؤَدِّيًا لَا قَاضِيًا؛ لِأَنَّ الْإِيجَابَ حَصَلَ مُطْلَقًا عَنْ الْوَقْتِ وَإِنَّمَا يُقْتَضَى عَلَيْهِ الْوُجُوبَ إذَا أَيِسَ مِنْ حَيَاتِهِ وَعِنْدَ ذَلِكَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُوصِيَ بِالْفِدْيَةِ كَمَا فِي قَضَاءِ رَمَضَانَ وَالصَّوْمِ الْمَنْذُورِ الْمُطْلَقِ.
فَإِنْ لَمْ يُوصِ حَتَّى مَاتَ؛ سَقَطَ عَنْهُ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا عِنْدَنَا حَتَّى لَا تُؤْخَذُ مِنْ تَرِكَتِهِ وَلَا يَجِبُ عَلَى الْوَرَثَةِ الْفِدْيَةُ إلَّا أَنْ يَتَبَرَّعُوا بِهِ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا تَسْقُطُ وَتُؤْخَذُ مِنْ تَرِكَتِهِ وَتُعْتَبَرُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ وَالْمَسْأَلَةُ مَضَتْ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ.
كِتَابُ الْحَجِّ الْكِتَابُ يَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَيْنِ: فَصْلٌ فِي الْحَجِّ، وَفَصْلٌ فِي الْعُمْرَةِ أَمَّا فَصْلُ الْحَجِّ: فَالْكَلَامُ فِيهِ يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ فَرْضِيَّةِ الْحَجِّ وَفِي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ فَرْضِهِ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ الْفَرْضِيَّةِ وَفِي بَيَانِ أَرْكَانِ الْحَجِّ، وَفِي بَيَانِ وَاجِبَاتِهِ، وَفِي بَيَانِ سُنَنِهِ، وَفِي بَيَانِ التَّرْتِيبِ فِي أَفْعَالِهِ مِنْ الْفَرَائِضِ، وَالْوَاجِبَاتِ، وَالسُّنَنِ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ أَرْكَانِهِ، وَفِي بَيَانِ مَا يُفْسِدُهُ وَبَيَانِ حُكْمِهِ إذَا فَسَدَ، وَفِي بَيَانِ مَا يُفَوِّتُ الْحَجَّ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهِ وَفِي بَيَانِ حُكْمِهِ إذَا فَاتَ عَنْ عُمْرِهِ أَصْلًا، وَرَأْسًا أَمَّا الْأَوَّلُ: فَالْحَجُّ فَرِيضَةٌ ثَبَتَتْ فَرْضِيَّتُهُ بِالْكِتَابِ، وَالسُّنَّةِ، وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ وَالْمَعْقُولِ.
أَمَّا الْكِتَابُ: فَقَوْلَهُ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} [آل عمران: 97] ، فِي الْآيَةِ دَلِيلُ وُجُوبِ الْحَجِّ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قَالَ {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97] ، وَعَلَى: كَلِمَةُ إيجَابٍ وَالثَّانِي أَنَّهُ قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ كَفَرَ} [آل عمران: 97] قِيلَ فِي التَّأْوِيلِ: وَمَنْ كَفَرَ بِوُجُوبِ الْحَجِّ حَتَّى رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: أَيْ وَمَنْ كَفَرَ بِالْحَجِّ فَلَمْ يَرَ حَجَّهُ بِرًّا، وَلَا تَرْكَهُ مَأْثَمًا وقَوْله تَعَالَى لِإِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} [الحج: 27] أَيْ: اُدْعُ النَّاسَ وَنَادِهِمْ إلَى حَجِّ الْبَيْتِ، وَقِيلَ: أَيْ أَعْلِمْ النَّاسَ أَنَّ اللَّهَ فَرَضَ عَلَيْهِمْ الْحَجَّ، دَلِيلُهُ قَوْله تَعَالَى: {يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} [الحج: 27] وَأَمَّا السُّنَّةُ: فَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ وَحَجِّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا» .
وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اُعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَصَلُّوا خَمْسَكُمْ، وَصُومُوا شَهْرَكُمْ، وَحُجُّوا بَيْتَ رَبِّكُمْ، وَأَدُّوا زَكَاةَ أَمْوَالِكُمْ طَيِّبَةً بِهَا أَنْفُسُكُمْ تَدْخُلُوا جَنَّةَ رَبِّكُمْ» .
وَرُوِيَ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَحُجَّ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَمْنَعَهُ سُلْطَانٌ جَائِرٌ، أَوْ مَرَضٌ حَابِسٌ، أَوْ عَدُوٌّ ظَاهِرٌ، فَلْيَمُتْ إنْ شَاءَ يَهُودِيًّا، وَإِنْ شَاءَ نَصْرَانِيًّا، أَوْ مَجُوسِيًّا» .
وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ مَلَكَ زَادًا وَرَاحِلَةً تُبَلِّغُهُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ فَلَمْ يَحُجَّ، فَلَا عَلَيْهِ أَنْ يَمُوتَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا» .
وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ: فَلِأَنَّ الْأُمَّةَ أَجْمَعَتْ عَلَى فَرْضِيَّتِهِ.
وَأَمَّا الْمَعْقُولُ: فَهُوَ أَنَّ الْعِبَادَاتِ وَجَبَتْ لِحَقِّ الْعُبُودِيَّةِ، أَوْ لِحَقِّ شُكْرِ النِّعْمَةِ إذْ كُلُّ ذَلِكَ لَازِمٌ فِي الْمَعْقُولِ وَفِي الْحَجِّ إظْهَارُ الْعُبُودِيَّةِ، وَشُكْرُ النِّعْمَةِ، أَمَّا إظْهَارُ الْعُبُودِيَّةِ؛ فَلِأَنَّ إظْهَارَ الْعُبُودِيَّةِ هُوَ إظْهَارُ التَّذَلُّلِ لِلْمَعْبُودِ، وَفِي الْحَجِّ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْحَاجَّ فِي حَالِ إحْرَامِهِ يُظْهِرُ الشَّعَثَ، وَيَرْفُضُ أَسْبَابَ التَّزَيُّنِ، وَالِارْتِفَاقِ، وَيَتَصَوَّرُ بِصُورَةِ عَبْدٍ سَخِطَ عَلَيْهِ مَوْلَاهُ، فَيَتَعَرَّضُ بِسُوءِ حَالِهِ لِعَطْفِ مَوْلَاهُ، وَمَرْحَمَتِهِ إيَّاهُ، وَفِي حَالِ وُقُوفِهِ بِعَرَفَةَ بِمَنْزِلَةِ عَبْدٍ عَصَى مَوْلَاهُ فَوَقَفَ بَيْنَ يَدَيْهِ مُتَضَرِّعًا حَامِدًا لَهُ مُثْنِيًا عَلَيْهِ مُسْتَغْفِرًا لِزَلَّاتِهِ مُسْتَقِيلًا لِعَثَرَاتِهِ، وَبِالطَّوَافِ حَوْلَ الْبَيْتِ يُلَازِمُ الْمَكَانَ الْمَنْسُوبَ إلَى رَبِّهِ بِمَنْزِلَةِ عَبْدٍ مُعْتَكِفٍ عَلَى بَابِ مَوْلَاهُ لَائِذٍ بِجَنَابِهِ.
وَأَمَّا شُكْرُ النِّعْمَةِ؛ فَلِأَنَّ الْعِبَادَاتِ بَعْضُهَا بَدَنِيَّةٌ، وَبَعْضُهَا مَالِيَّةٌ، وَالْحَجُّ عِبَادَةٌ لَا تَقُومُ إلَّا بِالْبَدَنِ، وَالْمَالِ؛ وَلِهَذَا لَا يَجِبُ إلَّا عِنْدَ وُجُودِ الْمَالِ وَصِحَّةِ الْبَدَنِ، فَكَانَ فِيهِ شُكْرُ النِّعْمَتَيْنِ، وَشُكْرُ النِّعْمَةِ لَيْسَ إلَّا اسْتِعْمَالُهَا