عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ شَهْرًا النَّهَارَ دُونَ اللَّيْلِ؛ يَلْزَمُهُ كَمَا الْتَزَمَ.
وَهُوَ اعْتِكَافُ شَهْرٍ بِالْأَيَّامِ دُونَ اللَّيَالِي؛ لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ: النَّهَارَ دُونَ اللَّيْلِ؛ فَقَدْ لَغَا ذِكْرُ الشَّهْرِ بِنَصِّ كَلَامِهِ، كَمَنْ قَالَ: رَأَيْت فَرَسًا أَبْلَقَ لِلْبَيَاضِ مِنْهُ دُونَ السَّوَادِ؛ وَكَانَ هُوَ بِالْخِيَارِ: إنْ شَاءَ تَابَعَ وَإِنْ شَاءَ فَرَّقَ؛ لِأَنَّهُ تَلَفَّظَ بِالنَّهَارِ.
وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ كُلَّ اعْتِكَافٍ وَجَبَ فِي الْأَيَّامِ دُونَ اللَّيَالِيِ؛ فَصَاحِبُهُ فِيهِ بِالْخِيَارِ: إنْ شَاءَ تَابَعَ وَإِنْ شَاءَ فَرَّقَ.
وَكُلُّ اعْتِكَافٍ وَجَبَ فِي الْأَيَّامِ وَاللَّيَالِي جَمِيعًا: يَلْزَمُهُ اعْتِكَافُ شَهْرٍ يَصُومُهُ مُتَتَابِعًا.
وَلَوْ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ اعْتِكَافَ شَهْرٍ بِعَيْنِهِ بِأَنْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ رَجَبَ؛ يَلْزَمُهُ أَنْ يَعْتَكِفَ فِيهِ يَصُومُهُ مُتَتَابِعًا، وَإِنْ أَفْطَرَ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ؛ فَعَلَيْهِ قَضَاءُ ذَلِكَ وَلَا يَلْزَمُهُ قَضَاءُ مَا صَحَّ اعْتِكَافُهُ فِيهِ كَمَا إذَا أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ صَوْمَ رَجَبٍ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الصَّوْمِ.
فَإِنْ لَمْ يَعْتَكِفْ فِي رَجَبٍ حَتَّى مَضَى؛ يَلْزَمُهُ اعْتِكَافُ شَهْرٍ يَصُومُهُ مُتَتَابِعًا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا مَضَى رَجَبٌ مِنْ غَيْرِ اعْتِكَافٍ؛ صَارَ فِي ذِمَّتِهِ اعْتِكَافُ شَهْرٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ فَيَلْزَمُهُ مُرَاعَاةُ صِفَةِ التَّتَابُعِ فِيهِ كَمَا إذَا أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ اعْتِكَافَ شَهْرٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ ابْتِدَاءً بِأَنْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ شَهْرًا.
وَلَوْ أَوْجَبَ اعْتِكَافَ شَهْرٍ بِعَيْنِهِ فَاعْتَكَفَ شَهْرًا قَبْلَهُ عَنْ نَذْرِهِ بِأَنْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ رَجَبًا فَاعْتَكَفَ شَهْرَ رَبِيعٍ الْآخَرِ؛ أَجْزَأَهُ عَنْ نَذْرِهِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لَا يُجْزِئُهُ.
وَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي النَّذْرِ بِالصَّوْمِ فِي شَهْرٍ مُعَيَّنٍ فَصَامَ قَبْلَهُ وَنَذْكُرُ الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ النَّذْرِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَلَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ شَهْرَ رَمَضَانَ؛ يَصِحُّ نَذْرُهُ وَيَلْزَمُهُ أَنْ يَعْتَكِفَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ كُلِّهِ؛ لِوُجُودِ الِالْتِزَامِ بِالنَّذْرِ فَإِنْ صَامَ وَاعْتَكَفَ فِيهِ؛ خَرَجَ عَنْ عُهْدَةِ النَّذْرِ لِوُجُودِ شَرْطِ صِحَّةِ الِاعْتِكَافِ وَهُوَ الصَّوْمُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لُزُومُهُ بِالْتِزَامِهِ الِاعْتِكَافَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِشَرْطٍ، إنَّمَا الشَّرْطُ وُجُودُهُ مَعَهُ كَمَنْ لَزِمَهُ أَدَاءُ الظُّهْرِ، وَهُوَ مُحْدِثٌ؛ يَلْزَمُهُ الطَّهَارَةُ، وَلَوْ دَخَلَ وَقْتُ الظُّهْرِ وَهُوَ عَلَى الطَّهَارَةِ يَصِحُّ أَدَاءُ الظُّهْرِ بِهَا؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ هُوَ الطَّهَارَةُ وَقَدْ وُجِدَتْ كَذَا هَذَا.
وَلَوْ صَامَ رَمَضَانَ كُلَّهُ وَلَمْ يَعْتَكِفْ؛ يَلْزَمُهُ قَضَاءُ الِاعْتِكَافِ بِصَوْمٍ آخَرَ فِي شَهْرٍ آخَرَ مُتَتَابِعًا، كَذَا ذَكَر مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الِاعْتِكَافُ، بَلْ يَسْقُطُ نَذْرُهُ وَجْهُ قَوْلِهِ: أَنَّ نَذْرَهُ انْعَقَدَ غَيْرَ مُوجِبٍ لِلصَّوْمِ.
وَقَدْ تَعَذَّرَ إبْقَاؤُهُ كَمَا انْعَقَدَ فَتَسْقُطُ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ فِي الْبَقَاءِ وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ النَّذْرَ بِالِاعْتِكَافِ فِي رَمَضَانَ قَدْ صَحَّ وَوَجَبَ عَلَيْهِ الِاعْتِكَافُ فِيهِ، فَإِذَا لَمْ يُؤَدِّ؛ بَقِيَ وَاجِبًا عَلَيْهِ.
كَمَا إذَا نَذَرَ بِالِاعْتِكَافِ فِي شَهْرٍ آخَرَ بِعَيْنِهِ فَلَمْ يُؤَدِّهِ حَتَّى مَضَى الشَّهْرُ وَإِذًا بَقِيَ وَاجِبًا عَلَيْهِ وَلَا يَبْقَى وَاجِبًا عَلَيْهِ إلَّا بِوُجُوبِ شَرْطِ صِحَّةِ أَدَائِهِ وَهُوَ الصَّوْمُ فَيَبْقَى وَاجِبًا عَلَيْهِ بِشَرْطِهِ وَهُوَ الصَّوْمُ وَأَمَّا قَوْلُهُ: إنَّ نَذْرَهُ مَا انْعَقَدَ مُوجِبًا لِلصَّوْمِ فِي رَمَضَانَ؛ فَنَعَمْ لَكِنْ جَازَ أَنْ يَبْقَى مُوجِبًا لِلصَّوْمِ فِي غَيْرِ رَمَضَانَ وَهَذَا لِأَنَّ وُجُوبَ الصَّوْمِ لِضَرُورَةِ التَّمَكُّنِ مِنْ الْأَدَاءِ وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْأَدَاءِ فِي غَيْرِهِ إلَّا بِالصَّوْمِ؛ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الصَّوْمُ وَيَلْزَمُهُ مُتَتَابِعًا؛ لِأَنَّهُ لَزِمَهُ الِاعْتِكَافُ فِي شَهْرٍ بِعَيْنِهِ وَقَدْ فَاتَهُ فَيَقْضِيهِ مُتَتَابِعًا كَمَا إذَا أَوْجَبَ اعْتِكَافَ رَجَبٍ فَلَمْ يَعْتَكِفْ فِيهِ؛ أَنَّهُ يَقْضِيهِ فِي شَهْرٍ آخَرَ مُتَتَابِعًا، كَذَا هَذَا.
وَلَوْ لَمْ يَصُمْ رَمَضَانَ وَلَمْ يَعْتَكِفْ فِيهِ؛ فَعَلَيْهِ اعْتِكَافُ شَهْرٍ مُتَتَابِعًا بِصَوْمٍ، وَقَضَاءُ رَمَضَانَ فَإِنْ قَضَى صَوْمَ الشَّهْرِ مُتَتَابِعًا وَقَرَنَ بِهِ الِاعْتِكَافَ؛ جَازَ وَيَسْقُطُ عَنْهُ قَضَاءُ رَمَضَانَ وَخَرَجَ عَنْ عُهْدَةِ النَّذْرِ؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ الَّذِي وَجَبَ فِيهِ الِاعْتِكَافُ بَاقٍ فَيَقْضِيهِمَا جَمِيعًا يَصُومُ شَهْرًا مُتَتَابِعًا وَهَذَا لِأَنَّ ذَلِكَ الصَّوْمَ لَمَّا كَانَ بَاقِيًا لَا يَسْتَدْعِي وُجُوبُ الِاعْتِكَافِ فِيهَا صَوْمًا آخَرَ؛ فَبَقِيَ وَاجِبَ الْأَدَاءِ بِعَيْنِ ذَلِكَ الصَّوْمِ كَمَا انْعَقَدَ.
وَلَوْ صَامَ وَلَمْ يَعْتَكِفْ حَتَّى دَخَلَ رَمَضَانُ الْقَابِلُ فَاعْتَكَفَ قَاضِيًا لِمَا فَاتَهُ بِصَوْمِ هَذَا الشَّهْرِ؛ لَمْ يَصِحَّ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ بَقَاءَ وُجُوبِ الِاعْتِكَافِ يَسْتَدْعِي وُجُوبَ صَوْمٍ يَصِيرُ شَرْطًا لِأَدَائِهِ فَوَجَبَ فِي ذِمَّتِهِ صَوْمٌ عَلَى حِدَةٍ وَمَا وَجَبَ فِي الذِّمَّةِ مِنْ الصَّوْمِ لَا يَتَأَدَّى بِصَوْمِ الشَّهْرِ وَلَوْ نَذَرَ أَنْ يَعْتَكِفَ يَوْمَيْ الْعِيدِ وَأَيَّامَ التَّشْرِيقِ؛ فَهُوَ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ اللَّتَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا فِي الصَّوْمِ وَأَنَّ عَلَى رِوَايَةِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ يَصِحُّ نَذْرُهُ لَكِنْ يُقَالُ لَهُ: اقْضِ فِي يَوْمٍ آخَرَ وَيُكَفِّرُ الْيَمِينَ إنْ كَانَ أَرَادَ بِهِ الْيَمِينَ، وَإِنْ اعْتَكَفَ فِيهَا؛ جَازَ وَخَرَجَ عَنْ عُهْدَةِ النَّذْرِ وَكَانَ مُسِيئًا وَعَلَى رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ وَابْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَصِحُّ نَذْرُهُ بِالِاعْتِكَافِ فِيهَا أَصْلًا كَمَا لَا يَصِحُّ نَذْرُهُ بِالصَّوْمِ فِيهَا وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ مِنْ لَوَازِمِ الِاعْتِكَافِ الْوَاجِبِ؛ فَكَانَ الْجَوَابُ فِي الِاعْتِكَافِ كَالْجَوَابِ فِي الصَّوْمِ.
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمُعْتَكَفِ فِيهِ: فَالْمَسْجِدُ وَإِنَّهُ شَرْطٌ فِي