مِنْ الْمُسْلِمِ لَا بَأْسَ بِأَنْ يُغَسِّلَهُ وَيُكَفِّنَهُ وَيَتْبَعُ جِنَازَتَهُ وَيَدْفِنَهُ؛ لِأَنَّ الِابْنَ مَا نُهِيَ عَنْ الْبِرِّ بِمَكَانِ أَبِيهِ الْكَافِرِ، بَلْ أُمِرَ بِمُصَاحَبَتِهِمَا بِالْمَعْرُوفِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان: 15] وَمِنْ الْبِرِّ الْقِيَامُ بِغُسْلِهِ، وَدَفْنِهِ وَتَكْفِينِهِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ «عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا مَاتَ أَبُوهُ أَبُو طَالِبٍ جَاءَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ عَمَّكَ الضَّالَّ قَدْ تُوُفِّيَ فَقَالَ: اذْهَبْ وَغَسِّلْهُ وَكَفِّنْهُ وَوَارِهِ وَلَا تُحْدِثَنَّ حَدَثًا حَتَّى تَلْقَانِي قَالَ: فَفَعَلْت ذَلِكَ وَأَتَيْته فَأَخْبَرْته فَدَعَا لِي بِدَعَوَاتٍ مَا أُحِبُّ أَنْ يَكُونَ لِي بِهَا حُمْرُ النَّعَمِ» وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: سَأَلَ رَجُلٌ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - فَقَالَ: إنَّ امْرَأَتِي مَاتَتْ نَصْرَانِيَّةً فَقَالَ: اغْسِلْ هَا وَكَفِّنْهَا وَادْفِنْهَا، وَعَنْ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ أَنَّ أُمَّهُ مَاتَتْ نَصْرَانِيَّةً فَتَبِعَ جِنَازَتَهَا فِي نَفَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - ثُمَّ إنَّمَا يَقُومُ ذُو الرَّحِمِ بِذَلِكَ إذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَنْ يَقُومُ بِهِ مِنْ أَهْلِ دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ خَلَّى الْمُسْلِمُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ لِيَصْنَعُوا بِهِ مَا يَصْنَعُونَ بِمَوْتَاهُمْ.
وَإِنْ مَاتَ مُسْلِمٌ وَلَهُ أَبٌ كَافِرٌ هَلْ يُمَكَّنُ مِنْ الْقِيَامِ بِتَغْسِيلِهِ وَتَجْهِيزِهِ؟ لَمْ يُذْكَرْ فِي الْكِتَابِ، وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُمَكَّنَ مِنْ ذَلِكَ، بَلْ يُغَسِّلُهُ الْمُسْلِمُونَ؛ لِأَنَّ الْيَهُودِيَّ لَمَّا آمَنَ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَ مَوْتِهِ مَا قَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى مَاتَ «فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَصْحَابِهِ: تَوَلَّوْا أَخَاكُمْ» وَلَمْ يُخَلِّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ وَالِدِهِ الْيَهُودِيِّ؛ وَلِأَنَّ غُسْلَ الْمَيِّتِ شُرِعَ كَرَامَةً لَهُ، وَلَيْسَ مِنْ الْكَرَامَةِ أَنْ يَتَوَلَّى الْكَافِرُ غُسْلَهُ.
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ عَادِلًا حَتَّى لَا يُغَسَّلَ الْبَاغِي إذَا قُتِلَ، وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ كَذَا رَوَى الْمُعَلَّى عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ وَسَنَذْكُرُ الْمَسْأَلَةَ، وَذَكَرَ الْفَقِيهُ أَبُو الْحَسَنِ الرُّسْتُغْفَنِيُّ صَاحِبُ الشَّيْخِ أَبِي مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ يُغَسَّلُ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ، وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الْغُسْلَ حَقُّهُ، وَالصَّلَاةُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فَمَا كَانَ مِنْ حَقِّهِ يُؤْتَى بِهِ، وَمَا كَانَ مِنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى لَا يُؤْتَى بِهِ إهَانَةً، وَلِهَذَا يُغَسَّلُ الْكَافِرُ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ.
وَلَوْ اجْتَمَعَ الْمَوْتَى الْمُسْلِمُونَ وَالْكُفَّارُ يُنْظَرُ إنْ كَانَ بِالْمُسْلِمِينَ عَلَامَةٌ يُمْكِنُ الْفَصْلُ بِهَا يُفْصَلُ، وَعَلَامَةُ الْمُسْلِمِينَ أَرْبَعَةُ أَشْيَاءَ: الْخِتَانُ وَالْخِضَابُ، وَلُبْسُ السَّوَادِ وَحَلْقُ الْعَانَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِهِمْ عَلَامَةٌ يُنْظَرُ إنْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ أَكْثَرَ غُسِّلُوا وَكُفِّنُوا وَدُفِنُوا فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ وَصُلِّيَ عَلَيْهِمْ وَيَنْوِي بِالدُّعَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنْ كَانَ الْكُفَّارُ أَكْثَرَ يُغَسَّلُوا وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِمْ، كَذَا ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الْكَرْخِيِّ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ لِلْغَالِبِ، وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ إنْ كَانَتْ الْغَلَبَةُ لِمَوْتَى الْكُفَّارِ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِمْ، لَكِنْ يُغَسَّلُونَ وَيُكَفَّنُونَ وَيُدْفَنُونَ فِي مَقَابِرِ الْمُشْرِكِينَ، وَوَجْهُهُ أَنَّ غُسْلَ الْمُسْلِمِ وَاجِبٌ وَغُسْلَ الْكَافِرِ جَائِزٌ فِي الْجُمْلَةِ فَيُؤْتَى بِالْجَائِزِ فِي الْجُمْلَةِ لِتَحْصِيلِ الْوَاجِبِ.
وَأَمَّا إذَا كَانُوا عَلَى السَّوَاءِ فَلَا يُشْكِلُ أَنَّهُمْ يُغَسَّلُونَ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ فِيهِ تَحْصِيلَ الْوَاجِبِ مَعَ الْإِتْيَانِ بِالْجَائِزِ فِي الْجُمْلَةِ وَهَذَا أَوْلَى مِنْ تَرْكِ الْوَاجِبِ رَأْسًا، وَهَلْ يُصَلَّى عَلَيْهِمْ؟ قَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يُصَلَّى عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ تَرْكَ الصَّلَاةِ عَلَى الْمُسْلِمِ أَوْلَى مِنْ الصَّلَاةِ عَلَى الْكَافِرِ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى الْكَافِرِ غَيْرُ مَشْرُوعَةٍ أَصْلًا.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} [التوبة: 84] وَتَرْكُ الصَّلَاةِ عَلَى الْمُسْلِمِ مَشْرُوعَةٌ فِي الْجُمْلَةِ كَالْبُغَاةِ وَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ فَكَانَ التَّرْكُ أَهْوَنَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُصَلَّى عَلَيْهِمْ وَيَنْوِي بِالصَّلَاةِ وَالدُّعَاءِ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّهُمْ إنْ عَجَزُوا عَنْ تَعْيِينِ الْعَمَلِ لِلْمُسْلِمِينَ لَمْ يَعْجَزُوا عَنْ تَمْيِيزِ الْقَصْدِ فِي الدُّعَاءِ لَهُمْ.
وَأَمَّا الدَّفْنُ فَلَا رِوَايَةَ فِيهِ فِي الْمَبْسُوطِ، وَذَكَرَ الْحَاكِمُ الْجَلِيلُ فِي مُخْتَصَرِهِ أَنَّهُمْ يُدْفَنُونَ فِي مَقَابِرِ الْمُشْرِكِينَ، وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ، قَالَ بَعْضُهُمْ: يُدْفَنُونَ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: فِي مَقَابِرِ الْمُشْرِكِينَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: تُتَّخَذُ لَهُمْ مَقْبَرَةٌ عَلَى حِدَةٍ وَتُسَوَّى قُبُورُهُمْ، وَلَا تُسَنَّمُ وَهُوَ قَوْلُ الْفَقِيهِ أَبِي جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ وَهُوَ أَحْوَطُ.
وَأَصْلُ الِاخْتِلَافِ فِي كِتَابِيَّةٍ تَحْتَ مُسْلِمٍ حَبِلَتْ ثُمَّ مَاتَتْ وَفِي بَطْنِهَا وَلَدٌ مُسْلِمٌ لَا يُصَلَّى عَلَيْهَا بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى الْكَافِرَةِ غَيْرُ مَشْرُوعَةٍ، وَمَا فِي بَطْنِهَا لَا يَسْتَحِقُّ الصَّلَاةَ عَلَيْهِ وَلَكِنَّهَا تُغَسَّلُ وَتُكَفَّنُ، وَاخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ فِي الدَّفْنِ قَالَ بَعْضُهُمْ: تُدْفَنُ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ تَرْجِيحًا لِجَانِبِ الْوَلَدِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: فِي مَقَابِرِ الْمُشْرِكِينَ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ فِي حُكْمِ جُزْءٍ مِنْهَا مَا دَامَ فِي الْبَطْنِ، وَقَالَ وَاثِلَةُ بْنُ الْأَسْقَعِ: يُتَّخَذُ لَهَا مَقْبَرَةٌ عَلَى حِدَةٍ، وَهَذَا أَحْوَطُ.
وَلَوْ وُجِدَ مَيِّتٌ أَوْ قَتِيلٌ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ سِيمَا الْمُسْلِمِينَ يُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ وَيُدْفَنُ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ، وَهَذَا ظَاهِرٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ سِيمَا الْمُسْلِمِينَ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ وَيُدْفَنُ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ لِحُصُولِ غَلَبَةِ الظَّنِّ بِكَوْنِهِ مُسْلِمًا بِدَلَالَةِ