فِي الْأَرْضِ أَشْجَارٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا شَجَرٌ فَالْوَصِيَّةُ بِالْغَلَّةِ وَصِيَّةٌ بِالدَّرَاهِمِ، وَالدَّنَانِيرِ، وَذَلِكَ هِيَ الْأُجْرَةُ، فَإِنْ قِيلَ: إذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْأَرْضِ شَجَرٌ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَزْرَعَهَا فَيَسْتَوْفِيَ زَرْعَهَا، فَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَوْ زَرَعَ لَحَصَلَ لَهُ مِلْكُ الْخَارِجِ بِبَذْرِهِ، وَالْمُوصَى بِهِ غَلَّةُ أَرْضِهِ لَا غَلَّةُ بَذْرِهِ.
وَلَوْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِغَلَّةِ أَرْضِهِ وَلِآخَرَ بِرَقَبَتِهَا وَهِيَ تَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ، فَبَاعَهَا صَاحِبُ الرَّقَبَةِ وَسَلَّمَ صَاحِبُ الْغَلَّةِ الْمَبِيعَ جَازَ، وَبَطَلَتْ وَصِيَّةُ صَاحِبِ الْغَلَّةِ وَلَا حَقَّ لَهُ فِي الثَّمَنِ، أَمَّا جَوَازُ الْوَصِيَّةِ بِالْغَلَّةِ فَلِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ.
وَأَمَّا جَوَازُ بَيْعِ الرَّقَبَةِ مِنْ صَاحِبِهَا إذَا سَلَّمَ صَاحِبُ الْغَلَّةِ الْمَبِيعَ فَلِأَنَّ مِلْكَ الرَّقَبَةِ لِصَاحِبِ الرَّقَبَةِ، وَأَنَّهُ يَقْتَضِي النَّفَاذَ إلَّا أَنَّ حَقَّ صَاحِبِ الْغَلَّةِ مُتَعَلِّقٌ بِهِ، فَإِذَا أَجَازَ فَقَدْ رَضِيَ بِإِبْطَالِ حَقِّهِ، فَزَالَ الْمَانِعُ فَنَفَذَ، وَبَطَلَتْ وَصِيَّةُ صَاحِبِ الْغَلَّةِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا أَوْصَى لَهُ بِالْغَلَّةِ فِي مِلْكِ الْمُوصَى لَهُ بِالرَّقَبَةِ، وَقَدْ زَالَ مِلْكُهُ عَنْ الرَّقَبَةِ، وَلَا حَقَّ لَهُ فِي الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ بَدَلُ الرَّقَبَةِ وَلَا مِلْكَ لَهُ فِي الرَّقَبَةِ.
وَلَوْ أَوْصَى لَهُ بِغَلَّةِ بُسْتَانِهِ فَأَغَلَّ الْبُسْتَانُ سَنَتَيْنِ قَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي ثُمَّ مَاتَ الْمُوصِي لَمْ يَكُنْ لِلْمُوصَى لَهُ مِنْ تِلْكَ الْغَلَّةِ شَيْءٌ إنَّمَا لَهُ الْغَلَّةُ الَّتِي فِيهِ يَوْمَ يَمُوتُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْوَصِيَّةَ إيجَابُ الْمِلْكِ عِنْدَ الْمَوْتِ، فَتَكُونُ لَهُ الثَّمَرَةُ الَّتِي فِيهِ يَوْمَ الْمَوْتِ، وَمَا يَحْدُثُ بَعْدَ الْمَوْتِ لَا مَا كَانَ قَبْلَ الْمَوْتِ.
فَإِنْ اشْتَرَى الْمُوصَى لَهُ الْبُسْتَانَ مِنْ الْوَرَثَةِ بَعْدَ مَوْتِهِ جَازَ الشِّرَاءُ، وَبَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَ الْعَيْنَ بِالشِّرَاءِ، فَاسْتَغْنَى بِمِلْكِهَا عَنْ الْوَصِيَّةِ كَمَنْ اسْتَعَارَ شَيْئًا، ثُمَّ اشْتَرَاهُ أَنَّهُ تَبْطُلُ الْإِعَارَةُ.
وَكَمَنْ تَزَوَّجَ أَمَةَ إنْسَانٍ ثُمَّ اشْتَرَاهَا يَبْطُلُ النِّكَاحُ لِمَا قُلْنَا، كَذَا هَذَا.
وَكَذَلِكَ لَوْ أَعْطَوْهُ شَيْئًا عَلَى أَنْ يَبْرَأَ مِنْ الْغَلَّةِ.
وَكَذَلِكَ سُكْنَى الدَّارِ، وَخِدْمَةُ الْعَبْدِ إذَا صَالَحُوهُ مِنْهُ عَلَى شَيْءٍ جَازَ، وَتَبْطُلُ الْوَصِيَّةُ؛ لِأَنَّ لَهُ حَقًّا، وَقَدْ أُسْقِطَ حَقُّهُ بِعِوَضٍ، فَجَازَ كَالْخُلْعِ، وَالطَّلَاقِ عَلَى مَالٍ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ.
(وَأَمَّا) الْوَصِيَّةُ بِأَمْرٍ مُتَعَلِّقٍ بِالْمَالِ فَالْوَصِيَّةُ بِالْعِتْقِ، وَالْوَصِيَّةُ بِالْإِعْتَاقِ، وَالْوَصِيَّةُ بِالْإِنْفَاقِ، وَالْوَصِيَّةُ بِالْقُرَبِ مِنْ الْفَرَائِضِ، وَالْوَاجِبَاتِ، وَالنَّوَافِلِ (أَمَّا) الْوَصِيَّةُ بِالْعِتْقِ فَحُكْمُهَا ثُبُوتُ الْعِتْقِ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي بِلَا فَصْلٍ، كَمَا إذَا قَالَ وَهُوَ مَرِيضٌ أَوْ صَحِيحٌ: أَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي، أَوْ قَالَ: دَبَّرْتُك أَوْ أَنْتَ مُدَبَّرٌ أَوْ إنْ مِتَّ مِنْ مَرْضِي هَذَا أَوْ فِي سَفَرِي هَذَا فَأَنْتَ حُرٌّ، فَمَاتَ مِنْ مَرَضِهِ ذَلِكَ أَوْ سَفَرِهِ ذَلِكَ يُعْتَقُ مِنْ غَيْرِ الْحَاجَةِ إلَى إعْتَاقِ أَحَدٍ؛ لِأَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ: أَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي، أَوْ بَعْدَ مَوْتِي مِنْ هَذَا الْمَرَضِ، أَوْ فِي هَذَا السَّفَرِ، وَيُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ الثُّلُثُ، فَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ يَخْرُجُ كُلُّهُ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ يُعْتَقْ كُلُّهُ، وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ كُلُّهُ يُعْتَقْ مِنْهُ بِقَدْرِ مَا يَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ سِوَاهُ يُعْتَقْ ثُلُثُهُ، وَيَسْعَى فِي الثُّلُثَيْنِ لِلْوَرَثَةِ؛ لِأَنَّ هَذَا كُلَّهُ وَصِيَّةٌ، فَلَا تُنَفَّذُ فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ إلَّا بِإِجَازَةِ الْوَرَثَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ.
(وَأَمَّا) الْوَصِيَّةُ بِالْإِعْتَاقِ فَحُكْمُهَا وُجُوبُ الْإِعْتَاقِ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي، وَلَا يُعْتَقُ مِنْ غَيْرِ إعْتَاقٍ مِنْ الْوَارِثِ أَوْ الْوَصِيِّ أَوْ الْقَاضِي، وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ كُلَّ عِتْقٍ تَأَخَّرَ عَنْ مَوْتِ الْمُوصِي وَلَوْ بِسَاعَةٍ، لَا يَثْبُتُ، وَلَا يُعْتَقُ مِنْ غَيْرِ إعْتَاقٍ، كَمَا إذَا قَالَ: هُوَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي بِسَاعَةٍ أَوْ بِأَقَلَّ أَوْ بِأَكْثَرَ؛ لِأَنَّ غَرَضَ الْمُوصِي هُوَ عِتْقُ الْعَبْدِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالْعِتْقُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ الْإِعْتَاقِ وَلَا يُمْكِنُ جَعْلُ الْمُوصِي مُعْتِقًا بَعْدَ الْمَوْتِ فَكَانَ أَمْرًا بِالْإِعْتَاقِ دَلَالَةً، فَيُعْتِقُ الْوَارِثُ أَوْ الْوَصِيُّ أَوْ الْقَاضِي.
(وَأَمَّا) الْوَصِيَّةُ بِإِعْتَاقِ نَسَمَةٍ، وَهِيَ أَنْ يُوصِيَ بِأَنْ يُشْتَرَى رَقَبَةٌ، فَتُعْتَقَ عَنْهُ، وَالنَّسَمَةُ اسْمٌ لِرَقَبَةٍ تُشْتَرَى لِلْعِتْقِ فَحُكْمُهَا حُكْمُ وُجُوبِ الشِّرَاءِ، وَالْإِعْتَاقُ يُعْتَبَرُ مِنْ الثُّلُثِ.
وَلَوْ أَوْصَى أَنْ يُعْتَقَ عَنْهُ نَسَمَةٌ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ فَلَمْ يَبْلُغْ ثُلُثُ مَالِهِ مِائَةَ دِرْهَمٍ لَمْ يُعْتَقْ عَنْهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا يُعْتَقُ عَنْهُ بِالثُّلُثِ.
وَلَوْ أَوْصَى بِأَنْ يُحَجَّ عَنْهُ بِمِائَةٍ وَثُلُثُ مَالِهِ لَا يَبْلُغُ مِائَةً، فَإِنَّهُ يُحَجُّ عَنْهُ مِنْ حَيْثُ يَبْلُغُ بِالْإِجْمَاعِ (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ تَنْفِيذَ الْوَصِيَّةِ وَاجِبٌ مَا أَمْكَنَ، وَالتَّقْدِيرُ بِالْمِائَةِ لَا يَقْتَضِي التَّنْفِيذَ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ إنَّمَا قَدَّرَ ظَنًّا مِنْهُ أَنَّ ثُلُثَ مَالِهِ يَبْلُغُ ذَلِكَ أَوْ رَجَاءَ إجَازَةِ الْوَرَثَةِ، فَإِذَا لَمْ يَبْلُغْ ذَلِكَ أَوْ لَمْ تُجِزْ الْوَرَثَةُ يَجِبُ تَنْفِيذُهَا فِيمَا دُونَ ذَلِكَ، كَمَا فِي الْوَصِيَّةِ بِالْحَجِّ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ أَوْصَى بِعِتْقِ عَبْدٍ يُشْتَرَى بِمِائَةِ دِرْهَمٍ فَلَوْ نَفَّذْنَا الْوَصِيَّةَ فِي عَبْدٍ يُشْتَرَى بِخَمْسِينَ كَانَ ذَلِكَ تَنْفِيذَ الْوَصِيَّةِ لِغَيْرِ مَنْ أَوْصَى لَهُ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْعَبْدِ فِي الْحَقِيقَةِ فَهُوَ الْمُوصَى لَهُ، وَقَدْ جَعَلَ الْوَصِيَّةَ بِعَبْدٍ مَوْصُوفٍ بِأَنَّهُ يُشْتَرَى بِمِائَةٍ، وَالْمُشْتَرَى بِدُونِ الْمِائَةِ غَيْرُ الْمُشْتَرَى بِمِائَةٍ، فَلَا يُمْكِنُ تَنْفِيذُ الْوَصِيَّةِ لَهُ بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ بِالْحَجِّ فَإِنَّهَا وَصِيَّةٌ بِالْوُصُولِ إلَى الْبَيْتِ، وَأَنَّهُ يَحْصُلُ بِالْحَجِّ عَنْهُ مِنْ حَيْثُ يَبْلُغُ الثُّلُثَ.
وَعَلَى هَذَا إذَا أَوْصَى أَنْ يُعْتَقَ عَنْهُ نَسَمَةٌ بِجَمِيعِ مَالِهِ فَلَمْ تُجِزْ ذَلِكَ الْوَرَثَةُ لَمْ يُشْتَرَ بِهِ شَيْءٌ، وَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَعِنْدَهُمَا يُشْتَرَى بِالثُّلُثِ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى، وَقَدْ ذَكَرْنَا وَجْهَ الْقَوْلَيْنِ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ.
(وَأَمَّا) الْوَصِيَّةُ بِالْإِنْفَاقِ عَلَى فُلَانٍ، وَأَوْصَى بِالْقُرَبِ فَحُكْمُهَا وُجُوبُ فِعْلِ مَا دَخَلَ تَحْتَ الْوَصِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ هَكَذَا أَوْصَى، وَيُعْتَبَرُ