لِلْحَالِ فَيُعْتَبَرُ فِيهِمَا حَالَ الْعَقْدِ، فَإِذَا كَانَ صَحِيحًا فَلَا حَقَّ لِأَحَدٍ فِي مَالِهِ فَيَجُوزُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ وَإِذَا كَانَ مَرِيضًا كَانَ حَقُّ الْوَرَثَةِ مُتَعَلِّقًا بِمَالِهِ، فَلَا يَجُوزُ إلَّا فِي قَدْرِ الثُّلُثِ، وَكَذَا الْإِعْتَاقُ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ، وَالْبَيْعُ، وَالْمُحَابَاةُ قَدْرَ مَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ، وَإِبْرَاءُ الْغَرِيمِ، وَالْعَفْوُ عَنْ دَمِ الْخَطَأِ يُعْتَبَرُ ذَلِكَ كُلُّهُ مِنْ الثُّلُثِ كَالْهِبَةِ، وَالصَّدَقَةِ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْوَرَثَةِ بِمَالِ الْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ فِيمَا وَرَاءَ الثُّلُثِ.
وَيَجُوزُ الْعَفْوُ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ، وَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الثُّلُثُ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْوَرَثَةِ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَالِ، وَالْقِصَاصُ لَيْسَ بِمَالٍ.
وَكَذَا إنْ شَاءَ الْكَفَالَةَ بِالدِّينِ فِي حَالِ الْمَرَضِ، وَضَمَانِ الدَّرْكِ؛ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ بِالْتِزَامِ الدَّيْنِ فَيُعْتَبَرُ مِنْ الثُّلُثِ كَمَا تُعْتَبَرُ الْهِبَةُ؛ لِأَنَّهُ يُتَّهَمُ فِيهِ كَمَا يُتَّهَمُ فِي الْهِبَةِ.
وَلَوْ أَقَرَّ فِي مَرَضِهِ بِكَفَالَتِهِ بِالدَّيْنِ حَالَ صِحَّتِهِ فَحُكْمُ هَذَا الدَّيْنِ حُكْمُ دَيْنِ الْمَرَضِ حَتَّى لَا يُصَدَّقَ فِي حَقِّ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ، وَيَكُونُ الْمَكْفُولُ لَهُ مَعَ غُرَمَاءِ الْمَرَضِ سَوَاءً، وَلَوْ كَفَلَ فِي صِحَّتِهِ، وَأَضَافَ ذَلِكَ إلَى مَا يُسْتَقْبَلُ بِأَنْ قَالَ لِلْمَكْفُولِ لَهُ: كُفِلْتَ بِمَا يَذُوبُ لَك عَلَى فُلَانٍ، ثُمَّ وَجَبَ لَهُ عَلَى فُلَانٍ دِينٌ فِي حَالِ مَرَضِ الْكَفِيلِ فَحُكْمُ هَذَا الدِّينِ، وَحُكْمُ دَيْنِ الصِّحَّةِ سَوَاءٌ حَتَّى يَضْرِبَ الْمَكْفُولُ لَهُ بِجَمِيعِ مَا يَضْرِبُ بِهِ غَرِيمُ الصِّحَّةِ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَة وُجِدَتْ فِي حَالَةِ الصِّحَّةِ.
وَعَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِيمَنْ أَوْصَى لِأُمِّ وَلَدِهِ فِي حَيَاتِهِ وَصِحَّتِهِ، ثُمَّ مَاتَ أَنَّهُ مِيرَاثٌ، وَلَوْ أَوْصَى عِنْدَ مَوْتِهِ لَهَا بِوَصِيَّةٍ فَهِيَ لَهَا مِنْ الثُّلُثِ، وَالْأَوَّلُ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا أَعْطَاهَا شَيْئًا فِي حَيَاتِهِ عَلَى وَجْهِ الْهِبَةِ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ مِنْهَا لَا تُتَصَوَّرُ حَقِيقَةً لِكَوْنِهَا تَمْلِيكًا، وَهِيَ لَيْسَتْ مِنْ أَهْلِ الْمِلْك؛ لِأَنَّهَا مَمْلُوكَةٌ، وَالثَّانِي يُجْرَى عَلَى ظَاهِرِهِ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالْمَالِ إيجَابُ الْمِلْكِ عِنْدَ الْمَوْتِ، وَهِيَ عِنْدَ الْمَوْتِ مِنْ أَهْلِ الْمِلْكِ لِكَوْنِهَا حُرَّةً، فَكَانَتْ مِنْ أَهْلِ الْوَصِيَّةِ لَهَا.
وَلَوْ أَوْصَى بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ، وَلَا وَارِثَ لَهُ تَجُوزُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا تَجُوزُ إلَّا مِنْ الثُّلُث، وَالْمَسْأَلَةُ ذَكَرْنَاهَا فِي كِتَابِ الْوَلَاءِ.
وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ لَهُ وَارِثٌ وَأَجَازَ الزِّيَادَةَ عَلَى الثُّلُثِ؛ لِأَنَّ امْتِنَاع النَّفَاذِ فِي الزِّيَادَةِ لَحِقَهُ، وَإِلَّا فَالْمَنْفَذُ لِلتَّصَرُّفِ، وَهُوَ الْمِلْكُ - قَائِمٌ فَإِذَا أَجَازَ فَقَدْ زَالَ الْمَانِعُ، ثُمَّ إذَا جَازَتْ بِإِجَازَتِهِ فَالْمُوصَى لَهُ يَمْلِكُ الزِّيَادَةَ مِنْ قِبَلِ الْمُوصِي لَا مِنْ قِبَلِ الْوَارِثِ، فَالزِّيَادَةُ جَوَازُهَا جَوَازُ وَصِيَّتِهِ مِنْ الْمُوصِي، لَا جَوَازُ عَطِيَّةٍ مِنْ الْوَارِثِ، وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: جَوَازُهَا جَوَازُ هِبَةٍ، وَعَطِيَّةٍ حَتَّى يَقِفَ ثُبُوتُ الْمِلْكِ فِيهَا عَلَى الْقَبْضِ عِنْدَهُ، وَعِنْدَنَا لَا يَقِفُ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِ: أَنَّ النَّفَاذَ لَمَّا، وَقَفَ عَلَى إجَازَةِ الْوَارِثِ فَدَلَّ أَنَّ الْإِجَازَةَ هِبَةٌ مِنْهُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْوَارِثَ لَوْ أَجَازَ الْوَصِيَّةَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ تُعْتَبَرُ إجَازَتُهُ مِنْ ثُلُثِهِ وَثَبَتَ أَنَّ التَّمْلِيكَ مِنْهُ.
(وَلَنَا) أَنَّ الْمُوصِيَ بِالْوَصِيَّةِ مُتَصَرِّفٌ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ النَّفَاذُ لِصُدُورِ التَّصَرُّفِ مِنْ الْأَهْلِ فِي الْمَحِلِّ، وَإِنَّمَا الِامْتِنَاعُ لِمَانِعٍ، وَهُوَ حَقُّ الْوَارِثِ، فَإِذَا أَجَازَ فَقَدْ أَزَالَ الْمَانِعَ، وَيَنْفُذُ بِالسَّبَبِ السَّابِقِ لَا بِإِزَالَةِ الْمَانِعِ؛ لِأَنَّ إزَالَتَهُ شَرْطٌ، وَالْحُكْمُ بَعْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ يُضَافُ إلَى السَّبَبِ لَا إلَى الشَّرْطِ، وَيَتَوَقَّفُ ثُبُوتُهُ عَلَى السَّبَبِ فِي الْحَقِيقَةِ لَا عَلَى الشَّرْطِ؛ لِأَنَّ الشُّرُوطَ كُلَّهَا شُرُوطُ الْأَسْبَابِ، لَا شُرُوطُ الْأَحْكَام عَلَى مَا عُرِفَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَقَدْ خُرِّجَ الْجَوَابُ عَمَّا ذُكِرَ.
(وَأَمَّا) إجَازَتُهُ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ - فَإِنَّمَا اُعْتُبِرَتْ مِنْ ثُلُثِهِ لَا لِكَوْنِ الْإِجَازَةِ مِنْهُ تَمْلِيكًا، وَإِيجَابًا لِلْمِلْكِ؛ لِأَنَّ الْإِجَازَةَ لَا تُنَبِّئُ عَنْ التَّمْلِيكِ بَلْ هِيَ إزَالَةُ الْمَانِعِ عَنْ وُقُوعِ التَّصَرُّفِ تَمْلِيكًا بِإِسْقَاطِ الْحَقِّ عَنْ مَالِ التَّصَرُّفِ، وَهُوَ مُتَبَرِّعٌ فِي هَذَا الْإِسْقَاطِ فَيُعْتَبَرُ تَبَرُّعُهُ مِنْ الثُّلُثِ كَمَا يُعْتَبَرُ تَبَرُّعُهُ بِالتَّمْلِيكِ بِالْهِبَةِ مِنْ الثُّلُثِ فَإِنْ أَجَازَ بَعْضُ الْوَرَثَةِ، وَرَدَّ بَعْضُهُمْ جَازَتْ الْوَصِيَّةُ بِقَدْرِ حِصَّةِ الْمُجِيزِ مِنْهُمْ، وَبَطَلَتْ بِقَدْرِ أَنْصِبَاءِ الرَّادِّينَ؛ لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وِلَايَةَ الْإِجَازَةِ وَالرَّدِّ فِي قَدْرِ حِصَّتِهِ فَتَصَرُّفُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي نَصِيبِهِ صَدَرَ عَنْ وِلَايَةٍ شَرْعِيَّةٍ فَيَنْفُذُ، ثُمَّ إنَّمَا تُعْتَبَرُ إجَازَةُ مَنْ أَجَازَ إذَا كَانَ الْمُجِيزُ مِنْ أَهْلِ الْإِجَازَةِ بِأَنْ كَانَ بَالِغًا عَاقِلًا.
فَإِنْ كَانَ مَجْنُونًا أَوْ صَبِيًّا لَا يَعْقِلُ لَا تُعْتَبَرُ إجَازَتُهُ، فَإِنْ كَانَ عَاقِلًا بَالِغًا لَكِنَّهُ مَرِيضٌ مَرَضَ الْمَوْتِ - جَازَتْ إجَازَتُهُ، ثُمَّ إنْ كَانَ الْوَارِثُ وَاحِدًا كَانَتْ إجَازَتُهُ بِمَنْزِلَةِ ابْتِدَاءِ الْوَصِيَّةِ حَتَّى لَوْ كَانَ الْمُوصَى لَهُ وَارِثَهُ لَا تَجُوزُ إجَازَتُهُ إلَّا أَنْ تُجِيزَهَا وَرَثَةُ الْمَرِيضِ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَإِنْ كَانَ أَجْنَبِيًّا تَجُوزُ إجَازَتُهُ، وَتُعْتَبَرُ مِنْ الثُّلُثِ، ثُمَّ وَقْتُ الْإِجَازَةِ هُوَ مَا بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي، وَلَا تُعْتَبَرُ الْإِجَازَةُ حَالَ حَيَاتِهِ حَتَّى إنَّهُمْ لَوْ أَجَازُوا فِي حَيَاتِهِ لَهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا عَنْ ذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ -: تَجُوزُ إجَازَتُهُمْ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَحَالَ حَيَاتِهِ، وَإِذَا أَجَازُوا فِي حَيَاتِهِ فَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا بَعْدَ مَوْتِهِ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُمْ إذَا أَجَازُوا بَعْدَ مَوْتِهِ لَيْسَ لَهُمْ أَنْ