هَذِي الْأَرَامِلُ قَدْ قَضَيْتَ حَاجَتَهَا ... فَمَنْ لِحَاجَةِ هَذَا الْأَرْمَلِ الذَّكَرِ
أَطْلَقَ اسْمَ الْأَرْمَلِ عَلَى الرَّجُلِ.
(وَلَنَا) أَنَّ حَقِيقَةَ هَذَا الِاسْمِ لِلْمَرْأَةِ لِمَا ذَكَرْنَا عَنْ مُحَمَّدٍ، وَهُوَ مِنْ كِبَارِ أَهْلِ اللُّغَةِ رَوَى عَنْهُ أَبُو عَبِيدٍ وَأَبُو الْعَبَّاسِ ثَعْلَبٌ وَأَقْرَانُهُمْ كَمَا رُوِينَا عَنْ الْخَلِيلِ، وَالْأَصْمَعِيِّ، وَأَقْرَانِهِمَا.
وَقَالَ الْخَلِيلُ: يُقَالُ: امْرَأَةٌ أَرْمَلَةُ، وَلَا يُقَالُ: رَجُلٌ أَرْمَلُ إلَّا فِي الْمَلِيحِ مِنْ الشِّعْرِ.
وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يُقَالُ: رَجُلٌ أَرْمَلُ إلَّا فِي الشِّعْرِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَلِأَنَّ الِاسْمَ لَمَّا كَانَ مُشْتَقًّا مِنْ قَوْلِهِمْ أَرْمَلَ الْقَوْمُ إذَا، فَنِيَ زَادُهُمْ، فَالْمَرْأَةُ هِيَ الَّتِي فَنِيَ زَادُهَا بِمَوْتِ زَوْجِهَا؛ لِأَنَّ النَّفَقَةَ عَلَى الزَّوْجِ لَا عَلَى الْمَرْأَةِ، فَإِذَا مَاتَ، فَقَدْ فَنِيَ زَادُهَا، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ قَوْلَ جَرِيرٍ مَحْمُولٌ عَلَى مَلِيحِ الشِّعْرِ كَمَا قَالَ الْخَلِيلُ أَوْ هُوَ شَاذٌّ كَمَا قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ، أَوْ لِازْدِوَاجِ الْكَلَامِ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40] .
وَقَالَ تَعَالَى {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] ، وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126] .
وَكَمَا قَالَ الشَّاعِر:
، فَإِنْ تَنْكِحِي أَنْكِحْ وَإِنْ تَتَأَيَّمِي ... مَدَى الدَّهْرِ مَا لَمْ تَنْكِحِي أَتَأَيَّمْ
(وَمَعْلُومٌ) أَنَّ الرَّجُلَ لَا يُسَمَّى أَيِّمًا لَكِنْ أُطْلِقَ عَلَيْهِ لِازْدِوَاجِهِ بِقَوْلِهِ، وَإِنْ تَتَأَيَّمِي كَذَا هَهُنَا، وَإِطْلَاقُ الِاسْمِ لَا يَنْصَرِفُ إلَى مَا لَا يُذْكَرُ إلَّا لِضَرُورَةِ تَمْلِيحِ الشِّعْرِ، وَازْدِوَاجِ الْكَلَامِ، أَوْ فِي الشُّذُوذِ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ الِاسْمِ يَنْصَرِفُ إلَى مَا تَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْأَفْهَام وَالْأَوْهَامُ، وَذَلِكَ مَا قُلْنَا، وَلَوْ أَوْصَى لِأَيَامَى بَنِي فُلَانٍ، فَإِنْ كُنَّ يُحْصَيْنَ؛ جَازَتْ الْوَصِيَّةُ لِمَا قُلْنَا، وَإِنْ كُنَّ لَا يُحْصَيْنَ لَا تَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي لَفْظِ الْأَيِّمِ مَا يُنْبِئُ عَنْ الْحَاجَةِ لِتُجْعَلَ، وَصِيَّتَهُ بِالصَّدَقَةِ؛ لِأَنَّ الْأَيِّمَ فِي اللُّغَةِ اسْمٌ لِامْرَأَةٍ جُومِعَتْ فِي قُبُلِهَا، وَفَارَقَهَا زَوْجُهَا، وَشَرَحَهُ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ الْأَيِّمُ كُلُّ امْرَأَةٍ جُومِعَتْ بِنِكَاحٍ جَائِزٍ أَوْ فَاسِدٍ أَوْ فُجُورٍ، وَلَا زَوْجَ لَهَا غَنِيَّةً كَانَتْ أَوْ فَقِيرَةً صَغِيرَةً كَانَتْ أَوْ كَبِيرَةً، وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْمَعَانِي مَا يُنْبِئُ عَنْ الْحَاجَةِ، فَلَا يَكُونُ إيصَاءً بِالتَّصَدُّقِ، بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ لِأَرَامِلِ بَنِي فُلَانٍ، وَهُنَّ لَا يُحْصَيْنَ إنَّهَا جَائِزَةٌ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْأَرْمَلَةِ يُنْبِئُ عَنْ الْحَاجَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، فَجُعِلَ وَصِيَّةً بِالصَّدَقَةِ، ثُمَّ إذَا كُنَّ يُحْصَيْنَ حَتَّى جَازَتْ الْوَصِيَّةُ يَدْخُلُ فِيهَا الصَّغِيرَةُ، وَالْبَالِغَةُ، وَالْغَنِيَّةُ وَالْفَقِيرَةُ؛ لِأَنَّ الِاسْمَ فِي اللُّغَةِ لَا يَتَعَرَّضُ لِمَا سِوَى الْأُنُوثَةِ وَحُلُولِ الْجِمَاعِ بِهَا فِي قُبُلِهَا وَفِرَاقِهَا زَوْجَهَا.
وَقَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور: 32] ، وَأَنَّهُ يَتَنَاوَلُ الْكَبِيرَةَ وَالصَّغِيرَةَ حَتَّى يَجُوزَ إنْكَاحُ الصِّغَارِ، كَمَا يَجُوزُ إنْكَاحُ الْكِبَارِ، وَكَذَا لَا يَتَعَرَّضُ لِلْفَقْرِ وَالْغِنَى؛ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَالَ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور: 32] ، وَلَوْ كَانَ مُتَعَرِّضًا لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ، وَتَعَالَى {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ} [النور: 32] مَعْنًى، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا أَنَّ الْأَيِّمَ اسْمٌ لِامْرَأَةِ جُومِعَتْ فِي قُبُلهَا، فَارَقَهَا زَوْجُهَا قَوْلُ عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ.
وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الصَّفَّارُ الْبَلْخِيّ، وَأَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - إنَّ الْجِمَاعَ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِثُبُوتِ هَذَا الِاسْمِ.
وَكَذَا الْأُنُوثَةُ بَلْ يَقَعُ هَذَا الِاسْمُ عَلَى الْمَدْخُولِ بِهَا وَعَلَى الْبِكْرِ، وَيَقَعُ عَلَى الرَّجُلِ كَمَا يَقَعُ عَلَى الْمَرْأَةِ، وَاحْتَجَّا بِقَوْلِ الشَّاعِرِ
إنَّ الْقُبُورَ تَنْكِحُ الْأَيَامَى ... النِّسْوَةَ الْأَرَامِلَ الْيَتَامَى
، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْقَبْرَ يَضُمُّ الْبِكْرَ إلَى نَفْسِهِ كَمَا يَضُمُّ الثَّيِّبَ.
وَقَالَ الشَّاعِرُ:
فَإِنْ تَنْكِحِي أَنْكِحْ وَإِنْ تَتَأَيَّمِي ... مَدَى الدَّهْرِ مَا لَمْ تَنْكِحِي أَتَأَيَّمْ
أَيْ أَمْكُثُ بِلَا زَوْجٍ مَا مَكَثْتِ أَنْتِ بِلَا زَوْجٍ.
وَقَالَ آخَرُ:
فَلَا تَنْكِحَنْ جَبَّارَةً إنَّ شَرَّهَا ... عَلَيْك حَرَامٌ فَانْكِحَنْ أَوْ تَأَيَّمَا
، وَالْجَوَابُ أَنَّ حَقِيقَةَ اللُّغَةِ مَا حَكَيْنَا عَنْ نَقَلَةِ اللُّغَةِ، وَهُمْ أَهْلُ دَقَائِقِ الْأَلْفَاظِ، فَيُقْبَلُ نَقْلُهُمْ إيَّاهُ فِيمَا وُضِعَتْ لَهُ، وَمَا وَرَدَ فِي اسْتِعْمَالِ بَعْضِ الْفُصَحَاءِ مَعْدُولًا بِهِ عَنْ تِلْكَ الْحَقَائِقِ، فَحُمِلَ عَلَى الْمَجَازِ إمَّا بِطَرِيقِ الْمُقَابَلَةِ، وَالِازْدِوَاجِ أَوْ بِاعْتِبَارِ بَعْضِ الْمَعَانِي الَّتِي وُضِعَ لَهَا الِاسْمُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْأُنُوثَةَ أَصْلٌ، وَأَنَّهُ لَا يَقَعُ عَلَى الذَّكَرِ أَنَّهُ لَا يُدْخَلُ عَلَامَةُ التَّأْنِيثِ فِيهِ يُقَالُ: امْرَأَةٌ أَيِّمٌ، وَلَا يُقَالُ أَيِّمَةٌ، وَلَوْ كَانَ الِاسْمُ يَتَنَاوَلُ الذَّكَرَ، وَالْأُنْثَى لَفَرَّقُوا بَيْنَهُمَا بِإِدْخَالِ عَلَامَةِ التَّأْنِيثِ فِي الْمَرْأَةِ، وَذَكَرَ الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ أَنَّ مَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي صِفَةِ الْأَيِّمِ جُومِعَتْ بِفُجُورٍ، أَوْ غَيْرِ فُجُورٍ مَذْهَبُهُمَا، فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الَّتِي جُومِعَتْ بِفُجُورٍ لَا تَدْخُلُ فِي هَذِهِ الْوَصِيَّةِ؛ لِأَنَّ الَّتِي جُومِعَتْ بِفُجُورٍ بِكْرٌ لَا أَيِّمٌ عِنْدَهُ حَتَّى