فَانْهَدَمَ الْمَسْجِدُ، وَقَدْ اجْتَمَعَ مِنْ غَلَّتِهَا شَيْءٌ أُنْفِقَ ذَلِكَ فِي بِنَائِهِ؛ لِأَنَّهُ بِالِانْهِدَامِ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَسْجِدًا، وَقَدْ أَوْصَى لَهُ بِغَلَّتِهَا، فَتُنْفَقُ فِي بِنَائِهِ وَعِمَارَتِهِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ مَمْلُوكًا لِلْمُوصِي إذَا كَانَتْ الْوَصِيَّةُ بِدَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ مُسَمَّاةٍ، أَوْ بِشَيْءٍ مُعَيَّنٍ مِنْ مَالِهِ سِوَى رَقَبَةِ الْعَبْدِ حَتَّى لَوْ أَوْصَى لِعَبْدِهِ بِدَرَاهِمَ، أَوْ دَنَانِيرَ مُسَمَّاةٍ، أَوْ بِشَيْءٍ مُعَيَّنٍ مِنْ مَالِهِ سِوَى رَقَبَةِ الْعَبْدِ لَا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ؛ لِأَنَّهُ إذْ ذَاكَ يَكُونُ مُوصِيًا لِنَفْسِهِ، وَلَوْ أَوْصَى لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ رَقَبَتِهِ بِأَنْ أَوْصَى لَهُ بِثُلُثِ رَقَبَتِهِ جَازَ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لَهُ بِثُلُثِ رَقَبَتِهِ تَمْلِيكُ ثُلُثِ رَقَبَتِهِ مِنْهُ، وَتَمْلِيكُ نَفْسِ الْعَبْدِ مِنْهُ يَكُونُ إعْتَاقًا، فَيَصِيرُ ثُلُثُهُ مُدَبَّرَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَعِنْدَهُمَا يَصِيرُ كُلُّهُ مُدَبَّرًا؛ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ يَتَجَزَّأُ عِنْدَهُ كَالْإِعْتَاقِ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَتَجَزَّأُ.
وَلَوْ أَوْصَى لَهُ بِثُلُثِ مَالِهِ؛ جَازَتْ وَصِيَّتُهُ، وَعَتَقَ ثُلُثُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ؛ لِأَنَّ رَقَبَتَهُ دَخَلَتْ فِي الْوَصِيَّةِ؛ لِأَنَّهَا مَالُهُ، فَوَقَعَتْ الْوَصِيَّةُ عَلَيْهَا وَعَلَى سَائِرِ أَمْلَاكِهِ، ثُمَّ يُنْظَرُ إنْ كَانَ مَالُهُ دَرَاهِمَ وَدَنَانِيرَ يُنْظَرُ إلَى ثُلُثِي الْعَبْدِ، فَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ ثُلُثِي الْعَبْدِ مِثْلَ مَا وَجَبَ لَهُ فِي سَائِرِ أَمْوَالِهِ صَارَ قِصَاصًا، وَإِنْ كَانَ فِي الْمَالِ زِيَادَةٌ تُدْفَعُ إلَيْهِ الزِّيَادَةُ، وَإِنْ كَانَ فِي ثُلُثِي قِيمَةِ الْعَبْدِ زِيَادَةٌ تُدْفَعُ الزِّيَادَةُ إلَى الْوَرَثَةِ، وَإِنْ كَانَتْ التَّرِكَةُ عُرُوضًا لَا تَصِيرُ قِصَاصًا إلَّا بِالتَّرَاضِي لِاخْتِلَافِ الْجِنْسِ وَعَلَيْهِ أَنْ يَسْعَى فِي ثُلُثِي قِيمَتِهِ، وَلَهُ الثُّلُثُ مِنْ سَائِرِ أَمْوَالِهِ، وَلِلْوَرَثَةِ أَنْ يَبِيعُوا الثُّلُثَ مِنْ سَائِرِ أَمْوَالِهِ حَتَّى تَصِلَ إلَيْهِمْ السِّعَايَةُ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَأَمَّا عِنْدَهُمَا صَارَ كُلُّهُ مُدَبَّرًا، فَإِذَا مَاتَ عَتَقَ كُلُّهُ وَيَكُونُ الْعِتْقُ مُقَدَّمًا عَلَى سَائِرِ الْوَصَايَا.
فَإِنْ زَادَ الثُّلُثُ عَلَى مِقْدَارِ قِيمَتِهِ، فَعَلَى الْوَرَثَةِ أَنْ يَدْفَعُوا إلَيْهِ، فَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَكْثَرَ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْعَى فِي الْفَضْلِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ مَجْهُولًا جَهَالَةً لَا يُمْكِنُ إزَالَتُهَا، فَإِنْ كَانَ لَمْ تَجُزْ الْوَصِيَّةُ لَهُ؛ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ الَّتِي لَا يُمْكِنُ اسْتِدْرَاكُهَا تَمْنَعُ مِنْ تَسْلِيمِ الْمُوصَى بِهِ إلَى الْمُوصَى لَهُ، فَلَا تُفِيدُ الْوَصِيَّةُ وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِرَجُلٍ مِنْ النَّاسِ إنَّهُ لَا يَصِحُّ بِلَا خِلَافٍ، وَلَوْ أَوْصَى لِأَحَدِ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ لَا يَصِحُّ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
وَعِنْدَهُمَا يَصِحُّ غَيْرَ أَنَّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْوَصِيَّةُ تَكُونُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْخِيَارُ إلَى الْوَارِثِ يُعْطَى أَيُّهُمَا شَاءَ.
(وَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْإِيجَابَ وَقَعَ صَحِيحًا؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا وَإِنْ كَانَ مَجْهُولًا، وَلَكِنَّ هَذِهِ جَهَالَةٌ تُمْكِنُ إزَالَتُهَا أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُوصِي لَوْ عَيَّنَ أَحَدَهُمَا حَالَ حَيَّاتِهِ لَتَعَيَّنَ، ثُمَّ إنَّ مُحَمَّدًا يَقُولُ: لَمَّا مَاتَ عَجَزَ عَنْ التَّعْيِينِ بِنَفْسِهِ، فَيَقُومُ وَارِثُهُ مَقَامَهُ فِي التَّعْيِينِ وَأَبُو يُوسُفَ يَقُولُ: لَمَّا مَاتَ قَبْلَ التَّعْيِينِ شَاعَتْ الْوَصِيَّةُ لَهُمَا، وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ كَمَنْ أَعْتَقَ أَحَدَ عَبْدَيْهِ، ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ الْبَيَانِ إنَّ الْعِتْقَ يَشِيعُ فِيهِمَا جَمِيعًا فَيَعْتِقُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُهُ كَذَا هَهُنَا يَكُونُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ الْوَصِيَّةِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْوَصِيَّةَ تَمْلِيكٌ عِنْدَ الْمَوْتِ، فَتَسْتَدْعِي كَوْنَ الْمُوصَى لَهُ مَعْلُومًا عِنْدَ الْمَوْتِ وَالْمُوصَى لَهُ عِنْدُ الْمَوْتِ مَجْهُولٌ، فَلَمْ تَصِحَّ الْوَصِيَّةُ مِنْ الْأَصْلِ، كَمَا لَوْ أَوْصَى لِوَاحِدٍ مِنْ النَّاسِ فَلَا يُمْكِنُ الْقَوْلُ بِالشُّيُوعِ وَلَا يُقَامُ الْوَارِثُ مَقَامَ الْمُوصِي فِي الْبَيَانِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ حُكْمُ الْإِيجَابِ الصَّحِيحِ.
وَلَمْ يَصِحَّ إلَّا أَنَّ الْمُوصِي لَوْ بَيَّنَ الْوَصِيَّةَ فِي أَحَدِهِمَا حَالَ حَيَاتِهِ صَحَّتْ؛ لِأَنَّ الْبَيَانَ إنْشَاءُ الْوَصِيَّةِ لِأَحَدِهِمَا فَكَانَ وَصِيَّةً مُسْتَأْنَفَةً لِأَحَدِهِمَا عَيْنًا، وَإِنَّهَا صَحِيحَةٌ.
وَلَوْ كَانَ عَبْدَانِ فَأَوْصَى بِأَرْفَعِهِمَا لِرَجُلٍ وَبِأَخَسِّهِمَا لِآخَرَ، ثُمَّ مَاتَ الْمُوصِي، ثُمَّ مَاتَ أَحَدُ الْعَبْدَيْنِ، وَلَا يُدْرَى أَيُّهُمَا هُوَ فَالْوَصِيَّةُ بَطَلَتْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - اجْتَمَعَا عَلَى أَخْذِ الْبَاقِي أَوْ لَمْ يَجْتَمِعَا.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إنْ اجْتَمَعَا عَلَى أَخْذِ الْبَاقِي، فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، وَإِنْ لَمْ يَجْتَمِعَا عَلَى أَخْذِهِ، فَلَا شَيْءَ لَهُمَا.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ اجْتَمَعَا، أَوْ لَمْ يَجْتَمِعَا، وَعَلَى هَذَا يُخْرِجُ الْوَصِيَّةَ لِقَوْمٍ لَا يُحْصَوْنَ أَنَّهَا بَاطِلَةٌ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي اللَّفْظِ مَا يُنْبِئُ عَنْ الْحَاجَةِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ مَا يُنْبِئُ عَنْ الْحَاجَةِ، فَالْوَصِيَّةُ جَائِزَةٌ؛ لِأَنَّهُمْ إذَا كَانُوا لَا يُحْصَوْنَ.
وَلَمْ يَذْكُرْ فِي اللَّفْظِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْحَاجَةِ، وَقَعَتْ الْوَصِيَّةُ تَمْلِيكًا مِنْهُمْ، وَهُمْ مَجْهُولُونَ، وَالتَّمْلِيكُ مِنْ الْمَجْهُولِ جَهَالَةٌ لَا يُمْكِنُ إزَالَتُهَا لَا يَصِحُّ، ثُمَّ اُخْتُلِفَ فِي تَفْسِيرِ الْإِحْصَاءِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ إنْ كَانُوا لَا يُحْصَوْنَ إلَّا بِكِتَابٍ أَوْ حِسَابٍ فَهُمْ لَا يُحْصَوْنَ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ إنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ مِائَةٍ فَهُمْ لَا يُحْصَوْنَ، وَقِيلَ إنْ كَانُوا بِحَيْثُ لَا يَحْصِيهِمْ مُحْصٍ حَتَّى يُولَدَ مِنْهُمْ مَوْلُودٌ، وَيَمُوتَ مِنْهُمْ مَيِّتٌ، فَهُمْ لَا يُحْصَوْنَ، وَقِيلَ يُفَوَّضُ إلَى رَأْيِ الْقَاضِي، وَإِنْ كَانَ فِي اللَّفْظِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْحَاجَةِ كَانَ وَصِيَّتُهُ بِالصَّدَقَةِ، وَهِيَ إخْرَاجُ الْمَالِ إلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَاحِدٌ مَعْلُومٌ فَصَحَّتْ