فَوَقْتُ الْقَبُولِ مَا بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي، وَلَا حُكْمَ لِلْقَبُولِ وَالرَّدِّ قَبْلَ مَوْتِهِ حَتَّى لَوْ رَدَّ قَبْلَ الْمَوْتِ، ثُمَّ قَبِلَ بَعْدَهُ صَحَّ قَبُولُهُ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ إيجَابُ الْمِلْكِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالْقَبُولُ أَوْ الرَّدُّ يُعْتَبَرُ، كَذَا الْإِيجَابُ؛ لِأَنَّهُ جَوَابٌ، وَالْجَوَابُ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ تَقَدُّمِ السُّؤَالِ.
وَنَظِيرُهُ إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إذَا جَاءَ غَدٌ فَأَنْتِ طَالِقٌ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ أَنَّهُ إنَّمَا يُعْتَبَرُ الْقَبُولُ أَوْ الرَّدُّ إذَا جَاءَ غَدٌ كَذَا هَذَا، فَإِذَا كَانَ التَّصَرُّفُ يَقَعُ إيجَابًا بَعْدَ الْمَوْتِ يُعْتَبَرُ الْقَبُولُ بَعْدَهُ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ.
(فَصْلٌ) :
وَأَمَّا بَيَانُ مَعْنَى الْوَصِيَّةِ فَالْوَصِيَّةُ اسْمٌ لِمَا أَوْجَبَهُ الْمُوصِي فِي مَالِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ وَبِهِ تَنْفَصِلُ عَنْ الْبَيْعِ، وَالْإِجَارَةِ، وَالْهِبَةِ؛ لِأَنَّ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ لَا يَحْتَمِلُ الْإِيجَابَ بَعْدَ الْمَوْتِ أَلَا تَرَى: أَنَّهُ لَوْ أَوْجَبَهَا بَعْدَ الْمَوْتِ بَطَلَ.
وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ - فِي حَدِّ الْوَصِيَّةِ مَا أَوْجَبَهُ الْمُوصِي فِي مَالِهِ تَطَوُّعًا بَعْدَ مَوْتِهِ، أَوْ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ فَقَوْلُهُ: مَا أَوْجَبَهُ الْمُوصِي فِي مَالِهِ تَطَوُّعًا بَعْدَ مَوْتِهِ لَا يَشْمَلُ جَمِيعَ أَفْرَادِ الْوَصَايَا فَإِنَّهُ لَا يَتَنَاوَلُ الْوَصِيَّةَ بِالْقُرَبِ الْوَاجِبَةِ الَّتِي تَسْقُطُ بِالْمَوْتِ مِنْ غَيْرِ وَصِيَّةٍ: كَالْحَجِّ، وَالزَّكَاةِ، وَالْكَفَّارَاتِ، وَنَحْوِهَا فَلَمْ يَكُنْ الْحَدُّ جَامِعًا.
وَقَوْلُهُ: أَوْ فِي مَرَضِهِ حَدٌّ مُقَسَّمٌ وَأَنَّهُ فَاسِدٌ، وَكَذَا تَبَرُّعُ الْإِنْسَانِ بِمَالِهِ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ مِنْ الْإِعْتَاقِ، وَالْهِبَةِ وَالْمُحَابَاةِ، وَالْكَفَالَةِ وَضَمَانِ الدَّرَكِ لَا يَكُونُ وَصِيَّةً حَقِيقَةً؛ لِأَنَّ حُكْمَ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ مُنَجَّزٌ نَافِذٌ فِي الْحَالِ قَبْلَ الْمَوْتِ.
وَحُكْمُ الْوَصِيَّةِ يَتَأَخَّرُ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ فَلَمْ تَكُنْ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتُ مِنْ الْمَرِيضِ وَصِيَّةً حَقِيقَةً إلَّا أَنَّهَا تُعْتَبَرُ بِالْوَصَايَا فِي حَقِّ اعْتِبَارِ الثُّلُثِ، فَأَمَّا أَنْ تَكُونَ وَصِيَّةً حَقِيقَةً فَلَا، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ، أَوْ رُبُعِهِ، وَقَدْ ذَكَرَ قَدْرًا مِنْ مَالِهِ مُشَاعًا، أَوْ مُعَيَّنًا أَنَّ قَدْرَ مَا يَسْتَحِقُّهُ الْمُوصَى لَهُ مِنْ مَالٍ هُوَ: مَالُهُ الَّذِي عِنْدَ الْمَوْتِ لَا مَا كَانَ عِنْدَ الْوَصِيَّةِ حَتَّى لَوْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ، وَمَالُهُ يَوْمَ أَوْصَى ثَلَاثَةُ آلَافٍ، وَيَوْمَ مَاتَ ثَلَثُمِائَةٍ لَا يَسْتَحِقُّ الْمُوصَى لَهُ إلَّا مِائَةً، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ يَوْمَ أَوْصَى، ثُمَّ اكْتَسَبَ مَالًا، ثُمَّ مَاتَ فَلَهُ ثُلُثُ الْمَالِ يَوْمَ مَاتَ.
وَلَوْ كَانَ لَهُ مَالٌ يَوْمَ أَوْصَى فَمَاتَ، وَلَيْسَ لَهُ مَالٌ بَطَلَتْ، وَصِيَّتُهُ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْوَصِيَّةَ تَمْلِيكٌ مُضَافٌ إلَى وَقْتِ الْمَوْتِ؛ فَيَسْتَحِقُّ الْمُوصَى لَهُ مَا كَانَ عَلَى مِلْكِ الْمُوصِي عِنْدَ مَوْتِهِ، وَيَصِيرُ الْمُضَافُ إلَى الْوَقْتِ كَالْمُنَجَّزِ عِنْدَهُ كَأَنَّهُ قَالَ عِنْدَ الْمَوْتِ: لِفُلَانٍ ثُلُثُ مَالِي فَيُعْتَبَرُ مَا يَمْلِكُهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لَا مَا قَبْلَهُ، وَذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ فِي نَوَادِرِهِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَقَالَ: إذَا أَوْصَى رَجُلٌ فَقَالَ: لِفُلَانٍ شَاةٌ مِنْ غَنَمِي، أَوْ نَخْلَةٌ مِنْ نَخْلِي، أَوْ جَارِيَةٌ مِنْ جَوَارِيَّ، وَلَمْ يَقُلْ: مِنْ غَنَمِي هَذِهِ، وَلَا مِنْ جَوَارِيَّ هَؤُلَاءِ، وَلَا مِنْ نَخْلِي هَذِهِ فَإِنَّ الْوَصِيَّةَ فِي هَذَا تَقَعُ يَوْمَ مَوْتِ الْمُوصِي، وَلَا تَقَعُ يَوْمَ أَوْصَى حَتَّى لَوْ مَاتَتْ غَنَمُهُ تِلْكَ، أَوْ بَاعَهَا فَاشْتَرَى مَكَانَهَا أُخْرَى، أَوْ مَاتَتْ جَوَارِيهِ فَاشْتَرَى غَيْرَهُنَّ، أَوْ بَاعَ النَّخْلَ، وَاشْتَرَى غَيْرَهَا، فَإِنَّ لِلْمُوصَى لَهُ نَخْلَةً مِنْ نَخْلِهِ يَوْمَ يَمُوتُ.
وَلَيْسَ لِلْوَرَثَةِ أَنْ يُعْطُوهُ غَيْرَ ذَلِكَ لِمَا بَيَّنَّا: أَنَّ الْوَصِيَّةَ عَقْدٌ مُضَافٌ إلَى الْمَوْتِ فَكَانَّهُ قَالَ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ: لِفُلَانٍ شَاةٌ مِنْ غَنَمِي فَيَسْتَحِقُّ شَاةً مِنْ الْمَوْجُودِ دُونَ مَا قَبْلَهُ قَالَ: فَإِنْ وَلَدَتْ الْغَنَمُ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ الْمُوصِي، أَوْ وَلَدَتْ الْجَوَارِي قَبْلَ مَوْتِهِ، فَلَحِقَتْ الْأَوْلَادُ الْأُمَّهَاتِ، ثُمَّ مَاتَ الْمُوصِي فَإِنَّ لِلْوَرَثَةِ أَنْ يُعْطُوهُ إنْ شَاءُوا مِنْ الْأُمَّهَاتِ، وَإِنْ شَاءُوا مِنْ الْأَوْلَادِ؛ لِأَنَّ الِاسْمَ يَتَنَاوَلُ الْكُلَّ عِنْدَ الْمَوْتِ فَكَانَ الْمُسْتَفَادُ بِالْوِلَادَةِ كَالْمُسْتَفَادِ بِالشِّرَاءِ قَالَ فَإِنْ اخْتَارَ الْوَرَثَةُ أَنْ يُعْطُوهُ شَاةً مِنْ غَنَمِهِ، وَلَهَا وَلَدٌ قَدْ وَلَدَتْهُ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي فَإِنَّ وَلَدَهَا يَتْبَعُهَا.
وَكَذَلِكَ صُوفُهَا، وَلَبَنُهَا؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ وَإِنْ تَعَلَّقَتْ بِشَاةٍ غَيْرِ مُعَيَّنَةٍ لَكِنَّ التَّعْيِينَ مِنْ الْوَرَثَةِ يَكُونُ بَيَانًا أَنَّ الشَّاةَ الْمُعَيَّنَةَ، هِيَ مِنْ الْمُوصَى بِهَا كَأَنَّ الْوَصِيَّةَ وَقَعَتْ بِهَذِهِ الْمُعَيَّنَةِ ابْتِدَاءً فَمَا حَدَثَ مِنْ نَمَائِهَا بَعْدَ الْمَوْتِ يَكُونُ لِلْمُوصَى لَهُ قَالَ: فَأَمَّا مَا وَلَدَتْ قَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي فَلَا يَسْتَحِقُّهُ الْمُوصَى لَهُ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ اعْتِبَارُهَا عِنْدَ الْمَوْتِ فَالْحَادِثُ قَبْلَ الْمَوْتِ يَحْدُثُ عَلَى مِلْكِ الْوَرَثَةِ، وَكَذَلِكَ الصُّوفُ الْمُنْفَصِلُ، وَاللَّبَنُ الْمُنْفَصِلُ قَبْلَ الْمَوْتِ لِمَا قُلْنَا، فَأَمَّا إنْ كَانَ مُتَّصِلًا بِهَا فَهُوَ لِلْمُوصَى لَهُ، وَإِنْ حَدَثَ قَبْلَ الْمَوْتِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْفَرِدُ عَنْهَا بِالتَّمْلِيكِ قَالَ: وَلَوْ اسْتَهْلَكَتْ الْوَرَثَةُ لَبَنَ الشَّاةِ، أَوْ صُوفَهَا، وَقَدْ حَدَثَ بَعْدَ الْمَوْتِ فَعَلَيْهِمْ ضَمَانُهُ؛ لِأَنَّ الْمُوصَى لَهُ مَلَكَهُ بِمِلْكِ الْأَصْلِ، فَيَكُونُ مَضْمُونًا بِالْإِتْلَافِ قَالَ: وَلَوْ قَالَ: أَوْصَيْتُ لَهُ بِشَاةٍ مِنْ غَنَمِي هَذِهِ، أَوْ بِجَارِيَةٍ مِنْ جَوَارِيَّ هَؤُلَاءِ، أَوْ قَالَ: قَدْ أَوْصَيْتُ لَهُ بِإِحْدَى جَارِيَتَيَّ هَاتَيْنِ فَهَذَا عَلَى هَذِهِ الْغَنَمِ، وَهَؤُلَاءِ الْجَوَارِي؛ لِأَنَّهُ عَيَّنَ الْمُوصَى بِهِ، وَهُوَ الشَّاةُ مِنْ الْغَنَمِ الْمُشَارُ إلَيْهَا حَتَّى لَوْ مَاتَتْ الْغَنَمُ، أَوْ بَاعَهَا بَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ كَمَا لَوْ قَالَ أَوْصَيْتُ بِهَذِهِ الشَّاةِ، أَوْ بِهَذِهِ الْجَارِيَةِ فَهَلَكَتْ.
وَلَوْ وَلَدَتْ الْغَنَمُ أَوْ الْجَوَارِي فِي حَالِ