أَنْ يَقْتَصَّ، وَلَا يَنْتَظِرَ الْغَائِبَ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ حَقَّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَابِتٌ فِي كُلِّ الْيَدِ، وَإِنَّمَا التَّمَانُعُ فِي اسْتِيفَاءِ الْكُلِّ بِحُكْمِ التَّزَاحُمِ بِحُكْمِ الْمُشَارَكَةِ فِي الِاسْتِيفَاءِ، فَإِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا غَائِبًا فَلَا يُزَاحِمْ الْحَاضِرُ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ كَأَحَدِ الشَّفِيعَيْنِ إذَا حَضَرَ يُقْضَى لَهُ بِالشُّفْعَةِ فِي كُلِّ الْمَبِيعِ (وَلِأَنَّ) حَقَّ الْحَاضِرِ إذَا كَانَ ثَابِتًا فِي كُلِّ الْيَدِ، وَأَرَادَ الِاسْتِيفَاءَ، وَالْغَائِبُ قَدْ يَحْضُرُ وَقَدْ لَا يَحْضُرُ، وَقَدْ يُطَالِبُ بَعْضَ الْحُضُورِ، وَقَدْ يَعْفُو فَلَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ حَقِّ الْحَاضِرِ فِي الِاسْتِيفَاءِ وَالْمَنْعِ مِنْهُ لِلْحَالِ بَعْدَ طَلَبِهِ لِأَمْرٍ مُحْتَمَلٍ، وَلِهَذَا قُضِيَ بِالشُّفْعَةِ لِأَحَدِ الشَّفِيعَيْنِ إذَا حَضَرَ وَطَلَبَ، وَلَا يُنْتَظَرُ حُضُورُ الْغَائِبِ كَذَا هَذَا.
وَلِلْآخَرِ دِيَةُ يَدِهِ عَلَى الْقَاطِعِ، لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ اسْتِيفَاءُ حَقِّهِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ فَيُصَارُ إلَى الْبَدَلِ وَلِأَنَّ الْقَاطِعَ قَضَى بِهِ حَقًّا مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ فَيَلْزَمُهُ الدِّيَةُ، وَإِنْ عَفَا أَحَدُهُمَا بَطَلَ حَقُّهُ.
وَكَانَ لِلْآخَرِ الْقِصَاصُ إذَا كَانَ الْعَفْوُ قَبْلَ قَضَاءِ الْقَاضِي بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ حَقَّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَابِتٌ فِي الْيَدِ عَلَى الْكَمَالِ فَالْعَفْوُ مِنْ أَحَدِهِمَا لَا يُؤَثِّرُ فِي حَقِّ الْآخَرِ كَمَا فِي الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ.
وَكَذَلِكَ لَوْ عَدَا أَحَدُهُمَا عَلَى الْقَاطِعِ فَقَطَعَ يَدَهُ فَقَدْ اسْتَوْفَى حَقَّهُ فَلِلْآخَرِ الدِّيَةُ لِمَا ذَكَرْنَا (وَأَمَّا) إذَا قَضَى الْقَاضِي بِالْقِصَاصِ بَيْنَهُمَا ثُمَّ عَفَا أَحَدُهُمَا فَلِلْآخَرِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْقِصَاصَ فِي قَوْلِهِمَا اسْتِحْسَانًا (وَقَالَ) مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إذَا قَضَى الْقَاضِي بِالْقِصَاصِ فِي الْيَدِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَبِدِيَةِ الْيَدِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ ثُمَّ عَفَا أَحَدُهُمَا - بَطَلَ الْقِصَاصُ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِ إنَّ حَقَّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا - وَإِنْ كَانَ ثَابِتًا فِي كُلِّ الْيَدِ لَكِنَّ الْقَاضِيَ لَمَّا قَضَى بِالْقِصَاصِ بَيْنَهُمَا فَقَدْ أَثْبَتَ الشَّرِكَةَ بَيْنَهُمَا فَصَارَ حَقُّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الْبَعْضِ، فَإِذَا عَفَا أَحَدُهُمَا سَقَطَ الْبَعْضُ، وَلَا يَتَمَكَّنُ الْآخَرُ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْكُلِّ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي بِالشَّرِكَةِ لَمْ يُصَادِفْ مَحَلَّهُ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ مَا وَرَدَ بِوُجُوبِ الْقَطْعِ فِي بَعْضِ الْيَدِ فَيُلْحَقُ بِالْعَدَمِ أَوْ يُجْعَلُ مَجَازًا عَنْ الْفَتْوَى كَأَنَّهُ أَفْتَى بِمَا يَجِبُ لَهُمَا، وَهُوَ أَنْ يَجْتَمِعَا عَلَى الْقَطْعِ، وَيَأْخُذَ الدِّيَةَ بَيْنَهُمَا فَكَانَ عَفْوُ أَحَدِهِمَا بَعْدَ الْقَضَاءِ كَعَفْوِهِ قَبْلَهُ وَلَوْ قَضَى الْقَاضِي بِالدِّيَةِ بَيْنَهُمَا فَقَبَضَاهَا ثُمَّ عَفَا أَحَدُهُمَا لَمْ يَكُنْ لِلْآخَرِ الْقِصَاصُ وَيَنْقَلِبُ نَصِيبُهُ مَالًا؛ لِأَنَّهُمَا لَمَّا قَبَضَا الدِّيَةَ فَقَدْ مَلَكَاهَا، وَثُبُوتُ الْمِلْكِ فِي الدِّيَةِ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَبْقَى الْحَقُّ فِي كُلِّ الْيَدِ فَسَقَطَ حَقُّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ نِصْفِ الْيَدِ، فَإِذَا عَفَا أَحَدُهُمَا لَا يَثْبُتُ لِلْآخَرِ وِلَايَةُ اسْتِيفَاءِ كُلِّ الْيَدِ (وَكَذَلِكَ) لَوْ أَخَذَ بِالدِّيَةِ رَهْنًا؛ لِأَنَّ قَبْضَ الرَّهْنِ قَبْضُ اسْتِيفَاءٍ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ كَأَنَّهُ فِي الرَّهْنِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ إذَا هَلَكَ يَسْقُطُ الدَّيْنُ فَصَارَ قَبْضُهُمَا الرَّهْنَ كَقَبْضِهِمَا الدَّيْنَ (وَلَوْ) أَخَذَ بِالدِّيَةِ كَفِيلًا ثُمَّ عَفَا أَحَدُهُمَا فَلِلْآخَرِ الْقِصَاصُ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْكَفَالَةِ مَعْنَى الِاسْتِيفَاءِ بَلْ هُوَ لِلتَّوَثُّقِ لِجَانِبِ الْوُجُوبِ فَكَانَ الْحُكْمُ بَعْدَ الْكَفَالَةِ كَالْحُكْمِ قَبْلَهَا.
(وَلَوْ قَطَعَ) مِنْ رَجُلٍ يَدَيْهِ أَوْ رِجْلَيْهِ قُطِعَتْ يَدَاهُ وَرِجْلَاهُ؛ لِأَنَّ اسْتِيفَاءَ الْمِثْلِ مُمْكِنٌ.
وَلَوْ قَطَعَ مِنْ رَجُلٍ يَمِينَهُ، وَمِنْ آخَرَ يَسَارَهُ قُطِعَتْ يَمِينُهُ لِصَاحِبِ الْيَمِينِ، وَيَسَارُهُ لِصَاحِبِ الْيَسَارِ؛ لِأَنَّ تَحْقِيقَ الْمُمَاثَلَةِ فِيهِ، وَأَنَّهُ مُمْكِنٌ (فَإِنْ قِيلَ) الْقَاطِعُ مَا أَبْطَلَ عَلَيْهِمَا مَنْفَعَةَ الْجِنْسَيْنِ فَكَيْفَ تَبْطُلُ عَلَيْهِ مَنْفَعَةُ الْجِنْسِ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا اسْتَحَقَّ عَلَيْهِ إلَّا قَطْعَ يَدٍ وَاحِدَةٍ، وَلَيْسَ فِي قَطْعِ يَدٍ وَاحِدَةٍ تَفْوِيتُ مَنْفَعَةِ الْجِنْسِ فَكَانَ الْجَزَاءُ مِثْلَ الْجِنَايَةِ إلَّا أَنَّ فَوَاتَ مَنْفَعَةِ الْجِنْسِ عِنْدَ اجْتِمَاعِ الْفِعْلَيْنِ حَصَلَ ضَرُورَةً غَيْرَ مُضَافٍ إلَيْهِمَا.
وَلَوْ قَطَعَ أُصْبُعَ رَجُلٍ كُلَّهَا مِنْ الْمَفْصِلِ ثُمَّ قَطَعَ يَدَ آخَرَ أَوْ يَدًا بِالْيَدِ ثُمَّ يَقْطَعُ الْأُصْبُعَ، وَذَلِكَ كُلُّهُ فِي يَدٍ وَاحِدَةٍ فِي الْيَمِينِ أَوْ فِي الْيَسَارِ فَلَا يَخْلُو (إمَّا) أَنْ جَاءَا جَمِيعًا يَطْلُبَانِ الْقِصَاصَ، وَإِمَّا إنْ جَاءَا مُتَفَرِّقَيْنِ فَإِنْ جَاءَا جَمِيعًا يُبْدَأُ بِالْقِصَاصِ فِي الْأُصْبُعِ فَتُقْطَعُ الْأُصْبُعُ بِالْأُصْبُعِ ثُمَّ يُخَيَّرُ صَاحِبُ الْيَدِ فَإِنْ شَاءَ قَطَعَ مَا بَقِيَ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ دِيَةَ يَدِهِ مِنْ مَالِ الْقَاطِعِ؛ لِأَنَّ حَقَّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي مِثْلِ مَا قُطِعَ مِنْهُ فَحَقُّ صَاحِبِ الْيَدِ فِي قَطْعِ الْيَدِ، وَحَقُّ صَاحِبِ الْأُصْبُعِ فِي قَطْعِ الْأُصْبُعِ فَيَجِبُ إيفَاءُ حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، وَذَلِكَ فِي الْبِدَايَةِ بِالْقِصَاصِ فِي الْأُصْبُعِ، لِأَنَّا لَوْ بَدَأْنَا بِالْقِصَاصِ فِي الْيَدِ لَبَطَلَ حَقُّ صَاحِبِ الْأُصْبُعِ فِي الْقِصَاصِ أَصْلًا وَرَأْسًا، وَلَوْ بَدَأْنَا بِالْقِصَاصِ فِي الْأُصْبُعِ لَمْ يَبْطُلْ حَقُّ الْآخَرِ فِي الْقِصَاصِ أَصْلًا وَرَأْسًا، لِأَنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ اسْتِيفَائِهِ مَعَ النُّقْصَانِ فَكَانَتْ الْبِدَايَةُ بِالْأُصْبُعِ أَوْلَى، وَإِنَّمَا خُيِّرَ صَاحِبُ الْيَدِ بَعْدَ قَطْعِ الْأُصْبُعِ؛ لِأَنَّ الْكَفَّ صَارَتْ مَعِيبَةً بِقَطْعِ الْأُصْبُعِ فَوَجَدَ حَقَّهُ نَاقِصًا فَيَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ كَالْأَشَلِّ إذَا قَطَعَ يَدَ الصَّحِيحِ.
وَإِنْ جَاءَا مُتَفَرِّقَيْنِ فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُ الْيَدِ - وَصَاحِبُ الْأُصْبُعِ غَائِبٌ - تُقْطَعْ الْيَدُ لِصَاحِبِ الْيَدِ؛ لِأَنَّ حَقَّ صَاحِبَ الْيَدِ ثَابِتٌ فِي الْيَدِ فَلَا يَجُوزُ مَنْعُهُ مِنْ اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ لِحَقِّ غَائِبٍ يُحْتَمَلُ أَنْ يَحْضُرَ وَيُطَالَبُ وَيُحْتَمَلُ