الْقَدْرَ الَّذِي تَتَحَمَّلُ الْعَاقِلَةَ، وَهُوَ نِصْفُ عُشْرِ دِيَةِ الرَّجُلِ.

وَمَا لَمْ يَبْلُغْ ذَلِكَ الْقَدْرَ، أَوْ كَانَ مِنْهَا فِي غَيْرِ بَنِي آدَمَ يَكُونُ فِي مَالِهِ؛ لِأَنَّ تَحْمِيلَ الْعَاقِلَةِ ثَبَتَ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ لِعَدَمِ الْجِنَايَةِ مِنْهُمْ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الإسراء: 15] عَرَفْنَاهُ بِنَصٍّ خَاصٍّ فِي بَنِي آدَمَ بِهَذَا الْقَدْرِ فَبَقِيَ الْأَمْرُ فِيمَا دُونَهُ، وَفِي غَيْرِ بَنِي آدَمَ عَلَى الْأَصْلِ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ.

وَلَا يُحْرَمُ الْمِيرَاثَ لَوْ كَانَ وَارِثًا لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، وَلَا الْوَصِيَّةَ لَوْ كَانَ أَجْنَبِيًّا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُبَاشِرْ الْقَتْلَ، وَقَدْ قَالُوا فِيمَنْ وَضَعَ كُنَاسَةً فِي الطَّرِيقِ فَعَطِبَ بِهَا إنْسَانٌ: إنَّهُ يَضْمَنُ؛ لِأَنَّ التَّلَفَ حَصَلَ بِوَضْعِهِ، وَهُوَ فِي الْوَضْعِ مُعْتَدٍ.

وَقَالَ مُحَمَّدٌ: إنْ وَضَعَ ذَلِكَ فِي طَرِيقٍ غَيْرِ نَافِذَةٍ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِهِ - لَمْ يَضْمَنْ لِعَدَمِ التَّعَدِّي مِنْهُ؛ إذْ الطَّرِيقُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ أَهْلِ السِّكَّةِ، فَيَكُونُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِهَا الِانْتِفَاعُ بِهِ كَالدَّارِ الْمُشْتَرَكَةِ، وَلَوْ سَقَطَ الْمِيزَابُ الَّذِي نَصَبَهُ صَاحِبُ الدَّارِ إلَى طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى إنْسَانٍ فَقَتَلَهُ إنْ أَصَابَهُ الطَّرَفُ الدَّاخِلُ فِي الْحَائِطِ - لَمْ يَضْمَنْ؛ لِأَنَّهُ فِي ذَلِكَ الْقَدْرِ مُتَصَرِّفٌ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ، فَلَمْ يَكُنْ مُتَعَدِّيًا فِيهِ، وَإِنْ أَصَابَهُ الطَّرَفُ الْخَارِجُ إلَى الطَّرِيقِ يَضْمَنُ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ فِي إخْرَاجِهِ إلَى الطَّرِيقِ، وَإِنْ أَصَابَهُ الطَّرَفَانِ جَمِيعًا يَضْمَنُ النِّصْفَ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ فِي النِّصْفِ لَا غَيْرُ، وَإِنْ كَانَ لَا يَدْرِيَ - فَالْقِيَاسُ: أَنْ لَا يَضْمَنُ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ أَصَابَهُ الطَّرَفُ الدَّاخِلُ لَا: يَضْمَنُ.

وَإِنْ كَانَ أَصَابَهُ الطَّرَف الْخَارِج: يَضْمَنُ: وَالضَّمَانُ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا فَوَقَعَ الشَّكُّ فِي وُجُوبِهِ فَلَا يَجِبُ بِالشَّكِّ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ: يَضْمَنُ النِّصْفَ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَعْرِفْ الطَّرَفَ الَّذِي أَصَابَهُ إنَّهُ الدَّاخِلُ أَوْ الْخَارِجُ - يُجْعَلُ كَأَنَّهُ أَصَابَهُ الطَّرَفَانِ جَمِيعًا كَمَا فِي الْغَرْقَى وَالْحَرْقَى إنَّهُ إذَا لَمْ يُعْرَفْ التَّقَدُّمُ وَالتَّأَخُّرُ فِي مَوْتِهِمْ يُجْعَلُ كَأَنَّهُمْ مَاتُوا جُمْلَةً وَاحِدَةً فِي أَوَانٍ وَاحِدٍ حَتَّى لَا يَرِثَ الْبَعْضُ مِنْ الْبَعْضِ كَذَا هَذَا.

وَلَوْ أَحْدَثَ شَيْئًا مِمَّا ذَكَرْنَا فِي الْمَسْجِدِ بِأَنْ حَفَرَ بِئْرًا فِي الْمَسْجِدِ لِأَجْلِ الْمَاءَ أَوْ بَنَى فِيهِ بِنَاءً: دُكَّانًا أَوْ غَيْرَهُ، فَعَطِبَ بِهِ إنْسَانٌ، فَإِنْ كَانَ الْحَافِرُ وَالْبَانِي مِنْ أَهْلِ الْمَسْجِدِ - فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِ فَإِنْ فَعَلَ بِإِذْنِ أَهْلِ الْمَسْجِدِ فَكَذَلِكَ، وَإِنْ فَعَلَ بِغَيْرِ إذْنِهِمْ يَضْمَنُ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ تَدْبِيرَ مَصَالِحِ الْمَسْجِدِ إلَى أَهْلِ الْمَسْجِدِ، فَمَا فَعَلُوهُ - لَا يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهِمْ، كَالْأَبِ أَوْ الْوَصِيِّ إذَا فَعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فِي دَارِ الْيَتِيمِ، وَمُتَوَلِّي الْوَقْفِ إذَا فَعَلَ فِي الْوَقْفِ.

وَأَمَّا غَيْرُ أَهْلِ الْمَسْجِدِ فَلَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ التَّصَرُّفِ فِي الْمَسْجِدِ بِغَيْرِ إذْنِ أَهْلِ الْمَسْجِدِ، فَإِذَا فَعَلَ بِغَيْرِ إذْنِهِمْ كَانَ مُتَعَدِّيًا فِي فِعْلِهِ، فَكَانَ مَضْمُونًا، وَلَوْ عَلَّقَ قِنْدِيلًا أَوْ بَسَطَ حَصِيرًا أَوْ أَلْقَى فِيهِ الْحَصَى، فَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْمَسْجِدِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ الْمَسْجِدِ، فَإِنْ فَعَلَهُ بِإِذْنِ أَهْلِ الْمَسْجِدِ فَكَذَلِكَ، وَإِنْ فَعَلَ بِغَيْرِ إذْنِهِمْ يَضْمَنُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَفِي قَوْلِهِمَا لَا يَضْمَنُ.

(وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الْمَسْجِدَ لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ فَكَانَ كُلُّ وَاحِدِ مِنْ آحَادِ الْمُسْلِمِينَ بِسَبِيلٍ مِنْ إقَامَةِ مَصَالِحِهِ؛ وَلِأَنَّ هَذِهِ الْمَصَالِحَ مِنْ عِمَارَةِ الْمَسْجِدِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى -: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} [التوبة: 18] مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ إلَّا أَنَّ لِأَهْلِ الْمَسْجِدِ ضَرْبَ اخْتِصَاصٍ بِهِ فَيَظْهَرُ ذَلِكَ فِي التَّصَرُّفِ فِي نَفْسِهِ بِالْحَفْرِ وَالْبِنَاءِ لَا فِي الْقِنْدِيلِ وَالْحَصِيرِ، كَالْمَالِكِ مَعَ الْمُسْتَعِيرِ أَنَّ لِلْمُسْتَعِيرِ وِلَايَةَ بَسْطِ الْحَصِيرِ، وَتَعْلِيقِ الْقِنْدِيلِ فِي دَارِ الْإِعَارَةِ، وَلَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ الْحَفْرِ وَالْبِنَاءِ كَذَا هَذَا وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَا ذَكَرْنَا أَنَّ التَّدْبِيرَ فِي مَصَالِحِ الْمَسْجِدِ إلَى أَهْلِ الْمَسْجِدِ لَا إلَى غَيْرِهِمْ بِدَلِيلِ أَنَّ لَهُمْ وِلَايَةَ مَنْعِ غَيْرِهِمْ عَنْ التَّعْلِيقِ وَالْبَسْطِ وَعِمَارَةِ الْمَسْجِدِ، فَكَانَ الْغَيْرُ مُتَعَدِّيًا فِي فِعْلِهِ فَالْمُتَوَلِّدُ مِنْهُ يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ وَضَعَ شَيْئًا فِي دَارِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ، فَعَطِبَ بِهِ إنْسَانٌ.

وَلِهَذَا ضَمِنَ بِالْحَفْرِ وَالْبِنَاءِ كَذَا هَذَا.

وَكَوْنُ الْمَسْجِدَ لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ لَا يَمْنَعُ اخْتِصَاصَ أَهْلِهِ بِالتَّدْبِيرِ وَالنَّظَرِ فِي مَصَالِحِهِ كَالْكَعْبَةِ، فَإِنَّهَا لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ اُخْتُصَّ بَنُو شَيْبَةَ بِمَفَاتِحِهَا حَتَّى رُوِيَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَمَّا أَخَذَ مَفَاتِحَ الْكَعْبَةِ مِنْهُمْ، وَدَفَعَهُ إلَى عَمِّهِ الْعَبَّاسِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عِنْدَ طَلَبِهِ ذَلِكَ أَمَرَهُ اللَّهُ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - بِرَدِّهِ إلَى بَنِي شَيْبَةَ بِقَوْلِهِ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى -: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58] .

وَلَوْ جَلَسَ فِي الْمَسْجِدِ فَعَطِبَ بِهِ إنْسَانٌ إنْ كَانَ فِي الصَّلَاةِ لَا يَضْمَنُ الْجَالِسُ سَوَاءٌ كَانَ الْجَالِسُ مِنْ أَهْلِ الْمَسْجِدِ أَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِهِ؛ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ بُنِيَ لِلصَّلَاةِ، فَلَوْ أُخِذَ الْمُصَلِّي بِالضَّمَانِ لَصَارَ النَّاسُ مَمْنُوعِينَ عَنْ الصَّلَاةِ فِي الْمَسَاجِدِ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ، وَإِنْ جَلَسَ لِحَدِيثٍ أَوْ نَوْمٍ فَعَطِبَ بِهِ إنْسَانٌ يَضْمَنُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَعَالَى - وَفِي قَوْلِهِمَا: لَا يَضْمَنُ.

وَجْهُ قَوْلِهِمَا: أَنَّ الْجُلُوسَ فِي الْمَسْجِدِ لِغَيْرِ الصَّلَاةِ مِنْ الْحَدِيثِ وَالنَّوْمِ مُبَاحٌ فَلَمْ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015