الشَّرِيفَةُ نَزَلَتْ فِي الصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ، وَقِيلَ نَزَلَتْ فِي دَمٍ بَيْن نَفَرٍ يَعْفُو أَحَدُهُمْ عَنْ الْقَاتِلِ فَلِلْبَاقِينَ أَنْ يَتَّبِعُوا بِالْمَعْرُوفِ فِي نَصِيبِهِمْ؛ لِأَنَّهُ قَالَ سُبْحَانُهُ وَتَعَالَى {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} [البقرة: 178] ، وَهُوَ الْعَفْوُ عَنْ بَعْضِ الْحَقِّ، وَنَحْنُ بِهِ نَقُولُ: أُوقِعَ الِاحْتِمَالُ فِي الْمُرَادِ بِالْآيَةِ فَلَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِهَا مَعَ الِاحْتِمَالِ، وَقَوْلُهُ: فِي دَفْعِ الدِّيَةِ صِيَانَةُ نَفْسِ الْقَاتِلِ عَنْ الْهَلَاكِ، وَأَنَّهُ وَاجِبٌ، قُلْنَا: نَعَمْ لَكِنَّ قَضِيَّتَهُ أَنْ يَصِيرَ آثِمًا بِالِامْتِنَاعِ لَا أَنْ يَمْلِكَ الْوَلِيُّ أَخْذَهُ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ كَمَنْ أَصَابَتْهُ مَخْمَصَةٌ، وَعِنْدَ صَاحِبِهِ طَعَامٌ يَبِيعُهُ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَشْتَرِيَهُ دَفْعًا لِلْهَلَاكِ عَنْ نَفْسِهِ، فَإِنْ امْتَنَعَ عَنْ الشِّرَاءِ لَيْسَ لِصَاحِبِ الطَّعَامِ أَنْ يَدْفَعَ الطَّعَامَ إلَيْهِ، وَيَأْخُذَ الثَّمَنَ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ، كَذَا هَذَا، وَقَوْلُهُ الْمَقْتُولُ: لَا يَنْتَفِعُ بِالْقِصَاصِ، قُلْنَا: مَمْنُوعٌ، بَلْ يَنْتَفِعُ بِهِ أَكْثَرَ مِمَّا يَنْتَفِعُ بِالْمَالِ؛ لِأَنَّ فِيهِ إحْيَاءَهُ بِإِكْفَاءِ وَرَثَتِهِ أَحْيَاءً، وَهَذَا لَا يَحْصُلُ بِالْمَالِ عَلَى مَا عُرِفَ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

[فَصْلٌ فِي بَيَانُ مَنْ يَسْتَحِقُّ الْقِصَاصَ]

(فَصْلٌ) :

وَأَمَّا بَيَانُ مَنْ يَسْتَحِقُّ الْقِصَاصَ فَنَقُولُ - وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ -: الْمَقْتُولُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُون حُرًّا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عَبْدًا، فَإِنْ كَانَ حُرًّا لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ وَارِثٌ، وَإِمَّا أَنْ لَمْ يَكُنْ، فَإِنْ كَانَ لَهُ وَارِثٌ فَالْمُسْتَحِقُّ لِلْقِصَاصِ هُوَ الْوَارِثُ كَالْمُسْتَحِقِّ لِلْمَالِ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ ثَابِتٌ، وَالْوَارِثُ أَقْرَبُ النَّاسِ إلَى الْمَيِّتِ فَيَكُونُ لَهُ، ثُمَّ إنْ كَانَ الْوَارِثُ وَاحِدًا اسْتَحَقَّهُ، وَإِنْ كَانَ جَمَاعَةً اسْتَحَقُّوهُ عَلَى سَبِيلِ الشَّرِكَةِ كَالْمَالِ الْمَوْرُوثِ عَنْهُ وَجْهُ قَوْلِهِمَا فِي تَمْهِيدِ هَذَا الْأَصْلِ أَنَّ الْقِصَاصَ مُوجَبُ الْجِنَايَةِ، وَأَنَّهَا وَرَدَتْ عَلَى الْمَقْتُولِ فَكَانَ مُوجَبُهَا حَقًّا لَهُ إلَّا أَنَّهُ بِالْمَوْتِ عَجَزَ عَنْ الِاسْتِيفَاءِ بِنَفْسِهِ فَتَقُومُ الْوَرَثَةُ مَقَامَهُ بِطَرِيقِ الْإِرْثِ عَنْهُ، وَيَكُونُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمْ، وَلِهَذَا تَجْرِي فِيهِ سِهَامُ الْوَرَثَةِ مِنْ النِّصْفِ، وَالثُّلُثِ، وَالسُّدُسِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، كَمَا تَجْرِي فِي الْمَالِ وَهَذَا آيَةُ الشَّرِكَةِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْقِصَاصِ هُوَ التَّشَفِّي، وَأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ لِلْمَيِّتِ، وَيَحْصُلُ لِلْوَرَثَةِ فَكَانَ حَقًّا لَهُمْ ابْتِدَاءً، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ يَثْبُتُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى الْكَمَالِ كَأَنْ لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ لَا عَلَى سَبِيلِ الشَّرِكَةِ أَنَّهُ حَقٌّ لَا يَتَجَزَّأُ، وَالشَّرِكَةُ فِيمَا لَا يَتَجَزَّأُ مُحَالٌ، إذْ الشَّرِكَةُ الْمَعْقُولَةُ هِيَ أَنْ يَكُونَ الْبَعْضُ لِهَذَا، وَالْبَعْضُ لِذَلِكَ، كَشَرِيكِ الْأَرْضِ وَالدَّارِ، وَذَلِكَ فِيمَا لَا يَتَبَعَّضُ مُحَالٌ.

وَالْأَصْلُ أَنَّ مَا لَا يَتَجَزَّأُ مِنْ الْحُقُوقِ إذَا ثَبَتَ لِجَمَاعَةٍ، وَقَدْ وُجِدَ سَبَبُ ثُبُوتِهِ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَثْبُتُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى سَبِيلِ الْكَمَالِ كَأَنْ لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ كَوِلَايَةِ الْإِنْكَاحِ، وَوِلَايَةِ الْأَمَانِ، وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ مَا إذَا قُتِلَ إنْسَانٌ عَمْدًا، وَلَهُ وَلِيَّانِ أَحَدُهُمَا غَائِبٌ فَأَقَامَ الْحَاضِرُ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْقَتْلِ، ثُمَّ حَضَرَ الْغَائِبُ أَنَّهُ يُعِيدُ الْبَيِّنَةَ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا لَا يُعِيدُ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْقَتْلَ إذَا كَانَ خَطَأً لَا يُعِيدُ، وَكَذَلِكَ الدَّيْنُ بِأَنْ كَانَ لِأَبِيهِمَا دَيْنٌ عَلَى إنْسَانٍ، وَوَجْهُ الْبِنَاءِ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَمَّا كَانَ الْقِصَاصُ حَقًّا ثَابِتًا لِلْوَرَثَةِ ابْتِدَاءً كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَجْنَبِيًّا عَنْ صَاحِبِهِ، فَيَقَعُ إثْبَاتُ الْبَيِّنَةِ لَهُ لَا لِلْمَيِّتِ، فَلَا يَكُونُ خَصْمًا عَنْ الْمَيِّتِ فِي الْإِثْبَاتِ فَتَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى إعَادَةِ الْبَيِّنَةِ، وَلَمَّا كَانَ حَقًّا مَوْرُوثًا عَلَى فَرَائِضِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عِنْدَهُمَا، وَالْوَرَثَةُ خُلَفَاؤُهُ فِي اسْتِيفَاءِ الْحَقِّ يَقَعُ الْإِثْبَاتُ لِلْمَيِّتِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ آحَادِ الْوَرَثَةِ خَصْمٌ عَنْ الْمَيِّتِ فِي حُقُوقِهِ كَمَا فِي الدِّيَةِ وَالدَّيْنِ، فَيَصِحُّ مِنْهُ إثْبَاتُ الْكُلِّ لِلْمَيِّتِ ثُمَّ يَخْلُفُونَهُ كَمَا فِي الْمَالِ.

وَلَوْ قُتِلَ إنْسَانٌ، وَلَهُ وَلِيَّانِ وَأَحَدُهُمَا غَائِبٌ، وَأَقَامَ الْقَاتِلُ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْحَاضِرِ أَنَّ الْغَائِبَ قَدْ عَفَا فَالشَّاهِدُ خَصْمٌ؛ لِأَنَّ تَحَقُّقَ الْعَفْوِ مِنْ الْغَائِبِ يُوجِبُ بُطْلَانَ حَقِّ الْحَاضِرِ عَنْ الْقِصَاصِ، فَكَانَ الْقَاتِلُ مُدَّعِيًا عَلَى الْحَاضِرِ بُطْلَانَ حَقِّهِ فَكَانَ خَصْمًا لَهُ، وَيَقْضِي عَلَيْهِ، وَمَتَى قَضَى عَلَيْهِ يَصِيرُ الْغَائِبُ مَقْضِيًّا عَلَيْهِ تَبَعًا لَهُ - وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ -، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْقَاتِلِ بَيِّنَةٌ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَسْتَحْلِفَ الْحَاضِرَ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَنْتَصِبُ خَصْمًا عَنْ غَيْرِهِ فِي إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ، أَمَّا لَا يَنْتَصِبُ خَصْمًا عَنْ غَيْرِهِ فِي الْيَمِينِ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ الْقِصَاصُ إذَا كَانَ بَيْنَ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ أَنَّ لِلْكَبِيرِ وِلَايَةَ الِاسْتِيفَاءِ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، وَيُنْتَظَرُ بُلُوغُ الصَّغِيرِ، وَوَجْهُ الْبِنَاءِ أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَمَّا كَانَ الْقِصَاصُ حَقًّا ثَابِتًا لِلْوَرَثَةِ ابْتِدَاءً لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِقْلَالِ لِاسْتِقْلَالِ سَبَبِ ثُبُوتِهِ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَعَدَمِ تَجَزُّئِهِ فِي نَفْسِهِ ثَبَتَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى الْكَمَالِ كَأَنْ لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ، فَلَا مَعْنَى لِتَوَقُّفِ الِاسْتِيفَاءِ عَلَى بُلُوغِ الصَّغِيرِ.

وَعِنْدَهُمَا لَمَّا كَانَ حَقًّا مُشْتَرَكًا بَيْن الْكُلِّ فَأَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ لَا يَنْفَرِدُ بِالتَّصَرُّفِ فِي مَحَلٍّ مُشْتَرَكٍ بِدُونِ رِضَا شَرِيكِهِ إظْهَارًا لِعِصْمَةِ الْمَحَلِّ، وَتَحَرُّزًا عَنْ الضَّرَرِ، وَالصَّحِيحُ أَصْلُ أَبِي حَنِيفَةَ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015