بِهِ، وَعَلَيْهِمَا الدِّيَةُ لِوُجُودِ الْقَتْلِ إلَّا أَنَّهُ امْتَنَعَ وُجُوبُ الْقِصَاصِ لِلشُّبْهَةِ فَتَجِبُ الدِّيَةُ، ثُمَّ مَا يَجِبُ عَلَى الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَالْخَاطِئِ تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ، وَمَا يَجِبُ عَلَى الْبَالِغِ وَالْعَاقِلِ وَالْعَامِدِ يَكُونُ فِي مَالِهِ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ عَمْدٌ لَكِنْ سَقَطَ الْقِصَاصُ لِلشُّبْهَةِ، وَالْعَاقِلَةُ لَا تَعْقِلُ الْعَمْدَ وَفِي الْأَبِ، وَالْأَجْنَبِيِّ الدِّيَةُ فِي مَالِهِمَا؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ عَمْدٌ، وَفِي الْمَوْلَى مَعَ الْأَجْنَبِيِّ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ نِصْفُ قِيمَةِ الْعَبْدِ فِي مَالِهِ لِمَا قُلْنَا، وَكَذَلِكَ إذَا جَرَحَ نَفْسَهُ، وَجَرَحَهُ أَجْنَبِيٌّ فَمَاتَ لَا قِصَاصَ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ، وَعَلَى الْأَجْنَبِيِّ نِصْفُ الدِّيَةِ، لِأَنَّهُ مَاتَ بِجُرْحَيْنِ أَحَدُهُمَا هَدَرٌ، وَالْآخَرُ مُعْتَبَرٌ، وَعَلَى هَذَا مَسَائِلُ تَأْتِي فِي مَوْضِعٍ آخَرَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ مَعْصُومَ الدَّمِ مُطْلَقًا، فَلَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ، وَلَا ذِمِّيٌّ بِالْكَافِرِ الْحَرْبِيِّ، وَلَا بِالْمُرْتَدِّ لِعَدَمِ الْعِصْمَةِ أَصْلًا وَرَأْسًا، وَلَا بِالْحَرْبِيِّ الْمُسْتَأْمَنِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّ عِصْمَتَهُ مَا ثَبَتَتْ مُطْلَقَةً بَلْ مُؤَقَّتَةً إلَى غَايَةِ مَقَامِهِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمُسْتَأْمَنَ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ، وَإِنَّمَا دَخَلَ دَارَ الْإِسْلَامِ لَا لِقَصْدِ الْإِقَامَةِ بَلْ لِعَارِضِ حَاجَةٍ يَدْفَعُهَا ثُمَّ يَعُودُ إلَى وَطَنِهِ الْأَصْلِيِّ، فَكَانَتْ فِي عِصْمَتِهِ شُبْهَةُ الْعَدَمِ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُقْتَلُ بِهِ قِصَاصًا لِقِيَامِ الْعِصْمَةِ وَقْتَ الْقَتْلِ، وَهَلْ يُقْتَلُ الْمُسْتَأْمَنُ بِالْمُسْتَأْمَنِ؟ ذَكَرَ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ أَنَّهُ يُقْتَلُ، وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ.
وَلَا يُقْتَلُ الْعَادِلُ بِالْبَاغِي لِعَدَمِ الْعِصْمَةِ بِسَبَبِ الْحَرْبِ، لِأَنَّهُمْ يَقْصِدُونَ أَمْوَالَنَا وَأَنْفُسَنَا وَيَسْتَحِلُّونَهَا، وَقَدْ قَالَ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «قَاتِلْ دُونَ نَفْسِك» ، وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «قَاتِلْ دُونَ مَالِكَ» ، وَلَا يُقْتَلُ الْبَاغِي بِالْعَادِلِ أَيْضًا عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُقْتَلُ، لِأَنَّ الْمَقْتُولَ مَعْصُومٌ مُطْلَقًا.
(وَلَنَا) أَنَّهُ غَيْرُ مَعْصُومٍ فِي زَعْمِ الْبَاغِي، لِأَنَّهُ يَسْتَحِلُّ دَمَ الْعَادِلِ بِتَأْوِيلٍ، وَتَأْوِيلُهُ وَإِنْ كَانَ فَاسِدًا لَكِنَّ لَهُ مَنَعَةً، وَالتَّأْوِيلُ الْفَاسِدُ عِنْدَ وُجُودِ الْمَنَعَةِ أُلْحِقَ بِالتَّأْوِيلِ الصَّحِيحِ فِي حَقِّ وُجُوبِ الضَّمَانِ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: وَقَعَتْ الْفِتْنَةُ، وَالصَّحَابَةُ مُتَوَافِرُونَ، فَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ كُلَّ دَمٍ اُسْتُحِلَّ بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ فَهُوَ مَوْضُوعٌ، وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ مَا إذَا قَالَ الرَّجُلُ لِآخَرَ: اُقْتُلْنِي، فَقَتَلَهُ أَنَّهُ لَا قِصَاصَ عَلَيْهِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ، وَعِنْدَ زُفَرَ يَجِبُ الْقِصَاصَ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ الْآمِرَ بِالْقَتْلِ لَمْ يَقْدَحْ فِي الْعِصْمَةِ، لِأَنَّ عِصْمَةَ النَّفْسِ مِمَّا لَا تَحْتَمِلُ الْإِبَاحَةَ بِحَالٍ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَأْثَمُ بِالْقَوْلِ؟ فَكَانَ الْأَمْرُ مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ بِخِلَافِ الْأَمْرِ بِالْقَطْعِ، لِأَنَّ عِصْمَةَ الطَّرَفِ تَحْتَمِلُ الْإِبَاحَةَ فِي الْجُمْلَةِ فَجَازَ أَنْ يُؤَثِّرَ الْأَمْرُ فِيهَا، وَلَنَا أَنَّهُ تَمَكَّنَتْ فِي هَذِهِ الْعِصْمَةِ شُبْهَةُ الْعَدَمِ، لِأَنَّ الْأَمْرَ، وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ حَقِيقَةً فَصِيغَتُهُ تُورِثُ شُبْهَةً، وَالشُّبْهَةُ فِي هَذَا الْبَاب لَهَا حُكْمُ الْحَقِيقَةِ، وَإِذَا لَمْ يَجِبْ الْقِصَاصُ فَهَلْ تَجِبُ الدِّيَةُ؟ فِيهَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي رِوَايَةٍ تَجِبُ، وَفِي رِوَايَةٍ لَا تَجِبُ، وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ هَذَا أَصَحُّ الرِّوَايَتَيْنِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ -، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْأَصَحُّ هِيَ الْأُولَى؛ لِأَنَّ الْعِصْمَةَ قَائِمَةٌ مَقَامَ الْحُرْمَةِ، وَإِنَّمَا سَقَطَ الْقِصَاصُ لِمَكَانِ الشُّبْهَةِ، وَالشُّبْهَةُ لَا تَمْنَعُ وُجُوبَ الْمَالِ، وَلَوْ قَالَ اقْطَعْ يَدَيَّ فَقَطَعَ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ الْأَطْرَافَ يُسْلَكُ بِهَا مَسْلَكَ الْأَمْوَالِ، وَعِصْمَةُ الْأَمْوَالِ تَثْبُتُ حَقًّا لَهُ، فَكَانَتْ مُحْتَمِلَةً لِلسُّقُوطِ بِالْإِبَاحَةِ وَالْإِذْنِ، كَمَا لَوْ قَالَ لَهُ: أَتْلِفْ مَالِي فَأَتْلَفَهُ، وَلَوْ قَالَ: اُقْتُلْ عَبْدِي أَوْ اقْطَعْ يَدَهُ فَقَتَلَ أَوْ قَطَعَ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ عَبْدَهُ مَالُهُ، وَعِصْمَةُ مَالِهِ ثَبَتَتْ حَقًّا لَهُ فَجَازَ أَنْ يَسْقُطَ بِإِذْنِهِ كَمَا فِي سَائِرِ أَمْوَالِهِ، وَلَوْ قَالَ: اُقْتُلْ أَخِي فَقَتَلَهُ، وَهُوَ وَارِثُهُ الْقِيَاسُ أَنْ يَجِبَ الْقِصَاصُ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَسْتَحْسِنُ أَنْ آخُذَ الدِّيَةَ مِنْ الْقَاتِلِ.
(وَجْهُ) الْقِيَاسِ أَنَّ الْأَخَ الْآمِرَ أَجْنَبِيٌّ عَنْ دَمِ أَخِيهِ فَلَا يَصِحُّ إذْنُهُ بِالْقَتْلِ فَالْتَحَقَ بِالْعَدَمِ.
(وَجْهُ) الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْقِصَاصَ لَوْ وَجَبَ بِقَتْلِ أَخِيهِ لَوَجَبَ لَهُ، وَالْقَتْلُ حَصَلَ بِإِذْنِهِ، وَالْإِذْنُ إنْ لَمْ يَعْمَلْ شَرْعًا لَكِنَّهُ وُجِدَ حَقِيقَةً مِنْ حَيْثُ الصِّيغَةُ، فَوُجُودُهُ يُورِثُ شُبْهَةً كَالْإِذْنِ بِقَتْلِ نَفْسِهِ، وَالشُّبْهَةُ لَا تُؤَثِّرُ فِي وُجُوبِ الْمَالِ، وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فِيمَنْ أَمَرَ إنْسَانًا أَنْ يَقْتُلَ ابْنَهُ فَقَتَلَهُ أَنَّهُ يُقْتَلُ بِهِ، وَهَذَا يُوجِبُ اخْتِلَافَ الرِّوَايَتَيْنِ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ، وَلَوْ أَمَرَهُ أَنْ يَشُجَّهُ فَشَجَّهُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ إنْ لَمْ يَمُتْ مِنْ الشَّجَّةِ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّجَّةِ كَالْأَمْرِ بِالْقَطْعِ، وَإِنْ مَاتَ مِنْهَا كَانَتْ عَلَيْهِ الدِّيَةُ كَذَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ، وَيَحْتَمِلُ هَذَا أَنْ يَكُونَ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - خَاصَّةً بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْعَفْوَ عَنْ الشَّجَّةِ لَا يَكُونُ عَفْوًا عَنْ الْقَتْلِ عِنْدَهُ، فَكَذَا الْأَمْرُ بِالشَّجَّةِ لَا يَكُونُ أَمْرًا بِالْقَتْلِ، وَلَمَّا مَاتَ تَبَيَّنَ أَنَّ الْفِعْلَ، وَقَعَ قَتْلًا مِنْ حِينِ وُجُودِهِ لَا شَجًّا، وَكَانَ