فِي الْإِقْرَارِ ضَرُورَةً فَيُوَرِّثُ شُبْهَةً فِي وُجُوبِ الْحَدِّ وَسَوَاءٌ رَجَعَ قَبْلَ الْقَضَاءِ أَوْ بَعْدَهُ قَبْلَ تَمَامِ الْجَلْدِ أَوْ الرَّجْمِ قَبْلَ الْمَوْتِ لِمَا قُلْنَا.
وَرُوِيَ «أَنَّ مَاعِزًا لَمَّا رُجِمَ بَعْضَ الْحِجَارَةِ هَرَبَ مِنْ أَرْضٍ قَلِيلَةِ الْحِجَارَةِ إلَى أَرْضٍ كَثِيرَةِ الْحِجَارَةِ فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - سُبْحَانَ اللَّهِ هَلَّا خَلَّيْتُمْ سَبِيلَهُ» وَلِهَذَا يُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ تَلْقِينُ الْمُقِرِّ الرُّجُوعَ بِقَوْلِهِ: لَعَلَّك لَمَسْتَهَا أَوْ قَبَّلَتْهَا كَمَا لَقَّنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَاعِزًا وَكَمَا لَقَّنَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - السَّارِقَ وَالسَّارِقَةَ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَا إخَالُهُ سَرَقَ أَوْ أَسَرَقْت، قُولِي لَا» لَوْ لَمْ يَكُنْ مُحْتَمِلًا لِلرُّجُوعِ لَمْ يَكُنْ لِلتَّلْقِينِ مَعْنًى وَفَائِدَةٌ فَكَانَ التَّلْقِينُ مِنْهُ - عَلَيْهِ أَفْضَلُ التَّحِيَّةِ وَالتَّسْلِيمِ - احْتِيَالًا لِلدَّرْءِ لِأَنَّهُ أَمَرَنَا بِهِ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ أَفْضَلُ التَّحِيَّةِ - «ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ» وَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «ادْرَءُوا الْحُدُودَ مَا اسْتَطَعْتُمْ» وَكَذَلِكَ الرُّجُوعُ عَنْ الْإِقْرَارِ بِالسَّرِقَةِ وَالشُّرْبِ لِأَنَّ الْحَدَّ الْوَاجِبَ بِهِمَا حَقُّ اللَّهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - خَالِصًا فَيَصِحُّ الرُّجُوعُ عَنْ الْإِقْرَارِ بِهِمَا إلَّا أَنَّ فِي السَّرِقَةِ يَصِحُّ الرُّجُوعُ فِي حَقِّ الْقَطْعِ لَا فِي حَقِّ الْمَالِ لِأَنَّ الْقَطْعَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى - عَزَّ شَأْنُهُ - عَلَى الْخُلُوصِ فَيَصِحُّ الرُّجُوعُ عَنْهُ، فَأَمَّا الْمَالُ فَحَقُّ الْعَبْدِ فَلَا يَصِحُّ الرُّجُوعُ فِيهِ.
وَأَمَّا حَدُّ الْقَذْفِ فَلَا يَصِحُّ الرُّجُوعُ عَنْ الْإِقْرَارِ فِيهِ لِأَنَّ لِلْعَبْدِ فِيهِ حَقًّا فَيَكُونُ مُتَّهَمًا فِي الرُّجُوعِ فَلَا يَصِحُّ كَالرُّجُوعِ عَنْ سَائِرِ الْحُقُوقِ الْمُتَمَحِّضَة لِلْعِبَادِ وَكَذَلِكَ الرُّجُوعُ عَنْ الْإِقْرَارِ بِالْقِصَاصِ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ خَالِصُ حَقِّ الْعِبَادِ فَلَا يَحْتَمِلُ الرُّجُوعَ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
(كِتَابُ الْجِنَايَاتِ)
الْجِنَايَةُ فِي الْأَصْلِ نَوْعَانِ: جِنَايَةٌ عَلَى الْبَهَائِمِ وَالْجَمَادَاتِ، وَجِنَايَةٌ عَلَى الْآدَمِيِّ.
(أَمَّا) الْجِنَايَةُ عَلَى الْبَهَائِمِ وَالْجَمَادَاتِ فَنَوْعَانِ أَيْضًا: غَصْبٌ وَإِتْلَافٌ، وَقَدْ ذَكَرْنَا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي كِتَابِ الْغَصْبِ، وَهَذَا الْكِتَابُ وُضِعَ لِبَيَانِ حُكْمِ الْجِنَايَةِ عَلَى الْآدَمِيِّ خَاصَّةً، فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ: الْجِنَايَةُ عَلَى الْآدَمِيِّ فِي الْأَصْلِ أَنْوَاعٌ ثَلَاثَةٌ: جِنَايَةٌ عَلَى النَّفْسِ مُطْلَقًا، وَجِنَايَةٌ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ مُطْلَقًا، وَجِنَايَةٌ عَلَى مَا هُوَ نَفْسٌ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ.
(أَمَّا) الْجِنَايَةُ عَلَى النَّفْسِ مُطْلَقًا فَهِيَ قَتْلُ الْمَوْلُودِ، وَالْكَلَامُ فِي الْقَتْلِ فِي مَوَاضِعَ: فِي بَيَانِ أَنْوَاعِ الْقَتْلِ، وَفِي بَيَانِ صِفَةِ كُلِّ نَوْعٍ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِ كُلِّ نَوْعٍ مِنْهُ.
(أَمَّا) الْأَوَّلُ: فَالْقَتْلُ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ: قَتْلٌ هُوَ عَمْدٌ مَحْضٌ لَيْسَ فِيهِ شُبْهَةُ الْعَمْدِ، وَقَتْلٌ عَمْدٌ فِيهِ شُبْهَةُ الْعَمْدِ، وَهُوَ الْمُسَمَّى بِشِبْهِ الْعَمْدِ، وَقَتْلٌ هُوَ خَطَأٌ مَحْضٌ لَيْسَ فِيهِ شُبْهَةُ الْعَمْدِ، وَقَتْلٌ هُوَ فِي مَعْنَى الْقَتْلِ الْخَطَأِ.
(أَمَّا) الَّذِي هُوَ عَمْدٌ مَحْضٌ فَهُوَ أَنْ يَقْصِدَ الْقَتْلَ بِحَدِيدٍ لَهُ حَدٌّ أَوْ طَعْنٌ كَالسَّيْفِ، وَالسِّكِّينِ، وَالرُّمْحِ، وَالْإِشْفَى، وَالْإِبْرَةِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، أَوْ مَا يَعْمَلُ عَمَلَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ فِي الْجَرْحِ، وَالطَّعْنِ كَالنَّارِ، وَالزُّجَاجِ، وَلِيطَةِ الْقَصَبِ، وَالْمَرْوَةِ، وَالرُّمْحِ الَّذِي لَا سِنَانَ لَهُ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ الْآلَةُ الْمُتَّخَذَةُ مِنْ النُّحَاسِ، وَكَذَلِكَ الْقَتْلُ بِحَدِيدٍ لَا حَدَّ لَهُ كَالْعَمُودِ، وَصَنْجَةِ الْمِيزَانِ، وَظَهْرِ الْفَأْسِ، وَالْمَرْوِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ عَمْدٌ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، (وَرَوَى) الطَّحَاوِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّهُ لَيْسَ بِعَمْدٍ، فَعَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ الْعِبْرَةُ لِلْحَدِيدِ نَفْسِهِ سَوَاءٌ جَرَحَ أَوْ لَا، وَعَلَى رِوَايَةِ الطَّحَاوِيِّ الْعِبْرَةُ لِلْجَرْحِ نَفْسِهِ حَدِيدًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ فِي مَعْنَى الْحَدِيدِ كَالصُّفْرِ، وَالنُّحَاسِ، وَالْآنُكِ، وَالرَّصَاصِ، وَالذَّهَب، وَالْفِضَّة فَحُكْمُهُ حُكْم الْحَدِيدِ.
وَأَمَّا شِبْهُ الْعَمْدِ فَثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ بَعْضُهَا مُتَّفَقٌ عَلَى كَوْنِهِ شِبْهُ عَمْدٍ، وَبَعْضُهَا مُخْتَلَفٌ فِيهِ، أَمَّا الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ فَهُوَ أَنْ يَقْصِدَ الْقَتْلَ بِعَصًا صَغِيرَةٍ أَوْ بِحَجَرٍ صَغِيرٍ أَوْ لَطْمَةٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَكُونُ الْغَالِبَ فِيهِ الْهَلَاكُ كَالسَّوْطِ، وَنَحْوِهِ إذَا ضَرَبَ ضَرْبَةً أَوْ ضَرْبَتَيْنِ، وَلَمْ يُوَالِ فِي الضَّرَبَاتِ.
وَأَمَّا الْمُخْتَلَفُ فِيهِ فَهُوَ أَنْ يَضْرِبَ بِالسَّوْطِ الصَّغِيرِ، وَيُوَالِيَ فِي الضَّرَبَاتِ إلَى أَنْ يَمُوتَ، وَهَذَا شِبْهُ عَمْدٍ بِلَا خِلَافٍ بَيْن أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى - وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هُوَ عَمْدٌ، وَإِنْ قَصَدَ قَتْلَهُ بِمَا يَغْلِب فِيهِ الْهَلَاكُ مِمَّا لَيْسَ بِجَارِحٍ، وَلَا طَاعِنٍ كَمِدَقَّةِ الْقَصَّارِينَ، وَالْحَجَرِ الْكَبِيرِ، وَالْعَصَا الْكَبِيرَةِ، وَنَحْوِهَا فَهُوَ شِبْهُ عَمْدٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَعِنْدَهُمَا، وَالشَّافِعِيِّ هُوَ عَمْدٌ، وَلَا يَكُونُ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ شِبْهُ عَمْدٍ، فَمَا كَانَ شِبْهُ عَمْدٍ فِي النَّفْسِ فَهُوَ عَمْدٌ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ؛ لِأَنَّ مَا دُونَ النَّفْسِ لَا يُقْصَدُ إتْلَافُهُ بِآلَةٍ دُونَ آلَةٍ عَادَةً فَاسْتَوَتْ الْآلَاتُ كُلُّهَا فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الْقَصْدِ فَكَانَ الْفِعْلُ عَمْدًا