أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَنْبَغِي أَنْ يَقِفَ تَصَرُّفُ الْمَأْذُونِ بَعْدَ الرِّدَّةِ وَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِهِمَا يَنْفُذُ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَأَمَّا الضَّرُورَةُ فَأَنْوَاعٌ أَيْضًا: مِنْهَا مَوْتُهُ؛ لِأَنَّ الْمَوْتَ مُبْطِلٌ لِلْمِلْكِ وَبُطْلَانُ الْمِلْكِ يُوجِبُ بُطْلَانَ الْإِذْنِ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَمِنْهَا جُنُونُهُ جُنُونًا مُطْبِقًا؛ لِأَنَّ أَهْلِيَّةَ الْإِذْنِ شَرْطُ بَقَاءِ الْإِذْنِ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ بِالتِّجَارَةِ غَيْرُ لَازِمٍ فَكَانَ لِبَقَائِهِ حُكْمُ الِابْتِدَاءِ ثُمَّ ابْتِدَاءُ الْإِذْنِ لَا يَصِحُّ مِنْ غَيْرِ الْأَهْلِ فَلَا يَبْقَى أَيْضًا وَالْجُنُونُ الْمُطْبِقُ مُبْطِلٌ لِلْأَهْلِيَّةِ فَصَارَ مَحْجُورًا.
فَإِنْ أَفَاقَ يُعَدُّ مَأْذُونًا؛ لِأَنَّ بُطْلَانَ الْإِذْنِ لِبُطْلَانِ الْأَهْلِيَّةِ مَعَ احْتِمَالِ الْعَوْدِ فَإِذَا أَفَاقَ عَادَتْ الْأَهْلِيَّةُ فَعَادَ مَأْذُونًا، وَصَارَ كَالْمُوَكَّلِ إذَا أَفَاقَ بَعْدَ جُنُونِهِ أَنَّهُ تَعُودُ الْوَكَالَةُ كَذَا هَذَا.
وَأَمَّا الْإِغْمَاءُ فَلَا يُوجِبُ الْحَجْرَ؛ لِأَنَّهُ لَا يُبْطِلُ الْأَهْلِيَّةَ لِكَوْنِهِ عَلَى شَرَفِ الزَّوَالِ سَاعَةً فَسَاعَةً عَادَةً، وَلِهَذَا لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ سَائِرِ الْعِبَادَاتِ.
وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْعَبْدِ فَأَنْوَاعٌ أَيْضًا: مِنْهَا إبَاقُهُ؛ لِأَنَّهُ بِالْإِبَاقِ تَنْقَطِعُ مَنَافِعُ تَصَرُّفِهِ عَنْ الْمَوْلَى فَلَا يَرْضَى بِهِ الْمَوْلَى وَهَذَا يُنَافِي الْإِذْنَ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَ الْمَأْذُونِ بِرِضَا الْمَوْلَى، وَمِنْهَا جُنُونُهُ جُنُونًا مُطْبِقًا؛ لِأَنَّهُ مُبْطِلٌ أَهْلِيَّةَ التِّجَارَةِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَحْتَمِلُ الْعَوْدَ إلَّا عَلَى سَبِيلِ النُّدْرَةِ لِزَوَالِ مَا هُوَ مَبْنِيٌّ عَلَيْهِ وَهُوَ الْعَقْلُ فَلَمْ يَكُنْ فِي بَقَاءِ الْإِذْنِ فَائِدَةٌ فَيَبْطُلُ، وَلَوْ أَفَاقَ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَعُودُ مَأْذُونًا بِخِلَافِ الْمُوَكَّلِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ وَأَمَّا الْجُنُونُ الَّذِي هُوَ غَيْرُ مُطْبِقٍ فَلَا يُوجِبُ الْحَجْرَ؛ لِأَنَّ غَيْرَ الْمُطْبَقِ مِنْهُ لَيْسَ بِمُبْطِلٍ لِلْأَهْلِيَّةِ لِكَوْنِهِ عَلَى شَرَفِ الزَّوَالِ فَكَانَ فِي حُكْمِ الْإِغْمَاءِ وَمِنْهَا رِدَّتُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا لَا تُوجِبُ الْحَجْرَ بِنَاءً عَلَى وُقُوفِ تَصَرُّفَاتِهِ عِنْدَهُ وَنُفُوذِهَا عِنْدَهُمَا، وَمِنْهَا لُحُوقُهُ بِدَارِ الْحَرْبِ مُرْتَدًّا؛ لِأَنَّ اللُّحُوقَ بِدَارِ الْحَرْبِ مُرْتَدًّا بِمَنْزِلَةِ الْمَوْتِ فَكَانَ مُبْطِلًا لِلْأَهْلِيَّةِ فَيَصِيرُ مَحْجُورًا لَكِنْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مِنْ وَقْتِ الرِّدَّةِ، وَعِنْدَهُمَا مِنْ وَقْتِ اللُّحُوقِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
(فَصْلٌ) :
وَأَمَّا حُكْمُ الْحَجْرِ فَهُوَ انْحِجَارُ الْعَبْدِ فِي حَقِّ الْمَوْلَى عَنْ كُلِّ تَصَرُّفٍ كَانَ يَمْلِكُهُ بِسَبَبِ الْإِذْنِ فَلَا يَمْلِكُ الْإِقْرَارَ بِالدَّيْنِ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ مَالٌ؛ لِأَنَّ صِحَّةَ إقْرَارِ الْمَأْذُونِ بِالدَّيْنِ لِكَوْنِهِ مِنْ ضَرُورَاتِ التِّجَارَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَلَا يَمْلِكُ التِّجَارَةَ فَلَا يَمْلِكُ الْإِقْرَارَ بِمَا هُوَ مِنْ ضَرُورَاتِهَا فِي حَقِّ الْمَوْلَى لَكِنْ يُتْبَعُ بِهِ بَعْدَ الْعَتَاقِ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ صَحِيحٌ فِي نَفْسِهِ لِصُدُورِهِ مِنْ الْأَهْلِ لَكِنْ لَمْ يَظْهَرْ لِلْحَالِ لِحَقِّ الْمَوْلَى فَإِذَا عَتَقَ فَقَدْ زَالَ الْمَانِعُ فَيَظْهَرُ، وَإِنْ كَانَ فِي يَدِهِ مَالٌ يَنْفُذُ إقْرَارُهُ فِيمَا فِي يَدِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَنْفُذُ؛ لِأَنَّهُ إقْرَارُ الْمَحْجُورِ فَكَيْفَ يَنْفُذُ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ غَيْرُ مَحْجُورٍ فِيمَا فِي يَدِهِ وَلَمْ يَصِحَّ الْحَجْرُ فِي حَقِّ مَا فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ صَحَّ لَتَبَادَرَ الْمَوَالِي إلَى حَجْرِ عَبِيدِهِمْ الْمَأْذُونِينَ فِي التِّجَارَةِ إذَا عَلِمُوا أَنَّ عَلَيْهِمْ دَيْنًا لِتَسْلَمَ لَهُمْ أَكْسَابُهُمْ الَّتِي فِي أَيْدِيهِمْ.
وَقَدْ لَا يَكُونُ لِلْغُرَمَاءِ بَيِّنَةٌ عَلَى ذَلِكَ فَيَتَضَرَّرُ بِهِ الْغُرَمَاءُ لِتَعَلُّقِ دُيُونِهِمْ بِذِمَّةِ الْعَبْدِ الْمُفْلِسِ فَكَانَ إقْرَارُهُ فِيمَا فِي يَدِهِ مِنْ الْمَالِ مِنْ ضَرُورَاتِ التِّجَارَةِ فَأَشْبَهَ إقْرَارَ الْمَأْذُونِ بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ مَالٌ؛ لِأَنَّ الْحَجْرَ مِنْ الْمَوْلَى لِلْوُصُولِ إلَى الْكَسْبِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ كَسْبٌ فَلَا يَحْجُرُ فَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ، وَلَوْ ظَهَرَ عَلَيْهِ الدَّيْنُ بِالْبَيِّنَةِ أَوْ الْمُعَايَنَةِ وَفِي يَدِهِ كَسْبٌ فَحَجَرَهُ الْمَوْلَى لَا سَبِيلَ لِلْمَوْلَى عَلَى الْكَسْبِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْغُرَمَاءِ مُتَعَلِّقٌ بِهِ وَيَمْلِكُ الْإِقْرَارَ عَلَى نَفْسِهِ بِالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ صَدَّقَهُ الْمَوْلَى أَوْ كَذَّبَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا مِلْكَ لِلْمَوْلَى فِي نَفْسِهِ فِي حَقِّ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ فَاسْتَوَى فِيهِ تَصْدِيقُهُ وَتَكْذِيبُهُ وَلَا يَحْتَاجُ فِي إقَامَتِهَا إلَى حُضُورِ الْمَوْلَى بِالْإِجْمَاعِ، وَفِيمَا إذَا ثَبَتَ ذَلِكَ بِبَيِّنَةٍ قَامَ عَلَيْهِ اخْتِلَافٌ ذَكَرْنَاهُ فِيمَا قَبْلُ وَالْمَحْجُورُ فِي الْجِنَايَةِ عَمْدًا أَوْ خَطَأً وَالْمَأْذُونُ سَوَاءٌ، وَمَوْضِعُ مَعْرِفَةِ حُكْمِ جِنَايَتِهِمَا كِتَابُ الدِّيَاتِ وَسَنَذْكُرُهُ فِيهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
(كِتَابُ الْإِقْرَارِ)
الْكَلَامُ فِي هَذَا الْكِتَابِ يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ: فِي بَيَانِ رُكْنِ الْإِقْرَارِ وَفِي بَيَانِ الشَّرَائِطِ الَّتِي يَصِيرُ الرُّكْنُ بِهَا إقْرَارًا شَرْعًا وَفِي بَيَانِ مَا يُصَدَّقُ الْمُقِرُّ فِيمَا أَلْحَقَ بِإِقْرَارِهِ مِنْ الْقَرَائِنِ مَا لَا يَكُونُ رُجُوعًا حَقِيقَةً وَمَا لَا يُصَدَّقُ فِيهِ مِمَّا يَكُونُ رُجُوعًا عَنْهُ وَفِي بَيَانِ مَا يَبْطُلُ بِهِ الْإِقْرَارُ بَعْدَ وُجُودِهِ.
أَمَّا رُكْنُ الْإِقْرَارِ فَنَوْعَانِ: صَرِيحٌ وَدَلَالَةٌ، فَالصَّرِيحُ نَحْوُ أَنْ يَقُولَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ عَلَيَّ كَلِمَةُ إيجَابٍ لُغَةً وَشَرْعًا قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} [آل عمران: 97] وَكَذَا إذَا قَالَ