فَصْلٌ) :
وَأَمَّا شَرَائِطُ الْإِكْرَاهِ فَنَوْعَانِ: نَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى الْمُكْرِهِ وَنَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى الْمُكْرَهِ.
(أَمَّا) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمُكْرِهِ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى تَحْقِيقِ مَا أَوْعَدَ؛ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ لَا تَتَحَقَّقُ إلَّا عِنْدَ الْقُدْرَةِ، وَعَلَى هَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا مِنْ السُّلْطَانِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - إنَّهُ يَتَحَقَّقُ مِنْ السُّلْطَانِ وَغَيْرِهِ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِمَا: إنَّ الْإِكْرَاهَ لَيْسَ إلَّا إيعَادٌ بِإِلْحَاقِ الْمَكْرُوهِ، وَهَذَا يَتَحَقَّقُ مِنْ كُلِّ مُسَلَّطٍ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ: غَيْرُ السُّلْطَانِ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَحْقِيقِ مَا أَوْعَدَ؛ لِأَنَّ الْمُكْرَهَ يَسْتَغِيثُ بِالسُّلْطَانِ فَيُغِيثُهُ فَإِذَا كَانَ الْمُكْرَهُ هُوَ السُّلْطَانُ فَلَا يَجِدُ غَوْثًا، وَقِيلَ: إنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ فِي الْمَعْنَى إنَّمَا هُوَ خِلَافُ زَمَانٍ فَفِي زَمَنِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمْ يَكُنْ لِغَيْرِ السُّلْطَانِ قُدْرَةُ الْإِكْرَاهِ ثُمَّ تَغَيَّرَ الْحَالُ فِي زَمَانِهِمَا فَغَيَّرَ الْفَتْوَى عَلَى حَسَبِ الْحَالِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ فَأَمَّا الْبُلُوغُ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِتَحَقُّقِ الْإِكْرَاهِ حَتَّى يَتَحَقَّقَ مِنْ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ إذَا كَانَ مُطَاعًا مُسَلَّطًا، وَكَذَلِكَ الْعَقْلُ وَالتَّمْيِيزُ الْمُطْلَقُ لَيْسَ بِشَرْطٍ فَيَتَحَقَّقُ الْإِكْرَاهُ مِنْ الْبَالِغِ الْمُخْتَلَطِ الْعَقْلِ بَعْدَ أَنْ كَانَ مُطَاعًا مُسَلَّطًا.
(وَأَمَّا) النَّوْعُ الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمُكْرَهِ فَهُوَ أَنْ يَقَعَ فِي غَالِبِ رَأْيِهِ وَأَكْثَرِ ظَنِّهِ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُجِبْ إلَى مَا دُعِيَ إلَيْهِ تَحَقَّقَ مَا أُوعِدَ بِهِ؛ لِأَنَّ غَالِبَ الرَّأْيِ حُجَّةٌ خُصُوصًا عِنْدَ تَعَذُّرِ الْوُصُولِ إلَى التَّعَيُّنِ حَتَّى أَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي أَكْثَرِ رَأْيِ الْمُكْرَهِ أَنَّ الْمُكْرِهَ لَا يُحَقِّقُ مَا أَوْعَدَهُ لَا يَثْبُتُ حُكْمُ الْإِكْرَاهِ شَرْعًا، وَإِنْ وَجَدَ صُورَةَ الْإِيعَادِ؛ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ لَمْ تَتَحَقَّقْ، وَمِثْلُهُ لَوْ أَمَرَهُ بِفِعْلٍ وَلَمْ يُوعِدْهُ عَلَيْهِ وَلَكِنْ فِي أَكْثَرِ رَأْيِ الْمُكْرَهِ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَفْعَلْ تَحَقَّقَ مَا أَوْعَدَ يَثْبُتُ حُكْمُ الْإِكْرَاهِ لِتَحَقُّقِ الضَّرُورَةِ وَلِهَذَا إنَّهُ لَوْ كَانَ فِي أَكْثَرِ رَأْيِهِ أَنَّهُ لَوْ امْتَنَعَ عَنْ تَنَاوُلِ الْمَيْتَةِ وَصَبَرَ إلَى أَنْ يَلْحَقَهُ الْجُوعُ الْمُهْلِكُ لَأُزِيلَ عَنْهُ الْإِكْرَاهُ لَا يُبَاحُ لَهُ أَنْ يُعَجِّلَ بِتَنَاوُلِهَا، وَإِنْ كَانَ فِي أَكْثَرِ رَأْيِهِ أَنَّهُ، وَإِنْ صَبَرَ إلَى تِلْكَ الْحَالَةِ لَمَا أُزِيلَ عَنْهُ الْإِكْرَاهُ يُبَاحُ أَنْ يَتَنَاوَلَهَا لِلْحَالِ دَلَّ أَنَّ الْعِبْرَةَ لِغَالِبِ الرَّأْيِ وَأَكْثَرِ الظَّنِّ دُونَ صُورَةِ الْإِيعَادِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
(فَصْلٌ) :
وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الْإِكْرَاهُ فَنَقُولُ - وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ - مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الْإِكْرَاهُ فِي الْأَصْلِ نَوْعَانِ: حِسِّيٌّ وَشَرْعِيٌّ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: مُعَيَّنٍ وَمُخَيَّرٍ فِيهِ، أَمَّا الْحِسِّيُّ الْمُعَيَّنُ فِي كَوْنِهِ مُكْرَهًا عَلَيْهِ فَالْأَكْلُ وَالشُّرْبُ وَالشَّتْمُ وَالْكُفْرُ وَالْإِتْلَافُ وَالْقَطْعُ عَيْنًا.
وَأَمَّا الشَّرْعِيُّ فَالطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ وَالتَّدْبِيرُ وَالنِّكَاحُ وَالرَّجْعَةُ وَالْيَمِينُ وَالنَّذْرُ وَالظِّهَارُ وَالْإِيلَاءُ وَالْفَيْءُ فِي الْإِيلَاءِ وَالْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ وَالْهِبَةُ وَالْإِجَارَةُ وَالْإِبْرَاءُ عَنْ الْحُقُوقِ وَالْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ وَتَسْلِيمُ الشُّفْعَةِ وَتَرْكُ طَلَبِهَا وَنَحْوُهَا وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
(فَصْلٌ) :
وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الْإِكْرَاهُ فَنَقُولُ - وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ - أَمَّا التَّصَرُّفَاتُ الْحِسِّيَّةُ فَيَتَعَلَّقُ بِهَا حُكْمَانِ: أَحَدُهُمَا يَرْجِعُ إلَى الْآخِرَةِ، وَالثَّانِي يَرْجِعُ إلَى الدُّنْيَا أَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْآخِرَةِ فَنَقُولُ - وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ -.
التَّصَرُّفَاتُ الْحِسِّيَّةُ الَّتِي يَقَعُ عَلَيْهَا الْإِكْرَاهُ فِي حَقِّ أَحْكَامِ الْآخِرَةِ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: نَوْعٌ هُوَ مُبَاحٌ، وَنَوْعٌ هُوَ مُرَخَّصٌ، وَنَوْعٌ هُوَ حَرَامٌ لَيْسَ بِمُبَاحٍ وَلَا مُرَخَّصٍ.
(أَمَّا) النَّوْعُ الَّذِي هُوَ مُبَاحٌ فَأَكْلُ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَشُرْبُ الْخَمْرِ إذَا كَانَ الْإِكْرَاهُ تَامًّا بِأَنْ كَانَ بِوَعِيدِ تَلَفٍ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مِمَّا تُبَاحُ عِنْدَ الِاضْطِرَارِ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {إِلا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119] ، أَيْ دَعَتْكُمْ شِدَّةُ الْمَجَاعَةِ إلَى أَكْلِهَا، وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ التَّحْرِيمِ إبَاحَةٌ وَقَدْ تَحَقَّقَ الِاضْطِرَارُ بِالْإِكْرَاهِ فَيُبَاحُ لَهُ التَّنَاوُلُ بَلْ لَا يُبَاحُ لَهُ الِامْتِنَاعُ عَنْهُ، وَلَوْ امْتَنَعَ عَنْهُ حَتَّى قُتِلَ يُؤَاخَذُ بِهِ كَمَا فِي حَالَةِ الْمَخْمَصَةِ؛ لِأَنَّهُ بِالِامْتِنَاعِ عَنْهُ صَارَ مُلْقِيًا نَفْسَهُ فِي التَّهْلُكَةِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى نَهَى عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] ، وَإِنْ كَانَ الْإِكْرَاهُ نَاقِصًا لَا يَحِلُّ لَهُ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ وَلَا يُرَخَّصُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَفْعَلُهُ لِلضَّرُورَةِ بَلْ لِدَفْعِ الْغَمِّ عَنْ نَفْسِهِ، فَكَانَتْ الْحُرْمَةُ بِحُكْمِهَا قَائِمَةً، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْإِكْرَاهُ بِالْإِجَاعَةِ بِأَنْ قَالَ: لَتَفْعَلَنَّ كَذَا وَإِلَّا لَأُجِيعَنَّكَ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ حَتَّى يَجِيئَهُ مِنْ الْجُوعِ مَا يُخَافُ مِنْهُ تَلَفُ النَّفْسِ أَوْ الْعُضْوِ؛ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ لَا تَتَحَقَّقُ إلَّا فِي تِلْكَ الْحَالَةِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
(وَأَمَّا) النَّوْعُ الَّذِي هُوَ مُرَخَّصٌ فَهُوَ إجْرَاءُ كَلِمَةِ الْكُفْرِ عَلَى اللِّسَانِ مَعَ اطْمِئْنَانِ الْقَلْبِ بِالْإِيمَانِ إذَا كَانَ الْإِكْرَاهُ تَامًّا وَهُوَ مُحَرَّمٌ فِي نَفْسِهِ مَعَ ثُبُوتِ الرُّخْصَةِ، فَأَثَرُ الرُّخْصَةِ فِي تَغَيُّرِ حُكْمِ الْفِعْلِ وَهُوَ الْمُؤَاخَذَةُ لَا فِي تَغَيُّرِ وَصْفِهِ وَهُوَ الْحُرْمَةُ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ الْكُفْرِ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ الْإِبَاحَةَ بِحَالٍ فَكَانَتْ الْحُرْمَةُ