وَاخْتَارَ الْمَالِكُ تَضْمِينَ الْغَاصِبِ يَرْجِعُ بِالضَّمَانِ عَلَى الْقَاتِلِ، وَإِنْ لَمْ يَمْلِكْ نَفْسَ الْمُدَبَّرِ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ كَذَا هَذَا، وَكَذَلِكَ لَوْ وَقَعَ عَلَيْهِ حَائِطُ إنْسَانٍ فَالْغَاصِبُ ضَامِنٌ وَيَرْجِعُ عَلَى عَاقِلَةِ صَاحِبِ الْحَائِطِ إنْ كَانَ تَقَدَّمَ إلَيْهِ لِمَا قُلْنَا، وَلَوْ قَتَلَهُ إنْسَانٌ فِي يَدِ الْغَاصِبِ عَمْدًا فَأَوْلِيَاؤُهُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءُوا قَتَلُوا الْقَاتِلَ وَبَرِئَ الْغَاصِبُ.
وَإِنْ شَاءُوا اتَّبَعُوا الْغَاصِبَ بِالدِّيَةِ عَلَى عَاقِلَتِهِ وَيَرْجِعُ عَاقِلَةُ الْغَاصِبِ فِي مَالِ الْقَاتِلِ عَمْدًا، وَلَا يَكُونُ لَهُمْ الْقِصَاصُ.
(أَمَّا) وِلَايَةُ الْقِصَاصِ مِنْ الْقَاتِلِ فَلِوُجُودِ الْقَتْلِ الْعَمْدِ الْخَالِي عَنْ الْمَوَانِعِ.
(وَأَمَّا) وِلَايَةُ اتِّبَاعِ الْغَاصِبِ بِالدِّيَةِ فَلِوُجُودِ الْإِتْلَافِ مِنْهُ تَسْبِيبًا عَلَى مَا بَيَّنَّا فَإِنْ قَتَلُوا الْقَاتِلَ بَرِئَ الْغَاصِبُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُجْمَعُ بَيْنَ الْقِصَاصِ وَالدِّيَةِ فِي نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فِي قَتْلٍ وَاحِدٍ، وَإِنْ اتَّبَعُوا الْغَاصِبَ فَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ تَرْجِعُ عَاقِلَتُهُ عَلَى مَالِ الْقَاتِلِ، وَلَا يَكُونُ لَهُمْ أَنْ يَقْتَصُّوا مِنْ الْقَاتِلِ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ لَمْ يَصِرْ مِلْكًا لَهُمْ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ، إذْ هُوَ لَا يَحْتَمِلُ التَّمْلِيكَ، فَلَمْ يَقُمْ الْغَاصِبُ مَقَامَ الْوَلِيِّ فِي مِلْكِ الْقِصَاصِ فَسَقَطَ الْقِصَاصُ وَيَنْقَلِبُ مَالًا، وَالْمَالُ يَحْتَمِلُ التَّمْلِيكَ، فَجَازَ أَنْ يَقُومَ الْغَاصِبُ مَقَامَ الْوَلِيِّ فِي مِلْكِ الْمَالِ.
وَلَوْ قَتَلَ الصَّبِيُّ إنْسَانًا فِي يَدِ الْغَاصِبِ فَرَدَّهُ عَلَى الْوَلِيِّ وَضَمِنَ عَاقِلَةُ الصَّبِيِّ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا عَلَى الْغَاصِبِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى إيجَابِ ضَمَانِ الْغَصْبِ؛ لِأَنَّ الْحُرَّ غَيْرُ مَضْمُونٍ بِالْغَصْبِ، وَلَا سَبِيلَ إلَى إيجَابِ ضَمَانِ الْإِتْلَافِ؛ لِأَنَّ الْغَاصِبَ إنَّمَا يَصِيرُ مُتْلِفًا إيَّاهُ تَسْبِيبًا بِجِنَايَةِ غَيْرِهِ عَلَيْهِ لَا بِجِنَايَتِهِ عَلَى غَيْرِهِ، وَلَوْ قَتَلَ الصَّبِيُّ نَفْسَهُ، أَوْ أَتَى عَلَى شَيْءٍ مِنْ نَفْسِهِ مِنْ الْيَدِ وَالرِّجْلِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، أَوْ أَرْكَبَهُ الْغَاصِبُ دَابَّةً فَأَلْقَى نَفْسَهُ مِنْهَا فَالْغَاصِبُ ضَامِنٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَضْمَنُ، وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ فِعْلَهُ عَلَى نَفْسِهِ هَدَرٌ فَالْتَحَقَ بِالْعَدَمِ فَصَارَ كَأَنَّهُ مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ، أَوْ سَقَطَتْ يَدُهُ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ كَذَا هَذَا، وَالْجَامِعُ أَنَّهُ لَوْ وَجَبَ الضَّمَانُ لَوَجَبَ بِالْغَصْبِ وَالْحُرُّ غَيْرُ مَضْمُونٍ بِالْغَصْبِ، وَلِهَذَا لَوْ جَنَى عَلَى غَيْرِهِ لَا يَضْمَنُ الْغَاصِبُ كَذَا هَذَا.
وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْحُرَّ إنْ لَمْ يَكُنْ مَضْمُونًا بِالْغَصْبِ فَهُوَ مَضْمُونٌ بِالْإِتْلَافِ مُبَاشَرَةً أَوْ تَسْبِيبًا، وَقَدْ وُجِدَ التَّسْبِيبُ مِنْ الْغَاصِبِ حَيْثُ تَرَكَ حِفْظَهُ عَنْ أَسْبَابِ الْهَلَاكِ فِي الْحَالَيْنِ جَمِيعًا، فَكَانَ مُتْلِفًا إيَّاهُ تَسْبِيبًا، فَيَجِبُ الضَّمَانُ عَلَيْهِ وَلَا يَرْجِعُ الْغَاصِبُ عَلَى عَاقِلَةِ الصَّبِيِّ بِمَا ضَمِنَ؛ لِأَنَّ حُكْمَ فِعْلِهِ عَلَى نَفْسِهِ لَا يُعْتَبَرُ، فَلَا يُمْكِنُ إيجَابُهُ عَلَى الْعَاقِلَةِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ وَلَوْ غَصَبَ مُدَبَّرًا فَمَاتَ فِي يَدِهِ ضَمِنَ بِالْإِجْمَاعِ، وَلَوْ غَصَبَ أُمَّ وَلَدٍ فَمَاتَتْ فِي يَدِهِ مِنْ غَيْرِ آفَةٍ لَمْ يَضْمَنْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ فِي مَوْضِعِهَا، وَلَوْ مَاتَتْ فِي يَدِهِ بِآفَةٍ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَّا أَنَّهُ يَضْمَنُ فِي الصَّبِيِّ الْحُرِّ، فَإِنَّ الْغَاصِبَ يَغْرَم قِيمَتَهَا حَالَّةً فِي مَالِهِ لِوُجُودِ الْإِتْلَافِ مِنْهُ تَسْبِيبًا، وَأُمُّ الْوَلَدِ مَضْمُونَةٌ بِالْإِتْلَافِ بِلَا خِلَافٍ، وَلِهَذَا وَجَبَ الضَّمَانُ فِي الصَّبِيِّ الْحُرِّ فَفِي أُمِّ الْوَلَدِ أَوْلَى وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
(فَصْلٌ) :
وَأَمَّا شَرَائِطُ وُجُوبِ هَذَا الضَّمَانِ فَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْمُتْلَفُ مَالًا، فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ بِإِتْلَافِ الْمَيِّتَةِ وَالدَّمِ وَجِلْدِ الْمَيِّتَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَيْسَ بِمَالٍ، وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي كُتُبِ الْبُيُوعِ وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ مُتَقَوِّمًا، فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ بِإِتْلَافِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ عَلَى الْمُسْلِمِ سَوَاءٌ كَانَ الْمُتْلِفُ مُسْلِمًا، أَوْ ذِمِّيًّا لِسُقُوطِ تَقَوُّمِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ، وَلَوْ أَتْلَفَ مُسْلِمٌ، أَوْ ذِمِّيٌّ عَلَى ذِمِّيٍّ خَمْرًا، أَوْ خِنْزِيرًا يَضْمَنُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَالدَّلَائِلُ مَرَّتْ فِي مَسَائِلِ الْغَصْبِ، وَلَوْ أَتْلَفَ ذِمِّيٌّ عَلَى ذِمِّيٍّ خَمْرًا، أَوْ خِنْزِيرًا، ثُمَّ أَسْلَمَا، أَوْ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا أَمَّا فِي الْخِنْزِيرِ، فَلَا يَبْرَأُ الْمُتْلِفُ عَنْ الضَّمَانِ الَّذِي لَزِمَهُ سَوَاءٌ أَسْلَمَ الطَّالِبُ، أَوْ الْمَطْلُوبُ، أَوْ أَسْلَمَا جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ بِإِتْلَافِ الْخِنْزِيرِ الْقِيمَةُ وَإِنَّهَا دَرَاهِمُ، أَوْ دَنَانِيرُ وَالْإِسْلَامُ لَا يَمْنَعُ مِنْ قَبْضِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ.
(وَأَمَّا) فِي الْخَمْرِ فَإِنْ أَسْلَمَا جَمِيعًا، أَوْ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا وَهُوَ الطَّالِبُ الْمُتْلَفُ عَلَيْهِ بَرِئَتْ ذِمَّةُ الْمَطْلُوبِ وَهُوَ الْمُتْلِفُ وَسَقَطَتْ عَنْهُ الْخَمْرُ بِالْإِجْمَاعِ، وَلَوْ أَسْلَمَ الْمَطْلُوبُ أَوَّلًا، ثُمَّ أَسْلَمَ الطَّالِبُ، أَوْ لَمْ يُسْلِمْ فَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَهُوَ رِوَايَتُهُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ يَبْرَأُ الْمَطْلُوبُ مِنْ الْخَمْرِ وَلَا يُتَحَوَّلُ إلَى الْقِيمَةِ، كَمَا لَوْ أَسْلَمَ الطَّالِبُ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ وَعَافِيَةَ بْنِ زَيْدٍ الْقَاضِي وَهُوَ رِوَايَتُهُمْ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَبْرَأُ الْمَطْلُوبُ وَيَتَحَوَّلُ مَا عَلَيْهِ مِنْ الْخَمْرِ إلَى الْقِيمَةِ، كَمَا لَوْ كَانَ الْإِتْلَافُ بَعْدَ الْإِسْلَامِ أَنَّهُ يَضْمَنُ قِيمَتَهَا لِلذِّمِّيِّ، فَكَذَا إذَا أَتْلَفَ بَعْدَ الْإِسْلَامِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ، وَلَوْ كَسَرَ عَلَى إنْسَانٍ بَرْبَطًا أَوْ طَبْلًا يَضْمَنُ قِيمَتَهُ خَشَبًا مَنْحُوتًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَذَكَرَ فِي الْمُنْتَقَى خَشَبًا أَلْوَاحًا.
وَعِنْدَهُمَا