صُنْعٌ آخَرُ سِوَى الْغَصْبِ، وَهُوَ إتْلَافُ خَلٍّ مَمْلُوكٍ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ فَيَضْمَنُ وَلَوْ غَصَبَ مُسْلِمٌ مِنْ نَصْرَانِيٍّ صَلِيبًا لَهُ فَهَلَكَ فِي يَدِهِ يَضْمَنُ قِيمَتَهُ صَلِيبًا؛ لِأَنَّهُ مُقِرٌّ عَلَى ذَلِكَ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا اسْتَخْدَمَ عَبْدُ رَجُلٍ بِغَيْرِ أَمْرِهِ، أَوْ بَعَثَهُ فِي حَاجَةٍ، أَوْ قَادَ دَابَّةً لَهُ، أَوْ سَاقَهَا، أَوْ رَكِبَهَا، أَوْ حَمَلَ عَلَيْهَا بِغَيْرِ إذْنِ صَاحِبِهَا أَنَّهُ ضَامِنٌ بِذَلِكَ، سَوَاءٌ عَطِبَ فِي تِلْكَ الْخِدْمَةِ أَوْ فِي مُضِيِّهِ فِي حَاجَتِهِ أَوْ مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ؛ لِأَنَّ يَدَ الْمَالِكِ كَانَتْ ثَابِتَةً عَلَيْهِ.
وَإِذَا أَثْبَتَ يَدَ التَّصَرُّفِ عَلَيْهِ فَقَدْ فَوَّتَ يَدَ الْمَالِكِ فَيَتَحَقَّقُ الْغَصْبُ وَلَوْ دَخَلَ دَارَ إنْسَانٍ بِغَيْرِ إذْنِهِ، وَلَيْسَ فِي الدَّارِ أَحَدٌ فَهَلَكَ فِي يَدِهِ لَمْ يَضْمَنْ فِي قَوْلِهِمَا، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَضْمَنُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ فِيمَا تَقَدَّمَ وَلَوْ جَلَسَ عَلَى فِرَاشِ غَيْرِهِ أَوْ بِسَاطِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَهَلَكَ لَا يَضْمَنُ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ تَفْوِيتَ يَدِ الْمَالِكِ فِيمَا يَحْتَمِلُ النَّقْلَ لَا يَحْصُلُ بِدُونِ النَّقْلِ، فَلَمْ يَتَحَقَّقْ الْغَصْبُ، فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
(فَصْلٌ) :
وَأَمَّا حُكْمُ الْغَصْبِ فَلَهُ فِي الْأَصْلِ حُكْمَانِ: أَحَدُهُمَا: يَرْجِعُ إلَى الْآخِرَةِ، وَالثَّانِي: يَرْجِعُ إلَى الدُّنْيَا.
أَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْآخِرَةِ فَهُوَ الْإِثْمُ وَاسْتِحْقَاقُ الْمُؤَاخَذَةِ إذَا فَعَلَهُ عَنْ عِلْمٍ؛ لِأَنَّهُ مَعْصِيَةٌ، وَارْتِكَابُ الْمَعْصِيَةِ عَلَى سَبِيلِ التَّعَمُّدِ سَبَبٌ لِاسْتِحْقَاقِ الْمُؤَاخَذَةِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ غَصَبَ شِبْرًا مِنْ أَرْضٍ طَوَّقَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» وَإِنْ فَعَلَهُ لَا عَنْ عِلْمٍ، بِأَنْ ظَنَّ أَنَّهُ مِلْكَهُ فَلَا مُؤَاخَذَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْخَطَأَ مَرْفُوعُ الْمُؤَاخَذَةِ شَرْعًا بِبَرَكَةِ دُعَاءِ النَّبِيّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا» وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» .
(وَأَمَّا) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الدُّنْيَا، فَأَنْوَاعٌ: بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى حَالَ قِيَامِ الْمَغْصُوبِ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى حَالِ هَلَاكِهِ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى حَالِ نُقْصَانِهِ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى حَالِ زِيَادَتِهِ.
(أَمَّا) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى حَالِ قِيَامِهِ فَهُوَ وُجُوبُ رَدِّ الْمَغْصُوبِ عَلَى الْغَاصِبِ، وَالْكَلَامُ فِي هَذَا الْحُكْمِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِع: فِي بَيَانِ سَبَبِ وُجُوبِ الرَّدِّ، وَفِي بَيَانِ شَرْطِ وُجُوبِهِ، وَفِي بَيَانِ مَا يَصِيرُ الْمَالِكُ بِهِ مُسْتَرِدًّا أَمَّا السَّبَبُ فَهُوَ أَخْذُ مَالِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تَرُدَّ» ، وَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَا يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ مَالَ صَاحِبِهِ لَاعِبًا وَلَا جَادًّا، فَإِذَا أَخَذَ أَحَدُكُمْ عَصَا صَاحِبِهِ فَلْيَرُدَّ عَلَيْهِ» وَلِأَنَّ الْأَخْذَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مَعْصِيَةٌ، وَالرَّدْعُ عَنْ الْمَعْصِيَةِ وَاجِبٌ، وَذَلِكَ بِرَدِّ الْمَأْخُوذِ، وَيَجِبُ رَدُّ الزِّيَادَةِ الْمُنْفَصِلَةِ، كَمَا يَجِبُ رَدُّ الْأَصْلِ؛ لِوُجُودِ سَبَبِ وُجُوبِ الرَّدِّ فِيهِ، وَمُؤْنَةُ الرَّدِّ عَلَى الْغَاصِبِ؛ لِأَنَّهَا مِنْ ضَرُورَاتِ الرَّدِّ، فَإِذَا وَجَبَ عَلَيْهِ الرَّدُّ وَجَبَ عَلَيْهِ مَا هُوَ مِنْ ضَرُورَاتِهِ، كَمَا فِي رَدِّ الْعَارِيَّةِ.
(وَأَمَّا) شَرْطُ وُجُوبِ الرَّدِّ فَقِيَامُ الْمَغْصُوبِ فِي يَدِ الْغَاصِبِ حَتَّى لَوْ هَلَكَ فِي يَدِهِ أَوْ اُسْتُهْلِكَ صُورَةً وَمَعْنًى، أَوْ مَعْنًى لَا صُورَةً، يَنْتَقِلُ الْحُكْمُ مِنْ الرَّدِّ إلَى الضَّمَانِ؛ لِأَنَّ الْهَالِكَ لَا يَحْتَمِلُ الرَّدَّ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا كَانَ الْمَغْصُوبُ حِنْطَةً فَزَرَعَهَا الْغَاصِبُ أَوْ نَوَاةً فَغَرَسَهَا حَتَّى نَبَتَتْ، أَوْ بَاقِلَةً فَغَرَسَهَا حَتَّى صَارَتْ شَجَرَةً، أَوْ بَيْضَةً فَحَضَنَهَا حَتَّى صَارَتْ دَجَاجَةً، أَوْ قُطْنًا فَغَزَلَهُ، أَوْ غَزْلًا فَنَسَجَهُ، أَوْ ثَوْبًا فَقَطَّعَهُ أَوْ خَاطَهُ قَمِيصًا، أَوْ لَحْمًا فَشَوَاهُ أَوْ طَبَخَهُ، أَوْ شَاةً فَذَبَحَهَا وَشَوَاهَا أَوْ طَبَخَهَا، أَوْ حِنْطَةً فَطَحَنَهَا، أَوْ دَقِيقًا فَخَبَزَهُ، أَوْ سِمْسِمًا فَعَصَرَهُ، أَوْ عِنَبًا فَعَصَرَهُ، أَوْ حَدِيدًا فَضَرَبَهُ سَيْفًا، أَوْ سِكِّينًا أَوْ صُفْرًا أَوْ نُحَاسًا فَعَمِلَهُ آنِيَةً، أَوْ تُرَابًا لَهُ قِيمَةٌ فَلَبِنَهُ أَوْ اتَّخَذَهُ خَزَفًا، أَوْ لَبَنًا فَطَبَخَهُ آجِرًا، وَنَحْوَ ذَلِكَ: أَنَّهُ لَيْسَ لِلْمَالِكِ أَنْ يَسْتَرِدَّ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ عِنْدَنَا، وَيَزُولُ مِلْكُهُ بِضَمَانِ الْمِثْلِ أَوْ الْقِيمَةِ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَهُ وِلَايَةُ الِاسْتِرْدَادِ، وَلَا يَزُولُ مِلْكُهُ وَجْهُ قَوْلِهِ: أَنَّ ذَاتَ الْمَغْصُوبِ وَعَيْنَهُ قَائِمٌ بَعْدَ فِعْلِ الْغَاصِبِ، وَإِنَّمَا فَاتَ بَعْضُ صِفَاتِهِ، فَلَا يَبْطُلُ حَقُّ الِاسْتِرْدَادِ، كَمَا إذَا غَصَبَ ثَوْبًا فَقَطَّعَهُ وَلَمْ يَخِطْهُ، أَوْ صِبْغَهُ أَحْمَرَ أَوْ أَصْفَرَ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ فِي الْمَغْصُوبِ كَانَ ثَابِتًا لِلْمَالِكِ، وَالْعَارِضُ وَهُوَ فِعْلُ الْغَاصِبِ مَحْظُورٌ، فَلَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِثُبُوتِ الْمِلْكِ لَهُ، فَيَلْحَقُ بِالْعَدَمِ، فَيَبْقَى الْمَغْصُوبُ عَلَى مِلْكِ الْمَالِكِ، فَتَبْقَى لَهُ وِلَايَةُ الِاسْتِرْدَادِ.
(وَلَنَا) أَنَّ فِعْلَ الْغَاصِبِ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ وَقَعَ اسْتِهْلَاكًا لِلْمَغْصُوبِ إمَّا صُورَةً وَمَعْنًى أَوْ مَعْنًى لَا صُورَةً، فَيَزُولُ مِلْكُ الْمَالِكِ عَنْهُ، وَتَبْطُلُ وِلَايَةُ الِاسْتِرْدَادِ، كَمَا إذَا اسْتَهْلَكَهُ حَقِيقَةً، وَدَلَالَةُ تَحَقُّقِ الِاسْتِهْلَاكِ أَنَّ الْمَغْصُوبَ قَدْ تَبَدَّلَ وَصَارَ شَيْئًا آخَرَ بِتَخْلِيقِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِيجَادِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ تَبْقَ صُورَتُهُ وَلَا مَعْنَاهُ الْمَوْضُوعُ لَهُ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ وَلَا اسْمُهُ، وَقِيَامُ الْأَعْيَانِ بِقِيَامِ صُوَرِهَا