فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ: مَعْرِفَةُ مَسَائِلِ الْغَصْبِ فِي الْأَصْلِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى مَعْرِفَةِ حَدِّ الْغَصْبِ، وَعَلَى مَعْرِفَةِ حُكْمِ اخْتِلَافِ الْغَاصِبِ وَالْمَغْصُوبِ مِنْهُ.

(أَمَّا) حَدُّ الْغَصْبِ فَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: هُوَ إزَالَةُ يَدِ الْمَالِكِ عَنْ مَالِهِ الْمُتَقَوِّمِ عَلَى سَبِيلِ الْمُجَاهَرَةِ وَالْمُغَالَبَةِ بِفِعْلٍ فِي الْمَالِ وَقَالَ مُحَمَّد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الْفِعْلُ فِي الْمَالِ لَيْسَ بِشَرْطٍ؛ لِكَوْنِهِ غَصْبًا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هُوَ إثْبَاتُ الْيَدِ عَلَى مَالٍ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ، وَالْإِزَالَةُ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ.

(أَمَّا) الْكَلَامُ مَعَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَهُوَ احْتَجَّ لِتَمْهِيدِ أَصْلِهِ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} [الكهف: 79] جَعَلَ الْغَصْبَ مَصْدَرَ الْأَخْذِ، فَدَلَّ أَنَّ الْغَصْبَ وَالْأَخْذَ وَاحِدٌ، وَالْأَخْذُ: إثْبَاتُ الْيَدِ، إلَّا أَنَّ الْإِثْبَاتَ إذَا كَانَ بِإِذْنِ الْمَالِكِ يُسَمَّى: إيدَاعًا وَإِعَارَةً وَإِبْضَاعًا فِي عُرْفِ الشَّرْعِ، وَإِذَا كَانَ بِغَيْرِ إذْن الْمَالِكِ يُسَمَّى فِي مُتَعَارَفِ الشَّرْعِ: غَصْبًا، وَلِأَنَّ الْغَصْبَ إنَّمَا جُعِلَ سَبَبًا لِوُجُوبِ الضَّمَانِ بِوَصْفِ كَوْنِهِ تَعَدِّيًا، فَإِذَا وَقَعَ الْإِثْبَاتُ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَالِكِ وَقَعَ تَعَدِّيًا، فَيَكُونُ سَبَبًا لِوُجُوبِ الضَّمَانِ بِوَصْفِ كَوْنِهِ تَعَدِّيًا، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ: أَنْ غَاصِبَ الْغَاصِبِ ضَامِنٌ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ إزَالَةُ يَدِ الْمَالِكِ لِزَوَالِهَا بِغَصْبِ الْغَاصِبِ الْأَوَّلِ، وَإِزَالَةُ الزَّائِلِ مُحَالٌ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.

(وَلَنَا) الِاسْتِدْلَال بِضَمَانِ الْغَصْبِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَالِكَ اسْتَحَقَّ إزَالَةَ يَدِ الْغَاصِبِ عَنْ الضَّمَانِ، فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ الْغَصْبُ مِنْهُ إزَالَةَ يَدِ الْمَالِكِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَمْ يُشَرِّعْ الِاعْتِدَاءَ إلَّا بِالْمِثْلِ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] وَالثَّانِي: أَنَّ ضَمَانَ الْغَصْبِ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ ضَمَانَ زَجْرٍ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ ضَمَانَ جَبْرٍ، وَلَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَى مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الزَّجْرِ، وَلِأَنَّ الِانْزِجَارَ لَا يَحْصُلُ بِهِ، فَدَلَّ أَنَّهُ: ضَمَانُ جَبْرٍ، وَالْجَبْرُ يَسْتَدْعِي الْفَوَاتَ، فَدَلَّ أَنَّهُ لَا بُدّ مِنْ التَّفْوِيتِ لِتَحَقُّقِ الْغَصْبِ، وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِي الْآيَةِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَسَّرَ أَخْذَ الْمَلِكِ تِلْكَ السَّفِينَةَ بِغَصْبِهِ إيَّاهَا، كَأَنَّهُ قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَغْصِبُ كُلَّ سَفِينَةٍ وَهَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ أَخْذٍ غَصْبٌ، بَلْ هِيَ حُجَّةٌ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ غَصْبَ ذَلِكَ الْمَلِكِ كَانَ إثْبَاتَ الْيَدِ عَلَى السَّفِينَةِ مَعَ إزَالَةِ أَيْدِي الْمَسَاكِينِ عَنْهَا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْغَصْبَ إثْبَاتٌ عَلَى وَجْهٍ يَتَضَمَّنُ الْإِزَالَةَ.

(وَأَمَّا) قَوْلُهُ: الْغَصْبُ إنَّمَا أَوْجَبَ الضَّمَانَ لِكَوْنِهِ تَعَدِّيًا فَمُسَلَّمٌ، لَكِنَّ التَّعَدِّيَ فِي الْإِزَالَةِ لَا فِي الْإِثْبَاتِ؛ لِأَنَّ وُقُوعَهُ تَعَدِّيًا بِوُقُوعِهِ ضَارًّا بِالْمَالِكِ، وَذَلِكَ بِإِخْرَاجِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُنْتَفَعًا بِهِ فِي حَقِّ الْمَالِكِ، وَإِعْجَازِهِ عَنْ الِانْتِفَاعِ بِهِ، وَهُوَ تَفْسِيرُ تَفْوِيتِ الْيَدِ وَإِزَالَتِهَا.

(فَأَمَّا) مُجَرَّدُ الْإِثْبَاتِ فَلَا ضَرَرَ فِيهِ، فَلَمْ يَكُنْ الْإِثْبَاتُ تَعَدِّيًا، وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ يَخْرُجُ زَوَائِدُ الْغَصْبِ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَضْمُونَةٍ، سَوَاءٌ كَانَتْ مُنْفَصِلَةً كَالْوَلَدِ وَاللَّبَنِ وَالثَّمَرَةِ، أَوْ مُتَّصِلَةً كَالسِّمَنِ وَالْجَمَالِ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ فِي يَدِ الْمَالِكِ وَقْتَ غَصْبِ الْأُمِّ، فَلَمْ تُوجَدْ إزَالَةُ يَدِهِ عَنْهَا، فَلَمْ يُوجَدْ الْغَصْبُ.

وَعِنْد مُحَمَّدٍ مَضْمُونَةٌ؛ لِأَنَّ الْغَصْبَ عِنْدَهُ: إثْبَاتُ الْيَدِ عَلَى مَالِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِ مَالِكِهِ، وَقَدْ وُجِدَ الْغَصْبُ، وَهَلْ تَصِيرُ مَضْمُونَةً عِنْدَنَا بِالْبَيْعِ وَالتَّسْلِيمِ وَالْمَنْعِ أَوْ الِاسْتِهْلَاكِ أَوْ الِاسْتِخْدَامِ جَبْرًا.

(أَمَّا) الْمُنْفَصِلَةُ: فَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَصْحَابِنَا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فِي أَنَّهَا تَصِيرُ مَضْمُونَةً بِهَا.

(وَأَمَّا) الْمُتَّصِلَةُ: فَذَكَرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّهَا تَصِيرُ مَضْمُونَةً بِالْبَيْعِ وَالتَّسْلِيمِ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْخِلَافَ، وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ: إذَا غَصَبَ جَارِيَةً قِيمَتُهَا أَلْفُ دِرْهَمٍ، فَازْدَادَتْ فِي بَدَنِهَا خَيْرًا حَتَّى صَارَتْ قِيمَتهَا أَلْفَيْ دِرْهَمٍ فَبَاعَهَا، وَسَلَّمَهَا إلَى الْمُشْتَرِي فَهَلَكَتْ فِي يَدِهِ، فَالْمَالِكُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمُشْتَرِي قِيمَتَهَا أَلْفَيْ دِرْهَم، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْبَائِعَ، فَإِنْ اخْتَارَ تَضْمِينَ الْمُشْتَرِي ضَمَّنَهُ قِيمَتَهَا يَوْمَ الْقَبْضِ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ، وَإِنْ اخْتَارَ تَضْمِينَ الْبَائِعِ ضَمَّنَهُ بِالْبَيْعِ وَالتَّسْلِيمِ قِيمَتَهَا أَلْفَيْ دِرْهَمٍ أَيْضًا، كَذَا ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْخِلَافَ.

وَحَكَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ الْخِلَافَ: أَنْ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمُشْتَرِي قِيمَتَهَا يَوْمَ الْقَبْضِ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْغَاصِبَ قِيمَتَهَا يَوْمَ الْغَصْبِ أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ زِيَادَةً بِالْبَيْعِ وَالتَّسْلِيمِ وَكَذَا ذَكَرَهُ الْحَاكِمُ الشَّهِيدُ فِي الْمُنْتَقَى، وَحَكَى الْخِلَافَ، وَهَكَذَا ذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ، إلَّا أَنَّهُ ذَكَرَ الِاسْتِهْلَاكَ مُطْلَقًا، فَقَالَ: إلَّا أَنْ يَسْتَهْلِكَهَا، وَفَسَّرَهُ الْجَصَّاصُ فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ فَقَالَ: إلَّا أَنْ يَكُونَ عَبْدًا أَوْ جَارِيَةً فَيُقْتَلُ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، أَنَّ الْمَغْصُوبَ إذَا كَانَ عَبْدًا أَوْ جَارِيَةً فَقَتَلَهُ الْغَاصِبُ خَطَأً يَكُونُ الْمَالِكُ بِالْخِيَارِ، إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْغَاصِبَ قِيمَتَهُ يَوْمَ الْغَصْبِ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ عَاقِلَةَ الْقَاتِلِ قِيمَتَهُ وَقْتَ الْقَتْلِ زَائِدَةً فِي ثَلَاثِ سِنِينَ.

(وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الْبَيْعَ وَالتَّسْلِيمَ غَصْبٌ؛ لِأَنَّهُ تَفْوِيتُ إمْكَانِ الْأَخْذِ؛ لِأَنَّ الْمَالِكَ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015