وَقَالَ - تَعَالَى عَزَّ شَأْنُهُ - {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} [الأنفال: 41] وَقَالَ - جَلَّتْ عَظَمَتُهُ وَكِبْرِيَاؤُهُ - {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا} [الفتح: 20] وَقَالَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ} [الأنفال: 7] وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ النُّصُوصِ، وَاَلَّذِي جَاوَزَ الدَّرْبَ فَارِسًا عَلَى قَصْدِ الْقِتَالِ مُجَاهِدٌ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا، أَنَّ الْمُجَاوَزَةَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ إرْهَابُ الْعَدُوِّ، وَأَنَّهُ جِهَادٌ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ إرْهَابُ الْعَدُوِّ، وَأَنَّهُ جِهَادٌ قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ - {وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60] وَلِأَنَّ دَارَ الْحَرْبِ لَا تَخْلُو عَنْ عُيُونِ الْكُفَّارِ وَطَلَائِعِهِمْ، فَإِذَا دَخَلَهَا جَيْشٌ كَثِيفٌ رِجَالًا وَرُكْبَانًا فَالْجَوَاسِيسُ يُخْبِرُونَهُمْ بِذَلِكَ، فَيَقَعُ الرُّعْبُ فِي قُلُوبِهِمْ حَتَّى يَتْرُكُوا الْقُرَى وَالرَّسَاتِيقَ هَرَبًا إلَى الْقِلَاعِ وَالْحُصُونِ الْمَنِيعَةِ، فَكَانَ مُجَاوَزَةُ الدَّرْبِ عَلَى قَصْدِ الْقِتَالِ إرْهَابَ الْعَدُوِّ، وَأَنَّهُ جِهَادٌ.

وَالثَّانِي أَنَّ فِيهِ غَيْظَ الْكَفَرَةِ وَكَبْتَهُمْ؛ لِأَنَّ وَطْءَ أَرْضِهِمْ وَعُقْرَ دَارِهِمْ مِمَّا يَغِيظُهُمْ قَالَ اللَّهُ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - {وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ} [التوبة: 120] وَفِيهِ قَهْرُهُمْ وَمَا الْجِهَادُ إلَّا قَهْرُ أَعْدَاءِ اللَّهِ - تَعَالَى - لِإِعْزَازِ دِينِهِ، وَإِعْلَاءِ كَلِمَتِهِ فَدَلَّ أَنَّ مُجَاوَزَةَ الدَّرْبِ فَارِسًا عَلَى قَصْدِ الْقِتَالِ جِهَادٌ وَمَنْ جَاهَدَ فَارِسًا فَلَهُ سَهْمُ الْفُرْسَانِ، وَمَنْ جَاهَدَ رَاجِلًا فَلَهُ سَهْمُ الرَّجَّالَةِ، بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِلْفَارِسِ سَهْمَانِ وَلِلرَّاجِلِ سَهْمٌ.

وَأَمَّا أَمْرُ سَيِّدِنَا عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ فِي وَقْعَةٍ خَاصَّةٍ، بِأَنْ وَقَعَ الْقِتَالُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ أَوْ فِي أَرْضٍ فُتِحَتْ عَنْوَةً وَقَهْرًا، ثُمَّ لَحِقَ الْمَدَدُ أَوْ يُحْمَلُ عَلَى هَذَا تَوْفِيقًا بَيْنَ الدَّلَائِلِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ صِيَانَةً لَهَا عَنْ التَّنَاقُضِ، وَنَحْنُ بِهِ نَقُولُ: إنَّ الْمَدَدَ لَا يُشَارِكُونَهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ فِي تِلْكَ الْوَقْعَةِ إلَّا إذَا شَهِدُوهَا، وَلَا كَلَامَ فِيهِ، وَعَلَى هَذَا إذَا دَخَلَ رَاجِلًا ثُمَّ اشْتَرَى فَرَسًا أَوْ اسْتَأْجَرَ، أَوْ اسْتَعَارَ أَوْ وُهِبَ لَهُ فَلَهُ سَهْمُ الرِّجَالِ عِنْدَنَا؛ لِاعْتِبَارِ وَقْتِ الدُّخُولِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَهُ سَهْمُ الْفُرْسَانِ؛ لِاعْتِبَارِ وَقْتِ الشُّهُودِ وَقَالَ الْحَسَنُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي هَذِهِ الصُّورَةِ إذَا قَاتَلَ فَارِسًا فَلَهُ سَهْمُ فَارِسٍ، وَعَلَى هَذَا إذَا دَخَلَ فَارِسًا ثُمَّ بَاعَ فَرَسَهُ أَوْ آجَرَهُ، أَوْ وَهَبَهُ أَوْ أَعَارَهُ فَقَاتَلَ وَهُوَ رَاجِلٌ فَلَهُ سَهْمُ رَاجِلٍ، ذَكَرَهُ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ.

وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - أَنَّ لَهُ سَهْمَ فَارِسٍ، وَسَوَّى عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ بَيْنَ الْبَيْعِ وَالْمَوْتِ، وَبَيْنَ الْبَيْعِ قَبْلَ شُهُودِ الْوَقْعَةِ وَبَعْدَهَا وَالصَّحِيحُ جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّ الْمُجَاوَزَةَ فَارِسًا عَلَى قَصْدِ الْقِتَالِ دَلِيلُ الْجِهَادِ فَارِسًا، وَلَمَّا بَاعَ فَرَسَهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ بِهِ الْجِهَادَ فَارِسًا، بَلْ قَصَدَ بِهِ التِّجَارَةَ، وَكَذَا هَذَا فِي الْإِجَارَةِ وَالْإِعَارَةِ وَالرَّهْنِ، بِخِلَافِ مَا بَعْدَ شُهُودِ الْوَقْعَةِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ بَعْدَهُ لَا يَدُلُّ عَلَى قَصْدِ التِّجَارَةِ؛ لِأَنَّ الْغَازِيَ لَا يَبِيعُ فَرَسَهُ ذَلِكَ الْوَقْتَ لِقَصْدِ التِّجَارَةِ عَادَةً، بَلْ لِقَصْدِ ثَبَاتِ الْقَدَمِ وَالتَّشَمُّرِ لِلْقِتَالِ بِعَامَّةِ مَا فِي وُسْعِهِ وَإِمْكَانِهِ وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ.

[فَصْلٌ فِي بَيَانُ حُكْمِ الِاسْتِيلَاءِ مِنْ الْكَفَرَةِ عَلَى أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ]

(فَصْلٌ) .

وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِ الِاسْتِيلَاءِ مِنْ الْكَفَرَةِ عَلَى أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ، فَالْكَلَامُ فِيهِ فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا فِي بَيَانِ أَصْلِ الْحُكْمِ، وَالثَّانِي فِي بَيَانِ كَيْفِيَّتِهِ أَمَّا الْأَوَّلُ: فَنَقُولُ: لَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْكُفَّارَ إذَا دَخَلُوا دَارَ الْإِسْلَامِ وَاسْتَوْلَوْا عَلَى أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَمْ يُحْرِزُوهَا بِدَارِهِمْ، إنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَهَا حَتَّى لَوْ ظَهَرَ عَلَيْهِمْ الْمُسْلِمُونَ، وَأَخَذُوا مَا فِي أَيْدِيهِمْ، لَا يَصِيرُ مِلْكًا لَهُمْ، وَعَلَيْهِمْ رَدُّهَا إلَى أَرْبَابِهَا بِغَيْرِ شَيْءٍ، وَكَذَا لَوْ قَسَمُوهَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ ظَهَرَ عَلَيْهِمْ الْمُسْلِمُونَ، فَأَخَذُوهَا مِنْ أَيْدِيهِمْ، أَخَذَهَا أَصْحَابُهَا بِغَيْرِ شَيْءٍ؛ لِأَنَّ قِسْمَتَهُمْ لَمْ تَجُزْ لِعَدَمِ الْمِلْكِ، فَكَانَ وُجُودُهَا وَالْعَدَمُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ، بِخِلَافِ قِسْمَةِ الْإِمَامِ الْغَنَائِمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، إنَّهَا جَائِزَةٌ وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ الْمِلْكُ فِيهَا فِي دَارِ الْحَرْبِ؛ لِأَنَّ قِسْمَةَ الْإِمَامِ إنَّمَا تَجُوزُ عِنْدَنَا إذَا اجْتَهَدَ وَأَفْضَى رَأْيُهُ إلَى الْمِلْكِ، حَتَّى لَوْ قَسَمَ مُجَازَفَةً لَا تَجُوزُ عَلَى أَنَّ الْقِسْمَةَ هُنَاكَ قَضَاءٌ صَدَرَ مِنْ إمَامٍ جَائِزِ الْقَضَاءِ، وَلَمْ يُوجَدْ هَاهُنَا.

وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُمْ أَيْضًا إذَا اسْتَوْلَوْا عَلَى رِقَابِ الْمُسْلِمِينَ، وَمُدَبِّرِيهِمْ، وَأُمَّهَاتِ أَوْلَادِهِمْ، وَمُكَاتَبِيهِمْ، أَنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَهُمْ، وَإِنْ أَحْرَزُوهُمْ بِالدَّارِ وَاخْتُلِفَ فِيمَا إذَا دَخَلُوا دَارَ الْإِسْلَامِ فَاسْتَوْلَوْا عَلَى أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَحْرَزُوهَا بِدَارِ الْحَرْبِ قَالَ عُلَمَاؤُنَا: يَمْلِكُونَهَا حَتَّى لَوْ كَانَ الْمُسْتَوْلَى عَلَيْهِ عَبْدًا فَأَعْتَقَهُ الْحَرْبِيُّ، أَوْ بَاعَهُ، أَوْ كَاتَبَهُ، أَوْ دَبَّرَهُ، أَوْ كَانَتْ أَمَةً فَاسْتَوْلَدَهَا جَازَ ذَلِكَ خَاصَّةً وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَا يَمْلِكُونَهَا وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُمْ اسْتَوْلَوْا عَلَى مَالٍ مَعْصُومٍ، وَالِاسْتِيلَاءُ عَلَى مَالٍ مَعْصُومٍ لَا يُفِيدُ الْمِلْكَ كَاسْتِيلَاءِ الْمُسْلِمِ عَلَى مَالِ الْمُسْلِمِينَ، وَاسْتِيلَائِهِمْ عَلَى الرِّقَابِ وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ لِأَنَّ عِصْمَةَ مَالِ الْمُسْلِمِ ثَابِتَةٌ فِي حَقِّهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ يُخَاطَبُونَ بِالْحُرُمَاتِ إذَا بَلَغَتْهُمْ الدَّعْوَةُ، وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي الْعِبَادَاتِ وَالِاسْتِيلَاءُ يَكُونُ مَحْظُورًا، وَالْمَحْظُورُ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015