يَحْتَمِلُ الِانْتِفَاعَ فِي الْجُمْلَةِ؛ لَكِنَّهُ لَا يَنْتَقِضُ إلَّا بِأَحَدِ أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ أَحَدُهَا: أَنْ يُسْلِمَ الذِّمِّيُّ لِمَا مَرَّ أَنَّ الذِّمَّةَ عُقِدَتْ وَسِيلَةً إلَى الْإِسْلَامِ، وَقَدْ حَصَلَ الْمَقْصُودُ وَالثَّانِي: أَنْ يَلْحَقَ بِدَارِ الْحَرْبِ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ صَارَ بِمَنْزِلَةِ الْمُرْتَدِّ، إلَّا أَنَّ الذِّمِّيَّ إذَا لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ يُسْتَرَقُّ، وَالْمُرْتَدُّ إذَا لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ لَا يُسْتَرَقُّ لِمَا نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ - اللَّهُ تَعَالَى - (وَالثَّالِثُ) أَنْ يَغْلِبُوا عَلَى مَوْضِعٍ فَيُحَارِبُونَ؛ لِأَنَّهُمْ إذَا فَعَلُوا ذَلِكَ فَقَدْ صَارُوا أَهْلَ الْحَرْبِ وَيُنْتَقَضُ الْعَهْدُ ضَرُورَةً، وَلَوْ امْتَنَعَ الذِّمِّيُّ مِنْ إعْطَاءِ الْجِزْيَةِ لَا يُنْتَقَضُ عَهْدُهُ؛ لِأَنَّ الِامْتِنَاعَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِعُذْرِ الْعَدَمِ فَلَا يُنْتَقَضُ الْعَهْدُ بِالشَّكِّ وَالِاحْتِمَالِ، وَكَذَلِكَ لَوْ سَبَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَا يُنْتَقَضُ عَهْدُهُ؛ لِأَنَّ هَذَا زِيَادَةُ كُفْرٍ عَلَى كُفْرٍ، وَالْعَهْدُ يَبْقَى مَعَ أَصْلِ الْكُفْرِ فَيَبْقَى مَعَ الزِّيَادَةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَتَلَ مُسْلِمًا أَوْ زَنَى بِمُسْلِمَةٍ؛ لِأَنَّ هَذِهِ مَعَاصٍ ارْتَكَبُوهَا وَهِيَ دُونَ الْكُفْرِ فِي الْقُبْحِ وَالْحُرْمَةِ ثُمَّ بَقِيَتْ الذِّمَّةُ مَعَ الْكُفْرِ، فَمَعَ الْمَعْصِيَةِ أَوْلَى وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ.

(وَأَمَّا) بَيَانُ مَا يُؤْخَذُ بِهِ أَهْلُ الذِّمَّةِ، وَمَا يَتَعَرَّضُ لَهُ وَمَا لَا يَتَعَرَّضُ فَنَقُولُ - وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقِ: إنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ يُؤْخَذُونَ بِإِظْهَارِ عَلَامَاتٍ يُعْرَفُونَ بِهَا، وَلَا يُتْرَكُونَ يَتَشَبَّهُونَ بِالْمُسْلِمِينَ فِي لِبَاسِهِمْ وَمَرْكَبِهِمْ وَهَيْئَتِهِمْ، فَيُؤْخَذُ الذِّمِّيُّ بِأَنْ يَجْعَلَ عَلَى وَسَطِهِ كَشْحًا مِثْلَ الْخَيْطِ الْغَلِيظِ، وَيَلْبَسَ قَلَنْسُوَةً طَوِيلَةً مَضْرُوبَةً وَيَرْكَبَ سَرْجًا عَلَى قَرَبُوسِهِ مِثْلَ الرُّمَّانَةِ، وَلَا يَلْبَسَ طَيْلَسَانًا مِثْلَ طَيَالِسَةِ الْمُسْلِمِينَ وَرِدَاءً مِثْلَ أَرْدِيَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَرَّ عَلَى رِجَالٍ رُكُوبٍ ذَوِي هَيْئَةٍ فَظَنَّهُمْ مُسْلِمِينَ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ: أَصْلَحَكَ اللَّهُ، تَدْرِي مَنْ هَؤُلَاءِ؟ فَقَالَ: مَنْ هُمْ؟ فَقَالَ: هَؤُلَاءِ نَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ فَلَمَّا أَتَى مَنْزِلَهُ أَمَرَ أَنْ يُنَادِي فِي النَّاسِ أَنْ لَا يَبْقَى نَصْرَانِيٌّ إلَّا عَقَدَ نَاصِيَتَهُ، وَرَكِبَ الْإِكَافَ.

وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ فَيَكُونُ كَالْإِجْمَاعِ، وَلِأَنَّ السَّلَامَ مِنْ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ فَيَحْتَاجُ الْمُسْلِمُونَ إلَى إظْهَارِ هَذِهِ الشَّعَائِرِ عِنْدَ الِالْتِقَاءِ، وَلَا يُمْكِنُهُمْ ذَلِكَ إلَّا بِتَمْيِيزِ أَهْلِ الذِّمَّةِ بِالْعَلَامَةِ، وَلِأَنَّ فِي إظْهَارِ هَذِهِ الْعَلَامَاتِ إظْهَارَ آثَارِ الذِّلَّةِ عَلَيْهِمْ، وَفِيهِ صِيَانَةُ عَقَائِدِ ضَعَفَةِ الْمُسْلِمِينَ عَنْ التَّغْيِيرِ عَلَى مَا قَالَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} [الزخرف: 33] وَكَذَا يَجِبُ أَنْ يَتَمَيَّزَ نِسَاؤُهُمْ عَنْ نِسَاءِ الْمُسْلِمِينَ فِي حَالِ الْمَشْيِ فِي الطَّرِيقِ، وَيَجِبُ التَّمْيِيزُ فِي الْحَمَّامَاتِ فِي الْأُزُرِ، فَيُخَالِفُ أُزُرُهُمْ أُزُرَ الْمُسْلِمِينَ لِمَا قُلْنَا، وَكَذَا يَجِبُ أَنْ تُمَيَّزَ الدُّورُ بِعَلَامَاتٍ تُعْرَفُ بِهَا دُورُهُمْ مِنْ دُورِ الْمُسْلِمِينَ؛ لِيَعْرِفَ السَّائِلُ الْمُسْلِمُ أَنَّهَا دُورُ الْكَفَرَةِ، فَلَا يَدْعُو لَهُمْ بِالْمَغْفِرَةِ، وَيُتْرَكُونَ أَنْ يَسْكُنُوا فِي أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ يَبِيعُونَ وَيَشْتَرُونَ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الذِّمَّةِ شُرِعَ لِيَكُونَ وَسِيلَةً لَهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ، وَتَمْكِينُهُمْ مِنْ الْمُقَامِ فِي أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ أَبْلَغُ إلَى هَذَا الْمَقْصُودِ.

وَفِيهِ أَيْضًا مَنْفَعَةُ الْمُسْلِمِينَ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، فَيُمَكَّنُونَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا يُمَكَّنُونَ مِنْ بَيْعِ الْخُمُورِ وَالْخَنَازِيرِ فِيهَا ظَاهِرًا؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ ثَابِتَةٌ فِي حَقِّهِمْ كَمَا هِيَ ثَابِتَةٌ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ بِالْحُرُمَاتِ وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ أَهْلِ الْأُصُولِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ، فَكَانَ إظْهَارُ بَيْعِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ مِنْهُمْ إظْهَارًا لِلْفِسْقِ فَيُمْنَعُونَ مِنْ ذَلِكَ.

وَعِنْدَهُمْ: أَنَّ ذَلِكَ مُبَاحٌ فَكَانَ إظْهَارَ شَعَائِرِ الْكُفْرِ فِي مَكَان مُعَدٍّ لِإِظْهَارِ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ، وَهُوَ أَمْصَارُ الْمُسْلِمِينَ فَيُمْنَعُونَ مِنْ ذَلِكَ وَكَذَا يُمْنَعُونَ مِنْ إدْخَالِهَا فِي أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ ظَاهِرًا وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ: إنِّي لَا أَمْنَعُهُمْ مِنْ إدْخَالِ الْخَنَازِيرِ فَرَّقَ بَيْنَ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ لِمَا فِي الْخَمْرِ مِنْ خَوْفِ وُقُوعِ الْمُسْلِمِ فِيهَا وَلَا يُتَوَهَّمُ ذَلِكَ فِي الْخِنْزِيرِ.

وَلَا يُمَكَّنُونَ مِنْ إظْهَارِ صَلِيبِهِمْ فِي عِيدِهِمْ؛ لِأَنَّهُ إظْهَارُ شَعَائِرِ الْكُفْرِ، فَلَا يُمَكَّنُونَ مِنْ ذَلِكَ فِي أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَوْ فَعَلُوا ذَلِكَ فِي كَنَائِسِهِمْ لَا يُتَعَرَّضُ لَهُمْ وَكَذَا لَوْ ضَرَبُوا النَّاقُوسَ فِي جَوْفِ كَنَائِسِهِمْ الْقَدِيمَةِ لَمْ يُتَعَرَّضْ لِذَلِكَ؛ لِأَنَّ إظْهَارَ الشَّعَائِرِ لَمْ يَتَحَقَّقْ، فَإِنْ ضَرَبُوا بِهِ خَارِجًا مِنْهَا لَمْ يُمَكَّنُوا مِنْهُ لِمَا فِيهِ مِنْ إظْهَارِ الشَّعَائِرِ، وَلَا يُمْنَعُونَ مِنْ إظْهَارِ شَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْنَا مِنْ بَيْعِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ، وَالصَّلِيبِ، وَضَرْبِ النَّاقُوسِ فِي قَرْيَةٍ، أَوْ مَوْضِعٍ لَيْسَ مِنْ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَوْ كَانَ فِيهِ عَدَدٌ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ وَإِنَّمَا يُكْرَهُ ذَلِكَ فِي أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ، وَهِيَ الَّتِي يُقَامُ فِيهَا الْجُمَعُ وَالْأَعْيَادُ وَالْحُدُودُ؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ مِنْ إظْهَارِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ؛ لِكَوْنِهِ إظْهَارَ شَعَائِرِ الْكُفْرِ فِي مَكَانِ إظْهَارِ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ، فَيَخْتَصُّ الْمَنْعُ بِالْمَكَانِ الْمُعَدِّ لِإِظْهَارِ الشَّعَائِرِ وَهُوَ الْمِصْرُ الْجَامِعُ.

(وَأَمَّا) إظْهَارُ فِسْقٍ يَعْتَقِدُونَ حُرْمَتَهُ كَالزِّنَا وَسَائِرِ الْفَوَاحِشِ الَّتِي هِيَ حَرَامٌ فِي دِينِهِمْ، فَإِنَّهُمْ يُمْنَعُونَ مِنْ ذَلِكَ سَوَاءٌ كَانُوا فِي أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ فِي أَمْصَارِهِمْ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015