أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ وَلَمْ يُهَاجِرْ إلَيْنَا سَوَاءٌ وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَعْلَمُ.
وَأَمَّا الْأَمَانُ فَنَقُولُ: الْأَمَانُ فِي الْأَصْلِ نَوْعَانِ: أَمَانٌ مُؤَقَّتٌ، وَأَمَانٌ مُؤَبَّدٌ أَمَّا الْمُؤَقَّتُ فَنَوْعَانِ أَيْضًا: أَحَدُهُمَا الْأَمَانُ الْمَعْرُوفُ، وَهُوَ أَنْ يُحَاصِرَ الْغُزَاةُ مَدِينَةً أَوْ حِصْنًا مِنْ حُصُونِ الْكَفَرَةِ، فَيَسْتَأْمِنُهُمْ الْكُفَّارُ فَيُؤَمِّنُوهُمْ.
وَالْكَلَامُ فِيهِ فِي مَوَاضِعَ: فِي بَيَانِ رُكْنِ الْأَمَانِ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ الرُّكْنِ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِ الْأَمَانِ، وَفِي بَيَانِ صِفَتِهِ، وَفِي بَيَانِ مَا يَبْطُلُ بِهِ الْأَمَانُ.
فَأَمَّا رُكْنُهُ فَهُوَ اللَّفْظُ الدَّالُ عَلَى الْأَمَانِ، نَحْوُ قَوْلِ الْمُقَاتِلِ: أَمَّنْتُكُمْ أَوْ: أَنْتُمْ آمِنُونَ أَوْ: أَعْطَيْتُكُمْ الْأَمَانَ وَمَا يَجْرِي هَذَا الْمَجْرَى وَأَمَّا شَرَائِطُ الرُّكْنِ فَأَنْوَاعٌ: مِنْهَا أَنْ يَكُونَ فِي حَالٍ يَكُونُ بِالْمُسْلِمِينَ ضَعْفٌ، وَبِالْكَفَرَةِ قُوَّةٌ؛ لِأَنَّ الْقِتَالَ فَرْضٌ، وَالْأَمَانُ يَتَضَمَّنُ تَحْرِيمَ الْقِتَالِ، فَيَتَنَاقَضُ.
إلَّا إذَا كَانَ فِي حَالِ ضَعْفِ الْمُسْلِمِينَ وَقُوَّةِ الْكَفَرَةِ؛ لِأَنَّهُ إذْ ذَاكَ يَكُونُ قِتَالًا مَعْنًى؛ لِوُقُوعِهِ وَسِيلَةً إلَى الِاسْتِعْدَادِ لِلْقِتَالِ، فَلَا يُؤَدِّي إلَى التَّنَاقُضِ.
وَمِنْهَا الْعَقْلُ فَلَا يَجُوزُ أَمَانُ الْمَجْنُونِ، وَالصَّبِيِّ الَّذِي لَا يَعْقِلُ؛ لِأَنَّ الْعَقْلَ شَرْطُ أَهْلِيَّةِ التَّصَرُّفِ، وَمِنْهَا الْبُلُوغُ وَسَلَامَةُ الْعَقْلِ عَنْ الْآفَةِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ.
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَيْسَ بِشَرْطٍ حَتَّى إنَّ الصَّبِيَّ الْمُرَاهِقَ الَّذِي يَعْقِلُ الْإِسْلَامَ، وَالْبَالِغَ الْمُخْتَلِطَ الْعَقْلِ إذَا أَمَّنَ لَا يَصِحُّ عِنْدَ الْعَامَّةِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَصِحُّ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ أَهْلِيَّةِ الْأَمَانِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَهْلِيَّةِ الْإِيمَانِ، وَالصَّبِيُّ الَّذِي يَعْقِلُ الْإِسْلَامَ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ فَيَكُونُ مِنْ أَهْلِ الْأَمَانِ كَالْبَالِغِ.
(وَلَنَا) أَنَّ الصَّبِيَّ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ حُكْمِ الْأَمَانِ، فَلَا يَكُونُ مِنْ أَهْلِ الْأَمَانِ وَهَذَا لِأَنَّ حُكْمَ الْأَمَانِ حُرْمَةُ الْقِتَالِ، وَخِطَابُ التَّحْرِيمِ لَا يَتَنَاوَلُهُ، وَلِأَنَّ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ الْأَمَانِ أَنْ يَكُونَ بِالْمُسْلِمِينَ ضَعْفٌ وَبِالْكَفَرَةِ قُوَّةٌ، وَهَذِهِ حَالَةٌ خَفِيَّةٌ لَا يُوقَفُ عَلَيْهَا إلَّا بِالتَّأَمُّلِ وَالنَّظَرِ، وَلَا يُوجَدُ ذَلِكَ مِنْ الصَّبِيِّ لِاشْتِغَالِهِ بِاللَّهْوِ وَاللَّعِبِ، وَمِنْهَا الْإِسْلَامُ فَلَا يَصِحُّ أَمَانُ الْكَافِرِ، وَإِنْ كَانَ يُقَاتِلُ مَعَ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ، فَلَا تُؤْمَنُ خِيَانَتُهُ، وَلِأَنَّهُ إذَا كَانَ مُتَّهَمًا فَلَا يَدْرِي أَنَّهُ بَنَى أَمَانَهُ عَلَى مُرَاعَاةِ مَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ التَّفَرُّقِ عَنْ حَالِ الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ أَمْ لَا، فَيَقَعُ الشَّكُّ فِي وُجُودِ شَرْطِ الصِّحَّةِ، فَلَا يَصِحُّ مَعَ الشَّكِّ.
وَأَمَّا الْحُرِّيَّةُ فَلَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الْأَمَانِ، فَيَصِحُّ أَمَانُ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ فِي الْقِتَالِ بِالْإِجْمَاعِ، وَهَلْ يَصِحُّ أَمَانُ الْعَبْدِ الْمَحْجُورِ عَنْ الْقِتَالِ؟ اُخْتُلِفَ فِيهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ - وَأَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَا يَصِحُّ وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يَصِحُّ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
(وَجْهُ) قَوْلِهِ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ، وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ» وَالذِّمَّةُ الْعَهْدُ، وَالْأَمَانُ نَوْعُ عَهْدٍ، وَالْعَبْدُ الْمُسْلِمُ أَدْنَى الْمُسْلِمِينَ، فَيَتَنَاوَلُهُ الْحَدِيثُ وَلِأَنَّ حَجْرَ الْمَوْلَى يَعْمَلُ فِي التَّصَرُّفَاتِ، الضَّارَّةِ دُونَ النَّافِعَةِ، بَلْ هُوَ فِي التَّصَرُّفَاتِ النَّافِعَةِ غَيْرُ مَحْجُورٍ كَقَبُولِ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ، وَلَا مَضَرَّةَ لِلْمَوْلَى فِي أَمَانِ الْعَبْدِ بِتَعْطِيلِ مَنَافِعِهِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يَتَأَدَّى فِي زَمَانٍ قَلِيلٍ، بَلْ لَهُ وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ فِيهِ مَنْفَعَةٌ، فَلَا يَظْهَرُ انْحِجَارُهُ عَنْهُ، فَأَشْبَهَ الْمَأْذُونَ بِالْقِتَالِ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَمَانُ أَنْ لَا يَجُوزَ؛ لِأَنَّ الْقِتَالَ فَرْضٌ وَالْأَمَانُ يُحَرِّمُ الْقِتَالَ، إلَّا إذَا وَقَعَ فِي حَالٍ يَكُونُ بِالْمُسْلِمِينَ ضَعْفٌ وَبِالْكَفَرَةِ قُوَّةٌ، لِوُقُوعِهِ وَسِيلَةً إلَى الِاسْتِعْدَادِ لِلْقِتَالِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، فَيَكُونُ قِتَالًا مَعْنًى إذْ الْوَسِيلَةُ إلَى الشَّيْءِ حُكْمُهَا حُكْمُ ذَلِكَ الشَّيْءِ، وَهَذِهِ حَالَةٌ لَا تُعْرَفُ إلَّا بِالتَّأَمُّلِ وَالنَّظَرِ فِي حَالِ الْمُسْلِمِينَ فِي قُوَّتِهِمْ وَضَعْفِهِمْ، وَالْعَبْدُ الْمَحْجُورُ لِاشْتِغَالِهِ بِخِدْمَةِ الْمَوْلَى لَا يَقِفُ عَلَيْهِمَا، فَكَانَ أَمَانُهُ تَرْكًا لِلْقِتَالِ الْمَفْرُوضِ صُورَةً وَمَعْنًى، فَلَا يَجُوزُ، فَبِهَذَا فَارَقَ الْمَأْذُونَ؛ لِأَنَّ الْمَأْذُونَ بِالْقِتَالِ يَقِفُ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ، فَيَقَعُ أَمَانُهُ وَسِيلَةً إلَى الْقِتَالِ، فَكَانَ إقَامَةً لِلْفَرْضِ مَعْنًى فَهُوَ الْفَرْقُ.
(وَأَمَّا) الْحَدِيثُ فَلَا يَتَنَاوَلُ الْمَحْجُورَ؛ لِأَنَّ الْأَدْنَى إمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ الدَّنَاءَةِ، وَهِيَ الْخَسَاسَةُ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ الدُّنُوِّ، وَهُوَ الْقُرْبُ وَالْأَوَّلُ لَيْسَ بِمُرَادٍ؛ لِأَنَّ الْحَدِيثَ يَتَنَاوَلُ الْمُسْلِمِينَ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ» وَلَا خَسَاسَةَ مَعَ الْإِسْلَامِ وَالثَّانِي لَا يَتَنَاوَلُ الْمَحْجُورَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ فِي صَفِّ الْقِتَالِ، فَلَا يَكُونُ أَقْرَبَ إلَى الْكَفَرَةِ وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ.
وَكَذَلِكَ الذُّكُورَةُ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ، فَيَصِحُّ أَمَانُ الْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّهَا بِمَا مَعَهَا مِنْ الْعَقْلِ لَا تَعْجِزُ عَنْ الْوُقُوفِ عَلَى حَالِ الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ سَيِّدَتَنَا زَيْنَبَ بِنْتَ النَّبِيِّ الْمُكَرَّمِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «أَمَّنَتْ زَوْجَهَا أَبَا الْعَاصِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَأَجَازَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَانَهَا» وَكَذَلِكَ السَّلَامَةُ عَنْ الْعَمَى، وَالزَّمَانَةِ وَالْمَرَضِ، لَيْسَتْ بِشَرْطٍ، فَيَصِحُّ أَمَانُ الْأَعْمَى وَالزَّمِنِ وَالْمَرِيضِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي صِحَّةِ الْأَمَانِ صُدُورُهُ عَنْ رَأْيٍ وَنَظَرٍ فِي الْأَحْوَالِ الْخَفِيَّةِ مِنْ الضَّعْفِ وَالْقُوَّةِ، وَهَذِهِ