فِيهِ عَلَى الْقِصَاصِ، وَالْأَرْشُ فِيمَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ عِنْدَ سُقُوطِ الْحَدِّ صَارَ كَأَنَّ الْجِرَاحَةَ حَصَلَتْ مِنْ غَيْرِ قَطْعِ الطَّرِيقِ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ حُكْمُهُ مَا ذَكَرْنَا فَكَذَا هَذَا، وَكَذَلِكَ إنْ قُدِرَ عَلَيْهِمْ قَبْلَ التَّوْبَةِ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ قَتْلٌ، وَلَا أَخْذُ مَالٍ قَدْ أَخَافُوا قَوْمًا بِجِرَاحَاتٍ يَجِبُ الْقِصَاصُ فِيمَا يُسْتَطَاعُ فِيهِ الِاقْتِصَاصُ، وَالدِّيَةُ فِيمَا لَا يُسْتَطَاعُ فَيُودَعُونَ السِّجْنَ؛ لِأَنَّ الْحَبْسَ وَجَبَ عَلَيْهِمْ تَعْزِيرًا لَا حَدًّا.
وَالتَّعْزِيرُ لَا تَدْخُلُ فِيهِ الْجِرَاحَةُ، بِخِلَافِ مَا إذَا قُدِرَ عَلَيْهِمْ قَبْلَ التَّوْبَةِ، قَدْ قَتَلُوا أَوْ أَخَذُوا الْمَالَ، أَوْ جَمَعُوا بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِيهِ الْحَدُّ فَيَدْخُلُ فِيهِ الْجِرَاحَةُ، وَكَذَلِكَ إذَا سَقَطَ الْحَدُّ بِالرُّجُوعِ عَنْ الْإِقْرَارِ؛ لِأَنَّ الرُّجُوعَ عَنْ الْإِقْرَارِ يَصِحُّ فِي حَقِّ سُقُوطِ الْحَدِّ، وَلَا يَصِحُّ فِي حَقِّ ضَمَانِ الْمَالِ، وَالْقِصَاصِ فَبَقِيَ إقْرَارُهُ مُعْتَبَرًا فِي حَقِّهِمَا.
(وَأَمَّا) إذَا كَانَ السُّقُوطُ بِتَكْذِيبِ الْحُجَّةِ مِنْ الْإِقْرَارِ، أَوْ الْبَيِّنَةِ لَا شَيْءَ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ لَمْ يَثْبُتْ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَهُ بِالْحُجَّةِ وَقَدْ بَطَلَتْ أَصْلًا، وَرَأْسًا، بِخِلَافِ الرُّجُوعِ عَنْ الْإِقْرَارِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ إقْرَارَ الْمُقِرِّ حُجَّةٌ فِي حَقِّهِ إلَّا أَنَّهُ تَعَذَّرَ اعْتِبَارُهُ بَعْدَ الرُّجُوعِ فِي حَقِّ الْحَدِّ دَرْءًا لِلْحَدِّ بِالشُّبْهَةِ فَبَقِيَ مُعْتَبَرًا فِي حَقِّ ضَمَانِ الْمَالِ، وَالْقِصَاصِ فَهُوَ الْفَرْقُ، وَعَلَى هَذَا حُكْمُ عَدَمِ الْوُجُوبِ لِمَانِعٍ بِأَنْ فَاتَ شَرْطٌ مِنْ شَرَائِطِ وُجُوبِ الْحَدِّ نَحْوَ نُقْصَانِ النِّصَابِ بِأَنْ كَانَ الْمَأْخُوذُ مِنْ الْمَالِ لَا يُصِيبُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ أَنَّهُمْ يَرُدُّونَهُ إنْ كَانَ قَائِمًا.
وَيَضْمَنُونَ إنْ كَانَ هَالِكًا أَوْ مُسْتَهْلَكًا، وَمَنْ قَتَلَ مِنْهُمْ فَإِنْ كَانَ بِسِلَاحٍ فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ، وَإِنْ كَانَ بِعَصًا أَوْ حَجَرٍ فَعَلَى عَاقِلَتِهِ الدِّيَةُ، وَمَنْ جَرَحَ يُقْتَصُّ مِنْهُ فِيمَا يُمْكِنُ الْقِصَاصُ، وَفِيمَا لَا يُمْكِنُ يَجِبُ الْأَرْشُ؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْحَدَّ إذَا امْتَنَعَ وُجُوبُهُ فَقَدْ حَصَلَ الْأَخْذُ، وَالْقَتْلُ، وَالْجِرَاحَةُ مِنْ غَيْرِ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ، وَحُكْمُهَا فِي غَيْرِ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ مَا قُلْنَا، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ فِي الْمُحَارِبِينَ صَبِيٌّ، أَوْ مَجْنُونٌ حَتَّى امْتَنَعَ وُجُوبُ الْحَدِّ يُدْفَعُ كُلُّ بَالِغٍ عَاقِلٍ قَتَلَ مِنْهُمْ بِسِلَاحٍ إلَى الْأَوْلِيَاءِ فَيَقْتُلُونَ، أَوْ يَعْفُونَ.
وَإِنْ كَانَ الَّذِي وَلِيَ الْقَتْلَ مِنْهُمْ صَبِيٌّ، أَوْ مَجْنُونٌ فَعَلَى عَاقِلَتِهِ الدِّيَةُ، وَإِنْ قَتَلَ بِسِلَاحٍ؛ لِأَنَّ الصَّبِيَّ، وَالْمَجْنُونَ لَيْسَا مِنْ أَهْلِ وُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَيْهِمَا، فَكَانَ عَمْدُهُمَا خَطَأً، وَإِنْ كَانَا أَخَذَا الْمَالَ ضَمِنَا؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ أَهْلِ وُجُوبِ ضَمَانِ الْمَالِ، وَكَذَلِكَ إذَا امْتَنَعَ وُجُوبُ الْحَدِّ عَلَى الْقُطَّاعِ لِمَعْنًى مِنْ الْمَعَانِي رَجَعُوا فِي ذَلِكَ إلَى حُكْمِ غَيْرِ الْقُطَّاعِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
(فَصْلٌ) :
وَأَمَّا الْحُكْمُ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِالْمَالِ فَهُوَ وُجُوبُ الرَّدِّ إنْ كَانَ قَائِمًا بِعَيْنِهِ، وَلِصَاحِبِهِ أَنْ يَأْخُذَهُ أَيْنَمَا وَجَدَهُ سَوَاءٌ وَجَدَهُ فِي يَدِ الْمُحَارِبِ، أَوْ فِي يَدِ مَنْ مَلَّكَهُ الْمُحَارِبُ بِبَيْعٍ، أَوْ هِبَةٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ وَلَوْ تَغَيَّرَ الْمَالُ إلَى الزِّيَادَةِ، أَوْ النُّقْصَانِ فَقَدْ ذَكَرْنَا حُكْمَهُ فِي كِتَابِ السَّرِقَةِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
(كِتَابُ السِّيَرِ)
وَقَدْ يُسَمَّى كِتَابَ الْجِهَادِ، وَالْكَلَامُ فِي هَذَا الْكِتَابِ فِي مَوَاضِعَ: فِي بَيَانِ مَعْنَى السِّيَرِ، وَالْجِهَادِ لُغَةً وَشَرْعًا، وَفِي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ الْجِهَادِ، وَفِي بَيَانِ مَنْ يُفْتَرَضُ عَلَيْهِ الْجِهَادُ، وَفِي بَيَانِ مَا يَنْدُبُ إلَيْهِ الْإِمَامُ عِنْدَ بَعْثِ الْجَيْشِ، أَوْ السَّرِيَّةِ إلَى الْجِهَادِ، وَفِي بَيَانِ مَا يَجِبُ عَلَى الْغُزَاةِ الِافْتِتَاحُ بِهِ حَالَ شُهُودِ الْوَقْعَةِ، وَفِي بَيَانِ مَنْ يَحِلُّ قَتْلُهُ مِنْ الْكَفَرَةِ وَمَنْ لَا يَحِلُّ، وَفِي بَيَانِ مَنْ يَجُوزُ تَرْكُهُ مِمَّنْ لَا يَحِلُّ قَتْلُهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَمَنْ لَا يَجُوزُ، وَفِي بَيَانِ مَا يُكْرَهُ حَمْلُهُ إلَى دَارِ الْحَرْبِ، وَمَا لَا يُكْرَهُ، وَفِي بَيَانِ مَا يَعْتَرِضُ مِنْ الْأَسْبَابِ الْمُحَرِّمَةِ لِلْقِتَالِ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِ الْغَنَائِمِ وَمَا يَتَّصِلُ بِهَا، وَفِي بَيَانِ حُكْمِ اسْتِيلَاءِ الْكَفَرَةِ عَلَى أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ، وَفِي بَيَانِ أَحْكَامٍ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ، وَفِي بَيَانِ أَحْكَامِ الْمُرْتَدِّينَ، وَفِي بَيَانِ أَحْكَامِ الْغُزَاةِ.
(أَمَّا) الْأَوَّلُ: فَالسِّيَرُ جَمْعُ سِيرَةٍ، وَالسِّيرَةُ فِي اللُّغَةِ تُسْتَعْمَلُ فِي مَعْنَيَيْنِ، أَحَدُهُمَا: الطَّرِيقَةُ، يُقَالُ: هُمَا عَلَى سِيرَةٍ وَاحِدَةٍ أَيْ طَرِيقَةٍ وَاحِدَةٍ، وَالثَّانِي: الْهَيْئَةُ، قَالَ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - {سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأُولَى} [طه: 21] أَيْ هَيْئَتَهَا فَاحْتَمَلَ تَسْمِيَةُ هَذَا الْكِتَابِ كِتَابَ السِّيَرِ لِمَا فِيهِ مِنْ بَيَانِ طُرُقِ الْغُزَاةِ وَهَيْئَاتِهِمْ مِمَّا لَهُمْ وَعَلَيْهِمْ وَأَمَّا الْجِهَادُ فِي اللُّغَةِ فَعِبَارَةٌ عَنْ بَذْلِ الْجُهْدِ بِالضَّمِّ وَهُوَ الْوُسْعُ وَالطَّاقَةُ، أَوْ عَنْ الْمُبَالَغَةِ فِي الْعَمَلِ مِنْ الْجَهْدِ بِالْفَتْحِ، وَفِي عُرْفِ الشَّرْعِ يُسْتَعْمَلُ فِي بَذْلِ الْوُسْعِ وَالطَّاقَةِ بِالْقِتَالِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - بِالنَّفْسِ وَالْمَالِ وَاللِّسَانِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، أَوْ الْمُبَالَغَةِ فِي ذَلِكَ وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ.