وَتَعَالَى - أَعْلَمُ.

وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ الصَّلْبِ فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ يُصْلَبُ حَيًّا، ثُمَّ يُطْعَنُ بِرُمْحٍ حَتَّى يَمُوتَ، وَكَذَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ، وَعَنْ أَبِي عُبَيْدٍ أَنَّهُ يُقْتَلُ، ثُمَّ يُصْلَبُ، وَكَذَا ذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الصَّلْبَ حَيًّا مِنْ بَابِ الْمُثْلَةِ، قَدْ «نَهَى النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَنْ الْمُثْلَةِ» ، وَالصَّحِيحُ هُوَ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ الصَّلْبَ فِي هَذَا الْبَابِ شُرِعَ لِزِيَادَةٍ فِي الْعُقُوبَةِ تَغْلِيظًا، وَالْمَيِّتُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْعُقُوبَةِ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ جَازَ أَنْ يُقَالَ: يُصْلَبُ بَعْدَ الْمَوْتِ؛ لَجَازَ أَنْ يُقَالَ: تُقْطَعُ يَدُهُ، وَرِجْلُهُ مِنْ خِلَافٍ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَذَلِكَ بَعِيدٌ فَكَذَا هَذَا.

وَالْمُرَادُ مِنْ الْمُثْلَةِ فِي الْحَدِيثِ قَطْعُ بَعْضِ الْجَوَارِحِ كَذَا قَالَهُ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقِيلَ: إذَا صَلَبَهُ الْإِمَامُ تَرَكَهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ عِبْرَةً لِلْخَلْقِ، ثُمَّ يُخَلِّي بَيْنَهُ، وَبَيْنَ أَهْلِهِ؛ لِأَنَّهُ بَعْدَ الثَّلَاثِ يَتَغَيَّرُ؛ فَيَتَضَرَّرُ بِهِ النَّاسُ.

وَأَمَّا النَّفْيُ فِي قَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ} [المائدة: 33] فَقَدْ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِيهِ قَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُرَادُ مِنْهُ، وَيُنْفَوْا مِنْ الْأَرْضِ بِحَذْفِ الْأَلِفِ، وَمَعْنَاهُ: وَيُنْفَوْا مِنْ الْأَرْضِ بِالْقَتْلِ، وَالصَّلْبِ إذًا هُوَ النَّفْيُ مِنْ وَجْهِ الْأَرْضِ حَقِيقَةً، وَهَذَا عَلَى قَوْلِ مَنْ تَأَوَّلَ الْآيَةَ الشَّرِيفَةَ فِي الْمُحَارِبِ الَّذِي أَخَذَ الْمَالَ، وَقِيلَ: إنَّ الْإِمَامَ يَكُونُ مُخَيَّرًا بَيْنَ الْأَجْزِيَةِ الثَّلَاثَةِ، وَالنَّفْيِ مِنْ الْأَرْضِ لَيْسَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ فِي التَّخْيِيرِ؛ لِأَنَّ بِالْقَتْلِ، وَالصَّلْبِ يَحْصُلُ النَّفْيُ فَكَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ النَّفْيُ مُشَارِكًا الْأَجْزِيَةَ الثَّلَاثَةَ فِي التَّخْيِيرِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُزَاحِمُ الْقَتْلَ؛ لِأَنَّهُ دُونَهُ بِكَثِيرٍ، وَقِيلَ: نَفْيُهُ أَنْ يُطْرَدَ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ.

وَعَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي رِوَايَةٍ أَنَّ نَفْيَهُ طَلَبُهُ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إنَّهُ يُطْلَبُ فِي كُلِّ بَلَدٍ، وَالْقَوْلَانِ لَا يَصِحَّانِ؛ لِأَنَّهُ إنْ طُلِبَ فِي الْبَلَدِ الَّذِي قَطَعَ الطَّرِيقَ، وَنُفِيَ عَنْهُ فَقَدْ أَلْقَى ضَرَرَهُ إلَى بَلَدٍ آخَرَ، وَإِنْ طُلِبَ مِنْ كُلِّ بَلَدٍ مِنْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ، وَنُفِيَ عَنْهُ يَدْخُلُ دَارَ الْحَرْبِ، وَفِيهِ تَعْرِيضٌ لَهُ عَلَى الْكُفْرِ، وَجَعْلُهُ حَرْبًا لَنَا، وَهَذَا لَا يَجُوزُ، وَعَنْ النَّخَعِيّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ يُحْبَسُ حَتَّى يُحْدِثَ تَوْبَةً، وَفِيهِ نَفْيٌ عَنْ وَجْهِ الْأَرْضِ مَعَ قِيَامِ الْحَيَاةِ إلَّا عَنْ الْمَوْضِعِ الَّذِي حُبِسَ فِيهِ، وَمِثْلُ هَذَا فِي عُرْفِ النَّاسِ يُسَمَّى نَفْيًا عَنْ وَجْهِ الْأَرْضِ، وَخُرُوجًا عَنْ الدُّنْيَا كَمَا أُنْشِدَ لِبَعْضِ الْمَحْبُوسِينَ

خَرَجْنَا مِنْ الدُّنْيَا وَنَحْنُ مِنْ أَهْلهَا ... فَلَسْنَا مِنْ الْأَحْيَاءِ فِيهَا وَلَا الْمَوْتَى

إذَا جَاءَنَا السَّجَّانُ يَوْمًا لِحَاجَةٍ ... عَجِبْنَا وَقُلْنَا جَاءَ هَذَا مِنْ الدُّنْيَا.

[فَصْلٌ فِي صِفَاتِ حُكْمِ قَطْعِ الطَّرِيقِ]

(فَصْلٌ) :

وَأَمَّا صِفَاتُ هَذَا الْحُكْمِ فَأَنْوَاعٌ: مِنْهَا أَنَّهُ يَنْفِي وُجُوبَ ضَمَانِ الْمَالِ، وَالْجِرَاحَاتِ عَمْدًا كَانَتْ الْجِرَاحَةُ، أَوْ خَطَأً، أَمَّا الْمَالُ؛ فَلِأَنَّهُ لَا يُجْمَعُ بَيْنَ الْحَدِّ، وَالضَّمَانِ عِنْدَنَا.

وَأَمَّا الْجِرَاحَاتُ إذَا كَانَتْ خَطَأً؛ فَلِأَنَّهَا تُوجِبُ الضَّمَانَ وَإِنْ كَانَتْ عَمْدًا؛ فَلِأَنَّ الْجِنَايَةَ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ يُسْلَكُ بِهَا مَسْلَكَ الْأَمْوَالِ، وَلَا يَجِبُ ضَمَانُ الْمَالِ فَكَذَا ضَمَانُ الْجِرَاحَاتِ، قَدْ ذَكَرْنَا مَا يَتَعَلَّقُ مِنْ الْمَسَائِلِ بِهَذَا الْأَصْلِ فِي كِتَابِ السَّرِقَةِ وَمِنْهَا أَنْ يَجْرِيَ فِيهَا التَّدَاخُلُ حَتَّى لَوْ قَطَعَ قِطْعَاتٍ فَرُفِعَ فِي بَعْضِهَا فَقُطِعَتْ يَدُهُ، وَرِجْلُهُ فِيمَا رُفِعَ فِيهِ كَانَ ذَلِكَ لِلْقِطْعَاتِ كُلِّهَا كَمَا فِي السَّرِقَةِ إلَّا أَنَّ ثَمَّةَ التَّدَاخُلَ لِاحْتِمَالِ عَدَمِ الْفَائِدَةِ مَعَ بَقَاءِ مَحِلِّ الْقَطْعِ، وَهُوَ الرِّجْلُ الْيُسْرَى، وَهَهُنَا التَّدَاخُلُ لِعَدَمِ الْمَحِلِّ.

وَالْكَلَامُ فِي الضَّمَانِ فِيمَا لَمْ يُخَاصَمْ فِيهِ مَا هُوَ الْكَلَامُ فِي السَّرِقَةِ أَنَّهُ إذَا كَانَ الْمَالُ قَائِمًا يَرُدُّهُ، وَإِنْ كَانَ هَالِكًا فَعَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ السَّرِقَةِ، وَمِنْهَا أَنَّهُ لَا يُحْتَمَلُ الْعَفْوُ، وَالْإِسْقَاطُ، وَالْإِبْرَاءُ، وَالصُّلْحُ عَنْهُ فَكُلُّ مَا وَجَبَ عَلَى قَاطِعِ الطَّرِيقِ مِنْ قَتْلٍ، أَوْ قَطْعٍ، أَوْ صَلْبٍ يُسْتَوْفَى مِنْهُ، سَوَاءٌ عَفَا الْأَوْلِيَاءُ، وَأَرْبَابُ الْأَمْوَالِ عَنْ ذَلِكَ، أَوْ لَمْ يَعْفُو أَوْ سَوَاءٌ أَبْرَءُوا مِنْهُ، أَوْ صَالَحُوا عَلَيْهِ، وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ أَيْضًا إذَا ثَبَتَ ذَلِكَ عِنْدَهُ تَرْكُهُ، وَإِسْقَاطُهُ، وَالْعَفْوُ عَنْهُ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ حَدٌّ، وَالْحُدُودُ حُقُوقُ اللَّهِ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - فَلَا يَعْمَلُ فِيهَا الْعَبْدُ، وَلَا صُلْحُهُ، وَلَا الْإِبْرَاءُ عَنْهَا.

[فَصْلٌ فِي مَحِلِّ إقَامَةِ حُكْمِ قَطْعِ الطَّرِيقِ]

(فَصْلٌ) :

وَأَمَّا مَحِلُّ إقَامَةِ هَذَا الْحُكْمِ فَنَقُولُ: مَحِلُّ إقَامَةِ هَذَا الْحُكْمِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْحُكْمِ، فَإِنْ كَانَ الْحُكْمُ هُوَ الْقَتْلُ بِأَنْ قَتَلَ، أَوْ أَخَذَ الْمَالَ، وَقَتَلَ، أَوْ الْحَبْسُ بِأَنْ لَمْ يَأْخُذْ الْمَالَ، وَلَمْ يَقْتُلْ، وَلَكِنَّهُ خَوَّفَ لَا غَيْرُ فَمَحِلُّ إقَامَتِهِ النَّفْسُ، وَإِنْ كَانَ الْحُكْمُ هُوَ الْقَطْعُ بِأَنْ أَخَذَ الْمَالَ لَا غَيْرُ فَمَحِلُّ إقَامَتِهِ الْيَدُ الْيُمْنَى، وَالرِّجْلُ الْيُسْرَى؛ لِقَوْلِهِ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - {أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ} [المائدة: 33] ، وَيُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ سَلَامَةُ الْيَدِ الْيُسْرَى، وَالرِّجْلِ الْيُمْنَى عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ السَّرِقَةِ، وَكَذَلِكَ حُكْمُ فِعْلِ الْحَدَّادِ إذَا قَطَعَ الْيَدَ الْيُسْرَى مَكَانَ الْيُمْنَى مُتَعَمِّدًا، أَوْ مُخْطِئًا، وَحُكْمُ فِعْلِ الْأَجْنَبِيِّ إذَا قَطَعَ الْيَدَ الْيُسْرَى خَطَأً أَوْ عَمْدًا هَهُنَا

طور بواسطة نورين ميديا © 2015