إنْسَانٍ لَا يَنْهَدِرُ دَمُهُ، وَلَكِنْ يُنْظَرُ إنْ كَانَ الْمَشْهُورُ عَلَيْهِ يُمْكِنُهُ دَفْعُهُ عَنْ نَفْسِهِ بِدُونِ الْقَتْلِ لَا يُبَاحُ لَهُ الْقَتْلُ، وَإِنْ كَانَ لَا يُمْكِنُهُ الدَّفْعُ إلَّا بِالْقَتْلِ يُبَاحُ لَهُ الْقَتْلُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ ضَرُورَاتِ الدَّفْعِ، فَإِنْ شَهَرَ عَلَيْهِ سَيْفَهُ يُبَاحُ لَهُ أَنْ يَقْتُلَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الدَّفْعِ إلَّا بِالْقَتْلِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ اسْتَغَاثَ النَّاسَ لَقَتَلَهُ قَبْلَ أَنْ يَلْحَقَهُ الْغَوْثُ إذْ السِّلَاحُ لَا يَلْبَثُ، فَكَانَ الْقَتْلُ مِنْ ضَرُورَاتِ الدَّفْعِ؛ فَيُبَاحُ قَتْلُهُ فَإِذَا قَتَلَهُ فَقَدْ قَتَلَ شَخْصًا مُبَاحَ الدَّمِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ.
وَكَذَا إذَا أَشْهَرَ عَلَيْهِ الْعَصَا لَيْلًا؛ لِأَنَّ الْغَوْثَ لَا يَلْحَقُ بِاللَّيْلِ عَادَةً سَوَاءٌ كَانَ فِي الْمَفَازَةِ، أَوْ فِي الْمِصْرِ، وَإِنْ أَشْهَرَ عَلَيْهِ نَهَارًا فِي الْمِصْرِ لَا يُبَاحُ قَتْلُهُ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ دَفْعُ شَرِّهِ بِالِاسْتِغَاثَةِ بِالنَّاسِ، وَإِنْ كَانَ فِي الْمَفَازَةِ يُبَاحُ قَتْلُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الِاسْتِغَاثَةُ فَلَا يَنْدَفِعُ شَرُّهُ إلَّا بِالْقَتْلِ؛ فَيُبَاحُ لَهُ الْقَتْلُ، وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ لَوْ قَصَدَ قَتْلَهُ بِمَا لَوْ قَتَلَهُ بِهِ لَوَجَبَ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ فَقَتَلَهُ الْمَقْصُودُ قَتْلُهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ؛ لِأَنَّهُ يُبَاحُ قَتْلُهُ إذْ لَوْ لَمْ يُبَحْ لَقَتَلَهُ الْقَاصِدُ.
وَإِذَا قَتَلَهُ يُقْتَلُ بِهِ قِصَاصًا، فَكَانَ فِيهِ إتْلَافُ نَفْسَيْنِ، فَإِذَا أُبِيحَ قَتْلُهُ كَانَ فِيهِ إتْلَافُ أَحَدِهِمَا، فَكَانَ أَهْوَنَ وَلَوْ قَصَدَ قَتْلَهُ بِمَا لَوْ قَتَلَهُ بِهِ لَكَانَ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ لَا يُبَاحُ لِلْمَقْصُودِ قَتْلُهُ أَنْ يَقْتُلَ الْقَاصِدَ فَإِنْ قَتَلَهُ يَجِبْ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي تَرْكِ الْإِبَاحَةِ هَهُنَا إتْلَافُ نَفْسٍ فَلَا يُبَاحُ، فَإِذَا قَتَلَهُ فَقَدْ قَتَلَ شَخْصًا مَعْصُومَ الدَّمِ عَلَى الْأَبَدِ فَيَجِبُ الْقِصَاصُ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
(فَصْلٌ) :
وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَظْهَرُ بِهِ الْقَطْعُ عِنْدَ الْقَاضِي: فَاَلَّذِي يَظْهَرُ بِهِ الْبَيِّنَةُ أَوْ الْإِقْرَارُ عَقِيبَ خُصُومَةٍ صَحِيحَةٍ، وَلَا يَظْهَرُ بِعِلْمِ الْقَاضِي عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ السَّرِقَةِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
(فَصْلٌ) :
وَأَمَّا حُكْمُ قَطْعِ الطَّرِيقِ فَلَهُ حُكْمَانِ: أَحَدُهُمَا: يَتَعَلَّقُ بِالنَّفْسِ، وَالْآخَرُ يَتَعَلَّقُ بِالْمَالِ: أَمَّا الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِالنَّفْسِ فَهُوَ وُجُوبُ الْحَدِّ، وَالْكَلَامُ فِي هَذَا الْحُكْمِ فِي مَوَاضِعَ: فِي بَيَانِ أَصْلِ هَذَا الْحُكْمِ، وَفِي بَيَانِ صِفَاتِهِ، وَفِي بَيَانِ مَحِلِّ إقَامَتِهِ، وَفِي بَيَانِ مَنْ يُقِيمُهُ، وَفِي بَيَانِ مَا يُسْقِطُهُ بَعْدَ الْوُجُوبِ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِ السُّقُوطِ بَعْدَ الْوُجُوبِ، أَوْ عَدَمِ الثُّبُوتِ لِمَانِعٍ: أَمَّا أَصْلُ الْحُكْمِ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِالنَّفْسِ فَلَنْ يُمْكِنَ الْوُصُولُ إلَى مَعْرِفَتِهِ إلَّا بَعْدَ مَعْرِفَةِ أَنْوَاعِ قَطْعِ الطَّرِيقِ؛ لِأَنَّهُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَنْوَاعِهِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ: قَطْعُ الطَّرِيقِ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ:.
إمَّا أَنْ يَكُونَ بِأَخْذِ الْمَالَ لَا غَيْرُ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِالْقَتْلِ لَا غَيْرُ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِهِمَا جَمِيعًا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِالتَّخْوِيفِ مِنْ غَيْرِ أَخْذٍ، وَلَا قَتْلٍ، فَمَنْ أَخَذَ الْمَالَ، وَلَمْ يَقْتُلْ قُطِعَتْ يَدُهُ، وَرِجْلُهُ مِنْ خِلَافٍ، وَمَنْ قَتَلَ، وَلَمْ يَأْخُذْ الْمَالَ قُتِلَ، وَمَنْ أَخَذَ الْمَالَ، وَقَتَلَ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الْإِمَامُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ قَطَعَ يَدَهُ، وَرِجْلَهُ، ثُمَّ قَتَلَهُ أَوْ صَلَبَهُ، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَقِطْهُ، وَقَتَلَهُ أَوْ صَلَبَهُ، وَقِيلَ: إنَّ تَفْسِيرَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْقَطْعِ وَالْقَتْلِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هُوَ: أَنْ يَقْطَعَهُ الْإِمَامُ، وَلَا يَحْسِمُ مَوْضِعَ الْقَطْعِ، بَلْ يَتْرُكُهُ حَتَّى يَمُوتَ، وَعِنْدَهُمَا يُقْتَلُ، وَلَا يُقْطَعُ، وَمَنْ أَخَافَ، وَلَمْ يَأْخُذْ مَالًا، وَلَا قَتَلَ نَفْسًا يُنْفَى، وَقَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي قَاطِعِ الطَّرِيق: مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْأَجْزِيَةِ الْمَذْكُورَةِ.
وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ - {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ} [المائدة: 33] احْتَجَّ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِظَاهِرِ الْآيَةِ، وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ذَكَرَ الْأَجْزِيَةَ فِيهَا بِحَرْفِ، أَوْ، وَأَنَّهَا لِلتَّخْيِيرِ كَمَا فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ، وَكَفَّارَةِ جَزَاءِ الصَّيْدِ؛ فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِحَقِيقَةِ هَذَا الْحَرْفِ إلَّا حَيْثُ قَامَ الدَّلِيلُ، بِخِلَافِهَا.
(وَلَنَا) أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إجْرَاءُ الْآيَةِ عَلَى ظَاهِرِ التَّخْيِيرِ فِي مُطْلَقِ الْمُحَارِبِ؛ لِأَنَّ الْجَزَاءَ عَلَى قَدْرِ الْجِنَايَةِ يَزْدَادُ بِزِيَادَةِ الْجِنَايَةِ، وَيَنْتَقِصُ بِنُقْصَانِهَا هَذَا هُوَ مُقْتَضَى الْعَقْلِ، وَالسَّمْعِ أَيْضًا قَالَ اللَّهُ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40] فَالتَّخْيِيرُ فِي الْجِنَايَةِ الْقَاصِرَةِ بِالْجَزَاءِ فِي الْجَزَاءِ الَّذِي هُوَ جَزَاءٌ فِي الْجِنَايَةِ الْكَامِلَةِ، وَفِي الْجِنَايَةِ الْكَامِلَةِ بِالْجَزَاءِ الَّذِي هُوَ جَزَاءٌ فِي الْجِنَايَةِ الْقَاصِرَةِ خِلَافُ الْمَشْرُوعِ يُحَقِّقُهُ أَنَّ الْأُمَّةَ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنَّ الْقُطَّاعَ لَوْ أَخَذُوا الْمَالَ، وَقَتَلُوا لَا يُجَازُونَ بِالنَّفْيِ وَحْدَهُ.
وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُ الْآيَةِ يَقْتَضِي التَّخْيِيرَ بَيْنَ الْأَجْزِيَةِ الْأَرْبَعِ دَلَّ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْعَمَلُ بِظَاهِرِ التَّخْيِيرِ عَلَى أَنَّ التَّخْيِيرَ الْوَارِدَ فِي الْأَحْكَامِ الْمُخْتَلِفَةِ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ بِحَرْفِ التَّخْيِيرِ إنَّمَا يَجْرِي عَلَى ظَاهِرِهِ إذَا كَانَ سَبَبُ الْوُجُوبِ وَاحِدًا، كَمَا فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ، وَكَفَّارَةِ جَزَاءِ الصَّيْدِ، أَمَّا إذَا كَانَ مُخْتَلِفًا فَيُخَرَّجُ مَخْرَجَ بَيَانِ الْحُكْمِ لِكُلٍّ فِي نَفْسِهِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا} [الكهف: 86] إنَّ ذَلِكَ لَيْسَ لِلتَّخْيِيرِ بَيْنَ الْمَذْكُورِينَ، بَلْ لِبَيَانِ