- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فِي قَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ - {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] أَنَّهُ قَالَ أَيْمَانَهُمَا، وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ، وَإِبْرَاهِيمَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - وَأَمَّا حَدِيثُ لَا قَطْعَ فَقَدْ رَوَى الزُّهْرِيُّ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ - سَيِّدَتِنَا - عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَتْ لَمَّا كَانَ الَّذِي سَرَقَ حُلِيَّ أَسْمَاءَ أَقْطَعَ الْيَدِ الْيُمْنَى فَقَطَعَ - سَيِّدُنَا - أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رِجْلَهُ الْيُسْرَى، وَكَانَتْ تُنْكِرُ أَنْ يَكُونَ أَقْطَعَ الْيَدِ، وَالرِّجْلِ، ثُمَّ إنَّمَا تُقْطَعُ يَدُهُ الْيُمْنَى فِي الْكَرَّةِ الْأُولَى إذَا كَانَتْ الْيَدُ الْيُسْرَى صَحِيحَةً يُمْكِنُهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهَا بَعْدَ قَطْعِ الْيَدِ الْيُمْنَى.
وَالرِّجْلُ الْيُمْنَى صَحِيحَةٌ يُمْكِنُهُ الِانْتِفَاعُ بِهَا بَعْدَ قَطْعِ الرِّجْلِ الْيُسْرَى، فَإِنْ كَانَتْ الْيَدُ الْيُسْرَى مَقْطُوعَةً، أَوْ شَلَّاءَ، أَوْ مَقْطُوعَةَ الْإِبْهَامِ، أَوْ أُصْبُعَيْنِ سِوَى الْإِبْهَامِ لَا تُقْطَعُ الْيَدُ الْيُمْنَى؛ لِأَنَّ الْقَطْعَ فِي السَّرِقَةِ شُرِعَ زَاجِرًا لَا مُهْلِكًا، فَإِذَا لَمْ تَكُنْ الْيَدُ الْيُسْرَى يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهَا؛ فَقَطْعُ الْيَدِ الْيُمْنَى يَقَعُ تَفْوِيتًا لِجِنْسِ الْمَنْفَعَةِ، وَهِيَ مَنْفَعَةُ الْبَطْشِ أَصْلًا فَيَقَعُ إهْلَاكًا لِلنَّفْسِ مِنْ وَجْهٍ فَلَا تُقْطَعُ، وَلَا يَقْطَعُ رِجْلَهُ الْيُسْرَى أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ يَذْهَبُ أَحَدُ الشِّقَّيْنِ عَلَى الْكَمَالِ فَيُهْلِكُ النَّفْسَ مِنْ وَجْهٍ وَلَوْ كَانَتْ الْيَدُ الْيُسْرَى مَقْطُوعَةَ أُصْبُعٍ وَاحِدَةٍ سِوَى الْإِبْهَامِ تُقْطَعُ يَدُهُ الْيُمْنَى؛ لِأَنَّ الْقَطْعَ لَا يَتَضَمَّنُ فَوَاتَ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ.
وَكَذَا إنْ كَانَتْ الرِّجْلُ الْيُمْنَى مَقْطُوعَةً، أَوْ شَلَّاءَ، أَوْ بِهَا عَرَجٌ يَمْنَعُ الْمَشْيَ عَلَيْهَا لَا تُقْطَعُ الْيَدُ الْيُمْنَى؛ لِمَا فِيهِ مِنْ فَوَاتِ الشِّقِّ، وَلَا رِجْلُهُ الْيُسْرَى، وَإِنْ كَانَتْ صَحِيحَةً؛ لِأَنَّهُ يَبْقَى بِلَا رِجْلَيْنِ فَيَفُوتُ جِنْسُ الْمَنْفَعَةِ وَلَوْ كَانَتْ رِجْلُهُ الْيُمْنَى مَقْطُوعَةَ الْأَصَابِعِ كُلِّهَا فَإِنْ كَانَ يَسْتَطِيعُ الْقِيَامَ، وَالْمَشْيَ عَلَيْهَا تُقْطَعُ يَدُهُ الْيُمْنَى؛ لِأَنَّ الْجِنْسَ لَا يَفُوتُ، وَإِنْ كَانَ لَا يَسْتَطِيعُ لَا يُقْطَعُ لِفَوَاتِ الشِّقِّ وَلَوْ كَانَتْ يَدَاهُ صَحِيحَتَيْنِ، وَلَكِنَّ رِجْلَهُ الْيُسْرَى مَقْطُوعَةٌ، أَوْ شَلَّاءُ أَوْ مَقْطُوعَةُ الْإِبْهَامِ أَوْ الْأَصَابِعِ تُقْطَعُ يَدُهُ الْيُمْنَى؛ لِأَنَّ جِنْسَ الْمَنْفَعَةِ لَا يَفُوتُ، وَلَا فِيهِ فَوَاتُ الشِّقِّ أَيْضًا.
وَلَوْ سَرَقَ وَيُمْنَاهُ شَلَّاءُ، أَوْ مَقْطُوعَةُ الْإِبْهَامِ، أَوْ الْأَصَابِعِ لِقَوْلِهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] أَيْ: أَيْمَانَهُمَا مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ يَمِينٍ، وَيَمِينٍ، وَلِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ سَلِيمَةً تُقْطَعُ فَالنَّاقِصَةُ الْمَعِيبَةُ أَوْلَى بِالْقَطْعِ، ثُمَّ فَرَّقَ بَيْنَ الْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ، وَبَيْنَ الْإِعْتَاقِ فِي الْكَفَّارَةِ حَيْثُ جَعَلَ فَوَاتَ إصْبَعَيْنِ سِوَى الْإِبْهَامِ مِنْ الْيَدِ الْيُسْرَى نُقْصَانًا مَانِعًا مِنْ قَطْعِ الْيَدِ الْيُمْنَى، وَلَمْ يُجْعَلْ فَوَاتُ إصْبَعَيْنِ نُقْصَانًا مَانِعًا مِنْ جَوَازِ الْإِعْتَاقِ مَا لَمْ يَكُنْ ثَلَاثًا.
(وَجْهُ) الْفَرْقِ: أَنَّ الْقَطْعَ حَدٌّ فَهَذَا الْقَدْرُ مِنْ النُّقْصَانِ يُورِثُ شُبْهَةً، بِخِلَافِ الْعِتْقِ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ وَلَوْ قَالَ الْحَاكِمُ لِلْحَدَّادِ اقْطَعْ يَدَ السَّارِقِ فَقَطَعَ الْيَدَ الْيُسْرَى فَهَذَا عَلَى، وَجْهَيْنِ: إمَّا أَنْ قَالَ اقْطَعْ يَدَهُ مُطْلَقًا، وَإِمَّا أَنْ قَيَّدَهُ فَقَالَ: اقْطَعْ يَدَهُ الْيُمْنَى فَإِنْ أَطْلَقَ فَقَالَ: لَهُ اقْطَعْ يَدَهُ فَقَطَعَ الْيُسْرَى لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لِلْحَالِ؛ لِأَنَّهُ فَعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ حَيْثُ أَمَرَهُ بِقَطْعِ الْيَدِ، وَقَدْ قَطَعَ الْيَدَ، وَإِنْ قَيَّدَ فَقَالَ: اقْطَعْ يَدَهُ الْيُمْنَى فَقَطَعَ الْيُسْرَى فَإِنْ أَخْرَجَ السَّارِقُ يَدَهُ، وَقَالَ هَذَا هُوَ يَمِينِي فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ قَطَعَ بِأَمْرِهِ فَلَا يَضْمَنُ كَمَنْ قَالَ لِآخَرَ اقْطَعْ يَدِي فَقَطَعَهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ كَذَا هَذَا، وَإِنْ لَمْ يُخْرِجْ السَّارِقُ يَدَهُ، وَلَمْ يَقُلْ ذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ قَطَعَ الْيُسْرَى خَطَأً لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَعِنْدَ زُفَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَضْمَنُ؛ لِأَنَّ الْخَطَأَ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ لَيْسَ بِعُذْرٍ.
(وَلَنَا) أَنَّ هَذَا خَطَأٌ فِي الِاجْتِهَادِ؛ لِأَنَّهُ أَقَامَ الْيَسَارَ مَقَامَ الْيَمِينِ بِاجْتِهَادِهِ مُتَمَسِّكًا بِظَاهِرِ قَوْلِهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْيَمِينِ، وَالْيَسَارِ، فَكَانَ هَذَا خَطَأً مِنْ الْمُجْتَهِدِ فِي الِاجْتِهَادِ، وَأَنَّهُ مَوْضُوعٌ، وَمَوْضُوعُ الْمَسْأَلَةِ فِي هَذَا الْخَطَأِ لَا فِيمَا إذَا أَخْطَأَ فَظَنَّ الْيَسَارَ يَمِينًا مَعَ اعْتِقَادِ وُجُوبِ قَطْعِ الْيَمِينِ مَعَ مَا أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَا يَضْمَنُ هُنَاكَ أَيْضًا عَلَى مَا نُبَيِّنُ، وَإِنْ قَطَعَ الْيُسْرَى عَمْدًا لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ أَيْضًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا يَضْمَنُ لَهُمَا أَنَّهُ تَعَمَّدَ الظُّلْمَ بِإِقَامَةِ الْيَسَارِ مَقَامَ الْيَمِينِ فَلَمْ يَكُنْ مَعْذُورًا فَيَضْمَنُ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ أَتْلَفَ، وَأَخْلَفَ خَيْرًا مِمَّا أَتْلَفَ، فَلَا يَضْمَنُ كَرَجُلَيْنِ شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ بِبَيْعِ عَبْدٍ قِيمَتُهُ أَلْفٌ بِأَلْفَيْنِ، ثُمَّ رَجَعَا أَنَّهُمَا لَا يَضْمَنَانِ؛ لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا.
وَإِنَّمَا قُلْنَا: إنَّهُ أَخْلَفَ خَيْرًا مِمَّا أَتْلَفَ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا قَطَعَ الْيُسْرَى فَقَدْ سَلِمَتْ لَهُ الْيُمْنَى؛ لِأَنَّهَا لَا تُقْطَعُ بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤْتَى عَلَى أَطْرَافِهِ الْأَرْبَعَةِ، وَالْيُمْنَى خَيْرٌ مِنْ الْيُسْرَى ثُمَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ - هَلْ يَكُونُ هَذَا الْقَطْعُ - وَهُوَ قَطْعُ الْيُسْرَى - قَطْعًا مِنْ السَّرِقَةِ حَتَّى إذَا هَلَكَ الْمَالُ فِي يَدِ السَّارِقِ، أَوْ اسْتَهْلَكَهُ لَا يَضْمَنُ، أَوْ لَا يَكُونُ مِنْ السَّرِقَةِ حَتَّى يَضْمَنَ؟ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ قَالَ بَعْضُهُمْ: يَكُونُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَكُونُ هَذَا كُلُّهُ إذَا قَطَعَ الْحَدَّادُ بِأَمْرِ الْحَاكِمِ، فَأَمَّا الْأَجْنَبِيُّ إذَا قَطَعَ يَدَهُ الْيُسْرَى فَإِنْ كَانَ خَطَأً تَجِبُ الدِّيَةُ، وَإِنْ كَانَ عَمْدًا يَجِبُ الْقِصَاصُ، وَسَقَطَ عَنْهُ الْقَطْعُ فِي الْيَمِينِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَطَعَ يُؤَدِّي إلَى إهْلَاكِ النَّفْسِ مِنْ، وَجْهٍ عَلَى مَا بَيَّنَّا