فِي يَدِ السَّارِقِ كَانَ لِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَقْطَعَهُ، وَلَا سَبِيلَ لِلرَّاهِنِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمُرْتَهِنَ كَانَ لَهُ وَلَايَةُ الْقَطْعِ قَبْلَ الْهَلَاكِ، وَهَلَاكُ الْمَحِلِّ لَا يُسْقِطُ الْقَطْعَ فَيُثْبِتَ الْوَلَايَةَ.
(فَأَمَّا) الرَّاهِنُ فَلَمْ يَبْقَ لَهُ حَقٌّ فِي الْمَرْهُونِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ سَقَطَ عَنْهُ الدَّيْنُ بِهَلَاكِهِ فَلَا تَثْبُتُ لَهُ وَلَايَةُ الْمُطَالَبَةِ.
(وَأَمَّا) السَّارِقُ فَلَا يَمْلِكُ الْخُصُومَةَ؛ لِأَنَّ يَدَهُ لَيْسَتْ بِمَضْمُونَةٍ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِيَدِ مِلْكٍ، وَلَا يَدِ ضَمَانٍ، وَلَا يَدِ أَمَانَةٍ فَصَارَ الْأَخْذُ مِنْ يَدِهِ كَالْأَخْذِ مِنْ الطَّرِيقِ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُخَاصِمَ الثَّانِيَ بِالْقَطْعِ، وَلَا لِلْمَالِكِ أَيْضًا وَلَايَةُ الْمُخَاصَمَةِ؛ لِأَنَّ أَخْذَ الْمَالِ مِنْ الْيَدِ الصَّحِيحَةِ شَرْطُ وُجُوبِ الْقَطْعِ، وَلَمْ يُوجَدْ فَلَا يَجِبُ الْقَطْعُ، فَلَا تَثْبُتُ لَهُ وَلَايَةُ الْمُطَالَبَةِ.
وَهَلْ لِلسَّارِقِ الْأَوَّلِ أَنْ يُطَالِبَ الثَّانِيَ بِرَدِّ الْمَسْرُوقِ إلَى يَدِهِ قَالُوا: فِيهِ رِوَايَتَانِ فِي رِوَايَةٍ لَهُ ذَلِكَ، وَفِي رِوَايَةٍ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ.
(وَجْهُ) الرِّوَايَةِ الْأُولَى عَلَى نَحْوِ مَا بَيَّنَّا: أَنَّ الْمَسْرُوقَ مِنْهُ لَمْ تَكُنْ لَهُ يَدٌ صَحِيحَةٌ فَصَارَ الْأَخْذُ مِنْهُ كَالْأَخْذِ مِنْ الطَّرِيقِ سَوَاءٌ.
(وَجْهُ) الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ: أَنَّ مِنْ الْجَائِزِ أَنْ يَخْتَارَ الْمَالِكُ الضَّمَانَ، وَيَتْرُكَ الْقَطْعَ فَيَحْتَاجُ إلَى أَنْ يَسْتَرِدَّهُ مِنْ يَدِهِ فَيَدْفَعُ إلَيْهِ فَيَتَخَلَّصُ عَنْ الضَّمَانِ كَمَا فِي الْغَصْبِ، وَنَحْوِهِ عَلَى مَا مَرَّ وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ - أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ مَا لَمْ يُقْطَعْ فَلَهُ ذَلِكَ.
(وَأَمَّا) بَعْدَ الْقَطْعِ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ قَبْلَ الْقَطْعِ يُحْتَمَلُ اخْتِيَارُ الضَّمَانِ، وَبَعْدَهُ لَا، قَالَ وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ لَهُ ذَلِكَ بَعْدَ الْقَطْعِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ إنْ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ فِي الْقَضَاءِ فَهُوَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى؛ فَيَحْتَاجُ إلَى الِاسْتِرْدَادِ لِيَتَخَلَّصَ عَنْ الضَّمَانِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - وَلَا تَظْهَرُ السَّرِقَةُ الْمُوجِبَةُ لِلْقَطْعِ بِعِلْمِ الْقَاضِي، سَوَاءٌ اسْتَفَادَهُ قَبْلَ زَمَانِ الْقَضَاءِ، أَوْ فِي زَمَانِ الْقَضَاءِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ أَدَبِ الْقَاضِي، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
(فَصْلٌ) :
وَأَمَّا حُكْمُ السَّرِقَةِ فَنَقُولُ - وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ -: لِلسَّرِقَةِ حُكْمَانِ: أَحَدُهُمَا: يَتَعَلَّقُ بِالنَّفْسِ، وَالْآخَرُ: يَتَعَلَّقُ بِالْمَالِ (أَمَّا) الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِالنَّفْسِ فَالْقَطْعُ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] ؛ وَلِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْأَخْبَارِ، وَعَلَيْهِ إجْمَاعُ الْأُمَّةِ، فَالْكَلَامُ فِي هَذَا الْحُكْمِ يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ: فِي بَيَانِ صِفَاتِ هَذَا الْحُكْمِ، وَفِي بَيَانِ مَحِلِّ إقَامَتِهِ، وَفِي بَيَانِ مَنْ يُقِيمُهُ، وَفِي بَيَانِ مَا يَسْقُطُ بَعْدَ ثُبُوتِهِ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِ السُّقُوطِ بَعْدَ الثُّبُوتِ، أَوْ عَدَمِ الثُّبُوتِ أَصْلًا لِمَانِعٍ مِنْ الشُّبْهَةِ.
(أَمَّا) صِفَاتُ هَذَا الْحُكْمِ فَأَنْوَاعٌ: (مِنْهَا) أَنْ يَبْقَى وُجُوبُ ضَمَانِ الْمَسْرُوقِ عِنْدَنَا فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ وَالْقَطْعُ فِي سَرِقَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلَقَبُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الضَّمَانَ، وَالْقَطْعَ هَلْ يَجْتَمِعَانِ فِي سَرِقَةٍ وَاحِدَةٍ؟ عِنْدَنَا لَا يَجْتَمِعَانِ حَتَّى لَوْ هَلَكَ الْمَسْرُوقُ فِي يَدِ السَّارِقِ بَعْدَ الْقَطْعِ، أَوْ قَبْلَهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فَيُقْطَعُ، وَيَضْمَنُ مَا اسْتَهْلَكَهُ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِ: أَنَّهُ وُجِدَ مِنْ السَّارِقِ سَبَبُ وُجُوبِ الْقَطْعِ وَالضَّمَانِ؛ فَيَجِبَانِ جَمِيعًا، وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ وُجِدَ مِنْهُ السَّرِقَةُ، وَإِنَّهَا سَبَبٌ لِوُجُوبِ الْقَطْعِ، وَالضَّمَانِ؛ لِأَنَّهَا جِنَايَةُ حَقَّيْنِ: حَقُّ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - وَحَقُّ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ.
(أَمَّا) الْجِنَايَةُ عَلَى حَقِّ اللَّهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - فَهَتْكُ حُرْمَةِ حِفْظِ اللَّهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - إذْ الْمَالُ حَالَ غَيْبَةِ الْمَالِكِ مَحْفُوظٌ بِحِفْظِ اللَّهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى -.
(وَأَمَّا) الْجِنَايَةُ عَلَى حَقِّ الْعَبْدِ فَبِإِتْلَافِ مَالِهِ، فَكَانَتْ الْجِنَايَةُ عَلَى حَقَّيْنِ، فَكَانَتْ مَضْمُونَةً بِضَمَانَيْنِ فَيَجِبُ ضَمَانُ الْقَطْعِ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا جِنَايَةٌ عَلَى حَقِّ اللَّهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - وَضَمَانُ الْمَالِ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا جِنَايَةٌ عَلَى حَقِّ الْعَبْدِ، كَمَنْ شَرِبَ خَمْرَ الذِّمِّيِّ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى، وَالضَّمَانُ حَقًّا لِلْعَبِيدِ، وَكَذَا قَتْلُ الْخَطَأِ يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى، وَالدِّيَةَ حَقًّا لِلْعَبْدِ، كَذَا هَذَا، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْمَسْرُوقَ لَوْ كَانَ قَائِمًا يَجِبُ رَدُّهُ عَلَى الْمَالِكِ فَدَلَّ أَنَّهُ بَقِيَ مَعْصُومًا حَقًّا لِلْمَالِكِ.
(وَلَنَا) الْكِتَابُ، وَالسُّنَّةُ، وَالْمَعْقُولُ: أَمَّا الْكِتَابُ الْعَزِيزُ فَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا} [المائدة: 38] ، وَالِاسْتِدْلَالُ بِالْآيَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ اللَّهَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - سَمَّى الْقَطْعَ جَزَاءً، وَالْجَزَاءُ يُبْنَى عَلَى الْكِفَايَةِ فَلَوْ ضَمَّ إلَيْهِ الضَّمَانُ لَمْ يَكُنْ الْقَطْعُ كَافِيًا فَلَمْ يَكُنْ جَزَاءً تَعَالَى اللَّهُ - سُبْحَانَهُ عَزَّ شَأْنُهُ - عَنْ الْخُلْفِ فِي الْخَبَرِ وَالثَّانِي: أَنَّهُ جَعَلَ الْقَطْعَ كُلَّ الْجَزَاءِ؛ لِأَنَّهُ عَزَّ شَأْنُهُ ذَكَرَهُ، وَلَمْ يَذْكُرْ غَيْرَهُ فَلَوْ أَوْجَبْنَا الضَّمَانَ لَصَارَ الْقَطْعُ بَعْضَ الْجَزَاءِ؛ فَيَكُونُ نَسْخًا لِنَصِّ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ.
وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا رُوِيَ عَنْ - سَيِّدِنَا - عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا قُطِعَ السَّارِقُ فَلَا غُرْمَ عَلَيْهِ» ، وَالْغُرْمُ فِي اللُّغَةِ مَا يَلْزَمُ أَدَاؤُهُ، وَهَذَا نَصٌّ فِي الْبَابِ.
(وَأَمَّا) الْمَعْقُولُ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: بِنَاءٌ، وَالْآخَرُ ابْتِدَاءٌ (أَمَّا) وَجْهُ الْبِنَاءِ فَهُوَ: أَنَّ الْمَضْمُونَاتِ عِنْدَنَا تُمْلَكُ عِنْدَ أَدَاءِ الضَّمَانِ، أَوْ اخْتِيَارِهِ مِنْ وَقْتِ الْأَخْذِ فَلَوْ ضَمَّنَّا السَّارِقَ