لَا يَجُوزُ - وَالْمَسْأَلَةُ مَرَّتْ فِي كِتَابِ الْوَكَالَةِ - وَلَا يَجُوزُ التَّوْكِيلُ فِيهِ بِالِاسْتِيفَاءِ عِنْدَنَا، خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ أَنَّ حَضْرَةَ الْمَقْذُوفِ بِنَفْسِهِ شَرْطُ جَوَازِ الِاسْتِيفَاءِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَتَقُومُ حَضْرَةُ الْوَكِيلِ مَقَامَ حَضْرَتِهِ عَلَى أَنَّ هَذَا الْحَدَّ عِنْدَهُ حَدُّ الْمَقْذُوفِ عَلَى الْخُلُوصِ، فَتَجْرِي فِيهِ النِّيَابَةُ فِي الْإِثْبَاتِ وَالِاسْتِيفَاءِ جَمِيعًا.
(وَلَنَا) أَنَّ الِاسْتِيفَاءَ عِنْدَ غَيْبَةِ الْمُوَكِّلِ بِنَفْسِهِ اسْتِيفَاءٌ مَعَ الشُّبْهَةِ؛ لِجَوَازِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ حَاضِرًا لَصَدَّقَ الْقَاذِفَ فِي قَذْفِهِ، وَالْحُدُودُ لَا تُسْتَوْفَى مَعَ الشُّبُهَاتِ وَلَوْ كَانَ الْمَقْذُوفُ حَيًّا وَقْتَ الْقَذْفِ، ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ الْخُصُومَةِ أَوْ بَعْدَهَا - سَقَطَ الْحَدُّ عِنْدَنَا، خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ بِنَاءً عَلَى أَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ لَا يُورَثُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ يُورَثُ - وَسَتَأْتِي الْمَسْأَلَةُ فِي مَوْضِعِهَا - هَذَا إذَا كَانَ حَيًّا وَقْتَ الْقَذْفِ.
(وَأَمَّا) إذَا كَانَ مَيِّتًا فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ لِوَلَدِهِ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى، وَلِابْنِ ابْنِهِ، وَبِنْتِ ابْنِهِ وَإِنْ سَفَلُوا، وَلِوَالِدِهِ وَإِنْ عَلَا، أَنْ يُخَاصِمَ الْقَاذِفَ فِي الْقَذْفِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْقَذْفِ: هُوَ إلْحَاقُ الْعَارِ بِالْمَقْذُوفِ، وَالْمَيِّتُ لَيْسَ بِمَحِلٍّ لِإِلْحَاقِ الْعَارِ بِهِ، فَلَمْ يَكُنْ مَعْنَى الْقَذْفِ رَاجِعًا إلَيْهِ بَلْ إلَى فُرُوعِهِ وَأُصُولِهِ؛ لِأَنَّهُ يَلْحَقُهُمْ الْعَارُ بِقَذْفِ الْمَيِّتِ؛ لِوُجُودِ الْجُزْئِيَّةِ وَالْبَعْضِيَّةِ، وَقَذْفُ الْإِنْسَانِ يَكُونُ قَذْفًا لِأَجْزَائِهِ فَكَانَ الْقَذْفُ بِهِمْ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى فَيَثْبُتُ لَهُمْ حَقُّ الْخُصُومَةِ؛ لِدَفْعِ الْعَارِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْمَقْذُوفُ حَيًّا وَقْتَ الْقَذْفِ، ثُمَّ مَاتَ - أَنَّهُ لَيْسَ لِلْوَلَدِ وَالْوَالِدِ حَقُّ الْخُصُومَةِ بَلْ يَسْقُطُ؛ لِأَنَّ الْقَذْفَ أُضِيفَ إلَيْهِ وَهُوَ كَانَ مَحِلًّا قَابِلًا لِلْقَذْفِ صُورَةً وَمَعْنًى بِإِلْحَاقِ الْعَارِ بِهِ؛ فَانْعَقَدَ الْقَذْفُ مُوجِبًا حَقَّ الْخُصُومَةِ لَهُ خَاصَّةً، فَلَوْ انْتَقَلَ إلَى وَرَثَتِهِ لَانْتَقَلَ إلَيْهِمْ بِطَرِيقِ الْإِرْثِ، وَهَذَا الْحَدُّ لَا يَحْتَمِلُ الْإِرْثَ - لِمَا نَذْكُرُ - فَسَقَطَ ضَرُورَةً، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْإِخْوَةَ وَالْأَخَوَاتِ وَالْأَعْمَامَ وَالْعَمَّاتِ وَالْأَخْوَالَ وَالْخَالَاتِ لَا يَمْلِكُونَ الْخُصُومَةَ؛ لِأَنَّ الْعَارَ لَا يَلْحَقُهُمْ؛ لِانْعِدَامِ الْجُزْئِيَّةِ وَالْبَعْضِيَّةِ فَالْقَذْفُ لَا يَتَنَاوَلُهُمْ لَا صُورَةً وَلَا مَعْنًى، وَكَذَا لَيْسَ لِمَوْلَى الْعَتَاقَةِ وِلَايَةُ الْخُصُومَةِ؛ لِأَنَّ الْقَذْفَ لَمْ يَتَنَاوَلْهُ صُورَةً وَمَعْنًى بِإِلْحَاقِ الْعَارِ بِهِ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فِي أَوْلَادِ الْبَنَاتِ أَنَّهُمْ هَلْ يَمْلِكُونَ الْخُصُومَةَ؟ عِنْدَهُمَا يَمْلِكُونَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَمْلِكُونَ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ وَلَدَ الْبِنْتِ يُنْسَبُ إلَى أَبِيهِ لَا إلَى جَدِّهِ فَلَمْ يَكُنْ مَقْذُوفًا مَعْنًى بِقَذْفِ جَدِّهِ.
(وَلَهُمَا) أَنَّ مَعْنَى الْوِلَادِ مَوْجُودٌ وَالنِّسْبَةُ الْحَقِيقِيَّةُ ثَابِتَةٌ بِوَاسِطَةِ أُمِّهِ؛ فَصَارَ مَقْذُوفًا مَعْنًى فَيَمْلِكُ الْخُصُومَةَ.
وَهَلْ يُرَاعَى فِيهِ التَّرْتِيبُ بِتَقْدِيمِ الْأَقْرَبِ عَلَى الْأَبْعَدِ؟ قَالَ أَصْحَابُنَا الثَّلَاثَةُ: لَا يُرَاعَى وَالْأَقْرَبُ وَالْأَبْعَدُ سَوَاءٌ فِيهِ، حَتَّى كَانَ لِابْنِ الِابْنِ أَنْ يُخَاصِمَ فِيهِ مَعَ قِيَامِ الِابْنِ الصُّلْبِيِّ.
وَعِنْدَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُرَاعَى فِيهِ التَّرْتِيبُ وَتَثْبُتُ لِلْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ، وَلَيْسَ لِلْأَبْعَدِ حَقُّ الْخُصُومَةِ وَالْمُطَالَبَةِ بِالْقَذْفِ لِإِلْحَاقِ الْعَارِ بِالْمُخَاصِمِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ عَارَ الْأَقْرَبِ يَزِيدُ عَلَى الْأَبْعَدِ فَكَانَ أَوْلَى بِالْخُصُومَةِ.
(وَلَنَا) أَنَّ هَذَا الْحَقَّ لَيْسَ يَثْبُتُ بِطَرِيقِ الْإِرْثِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ يَثْبُتُ الْحَقُّ لِلْمَيِّتِ، ثُمَّ يَنْتَقِلُ إلَى الْوَرَثَةِ بَلْ يَثْبُتُ لَهُمْ ابْتِدَاءً لَا بِطَرِيقِ الِانْتِقَالِ مِنْ الْمَيِّتِ إلَيْهِمْ؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَيِّتَ بِالْمَوْتِ خَرَجَ عَنْ احْتِمَالِ لُحُوقِ الْعَارِ بِهِ فَلَمْ يَكُنْ ثُبُوتُ الْحَقِّ لَهُمْ بِطَرِيقِ الْإِرْثِ، فَلَا يُرَاعَى فِيهِ الْأَقْرَبُ وَالْأَبْعَدُ، وَكَذَا لَا يُرَاعَى فِيهِ إحْصَانُ الْمُخَاصِمِ، بَلْ الشَّرْطُ إحْصَانُ الْمَقْذُوفِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ، حَتَّى لَوْ كَانَ الْوَلَدُ أَوْ الْوَالِدُ عَبْدًا أَوْ ذِمِّيًّا - فَلَهُ حَقُّ الْخُصُومَةِ.
وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إحْصَانُ الْمُخَاصِمِ شَرْطٌ، وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ وَلَا الْكَافِرِ أَنْ يُخَاصِمَ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ إثْبَاتَ حَقِّ الْخُصُومَةِ لَهُ لِصَيْرُورَتِهِ مَقْذُوفًا مَعْنًى بِإِضَافَةِ الْقَذْفِ إلَى الْمَيِّتِ، وَلَوْ أُضِيفَ إلَيْهِ الْقَذْفُ ابْتِدَاءً - لَا يَجِبُ الْحَدُّ فَهَهُنَا أَوْلَى.
(وَلَنَا) أَنَّ الْحَدَّ لَا يَجِبُ لَعَيْنِ الْقَذْفِ بَلْ لِلُحُوقِ عَارٍ كَامِلٍ بِالْمَقْذُوفِ، وَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ مُحْصَنًا فَقَدْ لَحِقَ الْوَلَدَ عَارٌ كَامِلٌ فَلَا يُشْتَرَطُ إحْصَانُهُ؛ لِأَنَّ اشْتِرَاطَهُ لِلُحُوقِ عَارٍ كَامِلٍ بِهِ، وَقَدْ لَحِقَهُ بِدُونِهِ وَلَوْ كَانَ الْوَارِثُ قَتَلَهُ حَتَّى حُرِمَ الْمِيرَاثَ - فَلَهُ أَنْ يُخَاصِمَ؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ هَذَا الْحَقَّ لَا يَثْبُتُ بِطَرِيقِ الْإِرْثِ، وَلَوْ قَذَفَ رَجُلٌ أُمَّ ابْنِهِ وَهِيَ مَيِّتَةٌ - فَلَيْسَ لِلْوَلَدِ أَنْ يُخَاصِمَ أَبَاهُ؛ لِأَنَّ الْأَبَ لَوْ قَذَفَ وَلَدَهُ وَهُوَ حَيٌّ مُحْصَنٌ - لَيْسَ لِلْوَلَدِ أَنْ يُخَاصِمَ أَبَاهُ؛ تَعْظِيمًا لَهُ، فَفِي قَذْفِ الْأُمِّ الْمَيِّتَةِ أَوْلَى.
وَكَذَلِكَ الْمَوْلَى إذَا قَذَفَ أُمَّ عَبْدِهِ وَهِيَ حُرَّةٌ مَيِّتَةٌ - فَلَيْسَ لِلْعَبْدِ أَنْ يُخَاصِمَ مَوْلَاهُ فِي الْقَذْفِ؛ لِأَنَّهُ عَبْدٌ مَمْلُوكٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ، وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ.
(فَصْلٌ) :
وَأَمَّا صِفَاتُ الْحُدُودِ فَنَقُولُ - وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ: لَا خِلَافَ فِي حَدِّ الزِّنَا وَالشُّرْبِ وَالسُّكْرِ وَالسَّرِقَةِ أَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ الْعَفْوَ وَالصُّلْحَ وَالْإِبْرَاءَ بَعْدَ مَا ثَبَتَ بِالْحُجَّةِ؛ لِأَنَّهُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى خَالِصًا، لَا حَقَّ لِلْعَبْدِ فِيهِ فَلَا يَمْلِكُ إسْقَاطَهُ، وَكَذَا يَجْرِي