قِيلَ: إنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ ذَلِكَ فِي أَخَوَيْنِ اخْتَصَمَا إلَيْهِ فِي مَوَارِيثَ دُرِسَتْ بَيْنَهُمَا، فَقَالَ إلَى آخِرِهِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمَا بَيِّنَةٌ إلَّا دَعْوَاهُمَا، كَذَا ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُد عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، وَالْمِيرَاثُ وَمُطْلَقُ الْمِلْكِ سَوَاءٌ فِي الدَّعْوَى - وَبِهِ نَقُولُ - مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ السَّبَبِ، وَالْكَلَامُ فِي الْقَضَاءِ بِسَبَبٍ عَلَى أَنَّا نَقُولُ بِمُوجِبِهِ، لَكِنْ لِمَ قُلْتُمْ: إنَّ الْقَضَاءَ بِسَبَبِ قَضَاءٍ لَهُ مِنْ مَالٍ آخَرَ بِغَيْرِ حَقٍّ؟ بَلْ هُوَ قَضَا لَهُ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ، وَبِحَقٍّ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ بِسَبَبِ الْمِلْكِ صَحِيحٌ عِنْدَنَا، فَقَدْ قُلْنَا بِمُوجِبِ الْحَدِيثِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ.
(فَصْلٌ) :
وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِ خَطَأِ الْقَاضِي فِي الْقَضَاءِ فَنَقُولُ: الْأَصْلُ أَنَّ الْقَاضِيَ إذَا أَخْطَأَ فِي قَضَائِهِ، بِأَنْ ظَهَرَ أَنَّ الشُّهُودَ كَانُوا عَبِيدًا أَوْ مَحْدُودِينَ فِي قَذْفٍ، أَنَّهُ لَا يُؤَاخَذُ بِالضَّمَانِ؛ لِأَنَّهُ بِالْقَضَاءِ لَمْ يَعْمَلْ لِنَفْسِهِ بَلْ لِغَيْرِهِ، فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الرَّسُولِ فَلَا تَلْحَقُهُ الْعُهْدَةُ، ثُمَّ يُنْظَرُ إمَّا أَنْ كَانَ الْمَقْضِيُّ بِهِ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ، وَإِمَّا أَنْ كَانَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - خَالِصًا، كَالْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ، وَالرَّجْمِ فِي زِنَا الْمُحْصَنِ، فَإِنْ كَانَ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ، فَإِنْ كَانَ مَالًا - وَهُوَ قَائِمٌ - رَدَّهُ عَلَى الْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ قَضَاءَهُ وَقَعَ بَاطِلًا، وَرَدُّ عَيْنِ الْمَقْضِيِّ بِهِ مُمْكِنٌ، فَيَلْزَمُهُ رَدُّهُ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تَرُدَّهُ» .
وَلِأَنَّهُ عَيْنُ مَالِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، «وَمَنْ وَجَدَ عَيْنَ مَالِهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ» ، وَإِنْ كَانَ هَالِكًا فَالضَّمَانُ عَلَى الْمَقْضِيِّ لَهُ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ عَمِلَ لَهُ فَكَانَ خَطَؤُهُ عَلَيْهِ؛ لِيَكُونَ الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ؛ وَلِأَنَّهُ إذَا عَمِلَ لَهُ فَكَانَ هُوَ الَّذِي فَعَلَ بِنَفْسِهِ، وَإِنْ كَانَ حَقًّا لَيْسَ بِمَالٍ، كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ بَطَلَ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ قَضَاءَهُ كَانَ بَاطِلًا، وَأَنَّهُ أَمْرٌ شَرْعِيٌّ يَحْتَمِلُ الرَّدَّ فَيُرَدُّ، بِخِلَافِ الْحُدُودِ وَالْمَالِ الْهَالِكِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ الرَّدَّ بِنَفْسِهِ فَيُرَدُّ بِالضَّمَانِ، هَذَا إذَا كَانَ الْمَقْضِيُّ بِهِ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ.
وَأَمَّا إذَا كَانَ مِنْ حَقِّ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - خَالِصًا فَضَمَانُهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ عَمِلَ فِيهَا لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ؛ لِعَوْدِ مَنْفَعَتِهَا إلَيْهِمْ - وَهُوَ الزَّجْرُ - فَكَانَ خَطَؤُهُ عَلَيْهِمْ؛ لِمَا قُلْنَا فَيُؤَدَّى مِنْ بَيْتِ مَالِهِمْ، وَلَا يُضَمَّنُ الْقَاضِي؛ لِمَا قُلْنَا، وَلَا الْجَلَّادُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ عَمِلَ بِأَمْرِ الْقَاضِي، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
(فَصْلٌ) :
وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَخْرُجُ بِهِ الْقَاضِي عَنْ الْقَضَاءِ فَنَقُولُ - وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ: كُلُّ مَا يَخْرُجُ بِهِ الْوَكِيلُ عَنْ الْوَكَالَةِ يَخْرُجُ بِهِ الْقَاضِي عَنْ الْقَضَاءِ، وَمَا يَخْرُجُ بِهِ الْوَكِيلُ عَنْ الْوَكَالَةِ أَشْيَاءَ - ذَكَرْنَاهَا فِي كِتَابِ الْوَكَالَةِ - لَا يَخْتَلِفَانِ إلَّا فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ: وَهُوَ أَنَّ الْمُوَكِّلَ إذَا مَاتَ أَوْ خُلِعَ يَنْعَزِلُ الْوَكِيلُ، وَالْخَلِيفَةُ إذَا مَاتَ أَوْ خُلِعَ لَا تَنْعَزِلُ قُضَاتُهُ وَوُلَاتُهُ.
(وَوَجْهُ) الْفَرْقِ أَنَّ الْوَكِيلَ يَعْمَلُ بِوِلَايَةِ الْمُوَكِّلِ وَفِي خَالِصِ حَقِّهِ أَيْضًا، وَقَدْ بَطَلَتْ أَهْلِيَّةُ الْوِلَايَةِ فَيَنْعَزِلُ الْوَكِيلُ، وَالْقَاضِي لَا يَعْمَلُ بِوِلَايَةِ الْخَلِيفَةِ وَفِي حَقِّهِ بَلْ بِوِلَايَةِ الْمُسْلِمِينَ وَفِي حُقُوقِهِمْ، وَإِنَّمَا الْخَلِيفَةُ بِمَنْزِلَةِ الرَّسُولِ عَنْهُمْ؛ لِهَذَا لَمْ تَلْحَقْهُ الْعُهْدَةُ، كَالرَّسُولِ فِي سَائِرِ الْعُقُودِ وَالْوَكِيلِ فِي النِّكَاحِ، وَإِذَا كَانَ رَسُولًا كَانَ فِعْلُهُ بِمَنْزِلَةِ فِعْلِ عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَوِلَايَتِهِمْ بَعْدَ مَوْتِ الْخَلِيفَةِ بَاقِيَةٌ، فَيَبْقَى الْقَاضِي عَلَى وِلَايَتِهِ؛ وَهَذَا بِخِلَافِ الْعَزْلِ، فَإِنَّ الْخَلِيفَةَ إذَا عَزَلَ الْقَاضِي أَوْ الْوَالِي يَنْعَزِلُ بِعَزْلِهِ، وَلَا يَنْعَزِلُ بِمَوْتِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْعَزِلُ بِعَزْلِ الْخَلِيفَةِ أَيْضًا حَقِيقَةً، بَلْ بِعَزْلِ الْعَامَّةِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ تَوْلِيَتَهُ بِتَوْلِيَةِ الْعَامَّةِ، وَالْعَامَّةُ وَلَّوْهُ الِاسْتِبْدَالَ دَلَالَةً؛ لِتَعَلُّقِ مَصْلَحَتِهِمْ بِذَلِكَ، فَكَانَتْ وِلَايَتُهُ مِنْهُمْ مَعْنًى فِي الْعَزْلِ أَيْضًا، فَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْعَزْلِ وَالْمَوْتِ.
وَلَوْ اسْتَخْلَفَ الْقَاضِي بِإِذْنِ الْإِمَامِ، ثُمَّ مَاتَ الْقَاضِي لَا يَنْعَزِلُ خَلِيفَتُهُ؛ لِأَنَّهُ نَائِبُ الْإِمَامِ فِي الْحَقِيقَةِ، لَا نَائِبُ الْقَاضِي، وَلَا يَنْعَزِلُ بِمَوْتِ الْخَلِيفَةِ أَيْضًا، كَمَا لَا يَنْعَزِلُ الْقَاضِي؛ لِمَا قُلْنَا، وَلَا يَمْلِكُ الْقَاضِي عَزْلَ خَلِيفَتِهِ؛ لِأَنَّهُ نَائِبُ الْإِمَامِ، فَلَا يَنْعَزِلُ بِعَزْلِهِ كَالْوَكِيلِ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ عَزْلَ الْوَكِيلِ الثَّانِي؛ لِأَنَّ الثَّانِيَ وَكِيلُ الْمُوَكِّلِ فِي الْحَقِيقَةِ لَا وَكِيلَهُ، كَذَا هَهُنَا، إلَّا إذَا أَذِنَ لَهُ الْخَلِيفَةُ أَنْ يَسْتَبْدِلَ مَنْ شَاءَ فَيَمْلِكُ عَزْلَهُ، وَيَكُونُ ذَلِكَ أَيْضًا عَزْلًا مِنْ الْخَلِيفَةِ لَا مِنْ الْقَاضِي؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ كَالْوَكِيلِ إذَا قَالَ لَهُ الْمُوَكِّلُ: اعْمَلْ بِرَأْيِكَ أَنَّهُ يَمْلِكُ التَّوْكِيلَ وَالْعَزْلَ، وَإِذَا عَزَلَ كَانَ الْعَزْلُ فِي الْحَقِيقَةِ مِنْ الْمُوَكِّلِ، كَذَا هَذَا.
وَعِلْمُ الْمَعْزُولِ بِالْعَزْلِ شَرْطُ صِحَّةِ الْعَزْلِ كَمَا ذَكَرَ فِي الْوَكَالَةِ، وَهَلْ يَنْعَزِلُ بِأَخْذِ الرِّشْوَةِ فِي الْحُكْمِ؟ عِنْدَنَا لَا يَنْعَزِلُ لَكِنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْعَزْلَ فَيَعْزِلُهُ الْإِمَامُ وَيُعَزِّرُهُ، كَذَا ذَكَرَ فِي كِتَابِ الْحُدُودِ، وَقَالَ مَشَايِخُ الْعِرَاقِ مِنْ أَصْحَابِنَا: إنَّهُ يَنْعَزِلُ وَقَالُوا: صَحَّتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَصْحَابِنَا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّهُ يَنْعَزِلُ، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا ذَكَرَ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ الْقَضَاءِ، لَكِنْ رِوَايَةُ مَشَايِخِنَا: أَنَّهُ لَا يَخْرُجُ مِنْ الْقَضَاءِ، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ مُشْتَبِهَةٌ، وَرِوَايَةُ كِتَابِ الْحُدُودِ مُحْكَمَةٌ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ أَنَّ الْإِمَامَ يَعْزِلُهُ وَيُعَزِّرُهُ فَكَانَ فِيمَا قُلْنَا: حَمْلُ الْمُحْتَمَلِ عَلَى