وَقَالَ هَذَا شَيْءٌ احْتَاطَ بِهِ بَعْضُ الْقُضَاةِ، وَهُوَ ظُلْمٌ، أَرَأَيْتَ لَوْ لَمْ يَجِدْ كَفِيلًا كُنْتُ أَمْنَعُهُ حَقَّهُ دَلَّتْ تَسْمِيَتُهُ أَخُذَ الْكَفِيلِ ظُلْمًا عَلَى أَنَّ مَذْهَبَهُ: أَنَّ لَيْسَ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبًا، إذْ الصَّوَابُ لَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ظُلْمًا فَدَلَّتْ الْمَسْأَلَةُ عَلَى بَرَاءَةِ سَاحَتِهِ عَنْ لَوْثِ الِاعْتِزَالِ بِحَمْدِ اللَّهِ وَمَنِّهِ.
وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمَشْهُودِ بِهِ، فَمِنْهَا أَنْ تَكُونَ الشَّهَادَةُ بِمَعْلُومٍ، فَإِنْ كَانَتْ بِمَجْهُولٍ لَمْ تُقْبَلْ؛ لِأَنَّ عِلْمَ الْقَاضِي بِالْمَشْهُودِ بِهِ شَرْطُ صِحَّةِ قَضَائِهِ، فَمَا لَمْ يَعْلَمْ لَا يُمْكِنُهُ الْقَضَاءُ بِهِ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا شَهِدَ رَجُلَانِ عِنْدَ الْقَاضِي: أَنَّ فُلَانًا وَارِثُ هَذَا الْمَيِّتِ لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا شَهِدَا بِمَجْهُولٍ لِجَهَالَةِ الْوَارِثِ أَسْبَابَ الْوِرَاثَةِ وَاخْتِلَافَ أَحْكَامِهَا، فَلَا بُدَّ أَنْ يَقُولُوا: " ابْنُهُ وَوَارِثُهُ لَا يَعْلَمُونَ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُ "، أَوْ " أَخُوهُ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ لَا يَعْلَمُونَ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُ "، وَقَوْلُهُ: " لَا يَعْلَمُونَ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُ " لِئَلَّا يَتَلَوَّمَ الْقَاضِي لَا؛ لِأَنَّهُ مِنْ الشَّهَادَةِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِجِنْسِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ بَابٌ فِي الزِّيَادَاتِ يُعْرَفُ ثَمَّةَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْمَشْهُودُ بِهِ مَعْلُومًا لِلشَّاهِدِ عِنْدَ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ حَتَّى لَوْ ظَنَّ، لَا تَحِلُّ لَهُ الشَّهَادَةُ وَإِنْ رَأَى خَطَّهُ وَخَتْمَهُ وَأَخْبَرَهُ النَّاسُ بِمَا يَتَذَكَّرُ بِنَفْسِهِ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَعِنْدَهُمَا إنْ رَأَى خَطَّهُ وَخَتْمَهُ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْخِلَافِ وَالْحُجَجِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَأَمَّا الَّذِي يَخُصُّ الْمَكَانَ فَوَاحِدٌ، وَهُوَ مَجْلِسُ الْقَاضِي؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ لَا تَصِيرُ حُجَّةً مُلْزِمَةً إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَتَخْتَصُّ بِمَجْلِسِ الْقَضَاءِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
(وَأَمَّا) الشَّرَائِطُ الَّتِي تَخُصُّ بَعْضَ الشَّهَادَاتِ دُونَ الْبَعْضِ فَأَنْوَاعٌ أَيْضًا (مِنْهَا) الدَّعْوَى فِي الشَّهَادَةِ الْقَائِمَةِ عَلَى حُقُوقِ الْعِبَادِ مِنْ الْمُدَّعِي بِنَفْسِهِ أَوْ نَائِبِهِ؛؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ فِي هَذَا الْبَابِ شُرِعَتْ لِتَحْقِيقِ قَوْلِ الْمُدَّعِي وَلَا يَتَحَقَّقُ قَوْلُهُ إلَّا بِدَعْوَاهُ إمَّا بِنَفْسِهِ وَإِمَّا بِنَائِبِهِ.
وَأَمَّا حُقُوقُ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهَا الدَّعْوَى كَأَسْبَابِ الْحُرُمَاتِ مِنْ الطَّلَاقِ وَغَيْرِهِ، وَأَسْبَابُ الْحُدُودِ الْخَالِصَةِ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى، إلَّا أَنَّهُ شُرِطَتْ الدَّعْوَى فِي بَابِ السَّرِقَةِ؛ لِأَنَّ كَوْنَ الْمَسْرُوقِ مِلْكًا لِغَيْرِ السَّارِقِ شَرْطُ تَحَقُّقِ كَوْنِ الْفِعْلِ سَرِقَةً شَرْعًا، وَلَا يَظْهَرُ ذَلِكَ إلَّا بِالدَّعْوَى فَشُرِطَتْ الدَّعْوَى لِهَذَا، وَاخْتُلِفَ فِي عِتْقِ الْعَبْدِ: أَنَّهُ حَقٌّ لِلْعَبْدِ فَتُشْتَرَطُ فِيهِ الدَّعْوَى، أَوْ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى فَلَا تُشْتَرَطُ فِيهِ الدَّعْوَى، مَعَ الِاتِّفَاقِ عَلَى أَنَّ عِتْقَ الْأَمَةِ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى، لِمَا عُلِمَ مِنْ الْخِلَافِ فِي كِتَابِ الْعَتَاقِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
(وَمِنْهَا) الْعَدَدُ فِي الشَّهَادَةِ بِمَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة: 282] (وَقَوْلُهُ) سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 4] ؛ وَلِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الشَّاهِدِ إقَامَةُ الشَّهَادَةِ لِلَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - " الْآيَةُ " وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [الطلاق: 2] ، وقَوْله تَعَالَى {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ} [النساء: 135] وَلَا تَقَعُ الشَّهَادَةُ لِلَّهِ إلَّا وَأَنْ تَكُونَ خَالِصَةً صَافِيَةً عَنْ جَرِّ النَّفْعِ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ فِي الشَّهَادَةِ مَنْفَعَةً لِلشَّاهِدِ مِنْ حَيْثُ التَّصْدِيقُ؛؛ لِأَنَّ مَنْ صَدَقَ قَوْلُهُ يَتَلَذَّذُ بِهِ، فَلَوْ قُبِلَ قَوْلُ الْفَرْدِ لَمْ تَخْلُ شَهَادَتُهُ عَنْ جَرِّ النَّفْعِ إلَى نَفْسِهِ، فَلَا يَخْلُصُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَشُرِطَ الْعَدَدُ فِي الشَّهَادَةِ لِيَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مُضَافًا إلَى قَوْلِ صَاحِبِهِ، فَتَصْفُو الشَّهَادَةُ لِلَّهِ - عَزَّ شَأْنُهُ -؛ وَلِأَنَّهُ إذَا كَانَ فَرْدًا يُخَافُ عَلَيْهِ السَّهْوُ وَالنِّسْيَانُ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ مَطْبُوعٌ عَلَى السَّهْوِ وَالْغَفْلَةِ، فَشَرْطُ الْعَدَدِ فِي الشَّهَادَةِ لِيُذَكِّرَ الْبَعْضُ الْبَعْضَ عِنْدَ اعْتِرَاضِ السَّهْوِ وَالْغَفْلَةِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي إقَامَةِ امْرَأَتَيْنِ مَقَامَ رَجُلٍ فِي الشَّهَادَةِ {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} [البقرة: 282] ثُمَّ الشَّرْطُ عَدَدُ الْمُثَنَّى فِي عُمُومِ الشَّهَادَاتِ الْقَائِمَةِ عَلَى مَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ، إلَّا فِي الشَّهَادَةِ بِالزِّنَا فَإِنَّهُ يُشْتَرَطُ فِيهَا عَدَدُ الْأَرْبَعَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 4] ، وقَوْله تَعَالَى {فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النور: 13] .
وَلِأَنَّ الشَّهَادَةَ فِي هَذَا الْبَابِ أَحَدُ نَوْعَيْ الْحُجَّةِ، فَتُعْتَبَرُ بِالنَّوْعِ الْآخَرِ وَهُوَ الْإِقْرَارُ، ثُمَّ عَدَدُ الْأَقَارِيرِ الْأَرْبَعَةِ شَرْطُ ظُهُورِ الزِّنَا عِنْدَنَا فَكَذَا عَدَدُ الشُّهُودِ الْأَرْبَعَةِ بِخِلَافِ سَائِرِ الْحُدُودِ، فَإِنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ الْعَدَدُ فِي الْإِقْرَارِ لِظُهُورِهَا، فَكَذَا فِي الشَّهَادَةِ؛ وَلِأَنَّ عَدَدَ الْأَرْبَعَةِ فِي الزِّنَا ثَبَتَ نَصًّا بِخِلَافِ الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّ خَبَرَ مَنْ لَيْسَ بِمَعْصُومٍ مِنْ الْكَذِبِ لَا يَخْلُو عَنْ احْتِمَالِ الْكَذِبِ، وَعَدَدُ الْأَرْبَعَةِ فِي احْتِمَالِ الْكَذِبِ، مِثْلُ عَدَدِ الْمُثَنَّى مَا لَمْ يَدْخُلْ فِي حَدِّ التَّوَاتُرِ، لَكِنَّا عَرَفْنَاهُ شَرْطًا بِنَصٍّ خَاصٍّ مَعْدُولًا بِهِ عَنْ الْقِيَاسِ فَبَقِيَ سَائِرُ الْأَبْوَابِ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ وَأَمَّا فِيمَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ كَالْوِلَادَةِ وَالْعُيُوبِ الْبَاطِنَةِ فِي النِّسَاءِ فَالْعَدَدُ فِيهِ لَيْسَ