مُسْتَحَقَّةٌ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا لَوْ اسْتَأْجَرَ ابْنَهُ لَخِدْمَتِهِ لَا يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ بِخِلَافِ الْأَبِ مَعَ مَا أَنَّ الْأَوْلَادَ فِي الْعَادَاتِ يَحْفَظُونَ أَمْوَالَ الْآبَاءِ لِطَمَعِ الِانْتِفَاعِ بِهَا بِطَرِيقِ الْإِرْثَ فَكَانَ رَادًّا عَبْدَ نَفْسِهِ مَعْنًى إذْ كَانَ بِالرَّدِّ عَامِلًا لِنَفْسِهِ فَلَا يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ، وَكَذَلِكَ الزَّوْجُ إذَا رَدَّ عَبْدَ زَوْجَتِهِ فَقَدْ رَدَّ عَبْدَ نَفْسِهِ مَعْنًى؛ لِأَنَّهُ يَنْتَفِعُ بِمَا لِهَا عَادَةً وَكَذَلِكَ لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِلْآخَرِ فَلَا يَسْتَحِقُّ الْجُعْلَ.
(وَأَمَّا) الْأَبُ إذَا رَدَّ عَبْدَ ابْنِهِ فَإِنْ كَانَ فِي عِيَالِهِ لَا جُعْلَ لَهُ؛ لِأَنَّ الْأَجْنَبِيَّ الَّذِي فِي عِيَالِهِ لَا جُعْلَ لَهُ فَالْقَرَابَةُ أَوْلَى، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي عِيَالِهِ فَلَهُ الْجُعْلُ؛ لِأَنَّ الْأَبَ لَا يُسْتَخْدَمُ طَبْعًا وَشَرْعًا وَعَقْلًا وَلِهَذَا لَوْ خَدَمَ بِالْأَجْرِ وَجَبَ الْأَجْرُ فَلَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى الْخِدْمَةِ فَيُحْمَلُ عَلَى طَلَبِ الْأَجْرِ، وَكَذَا الْآبَاءُ لَا يَحْفَظُونَ أَمْوَالَ الْأَوْلَادِ لِلِانْتِفَاعِ بِهَا بِطَرِيقِ الْإِرْثِ لِأَنَّ مَوْتَهُمْ يَتَقَدَّمُ مَوْتَ الْأَوْلَادِ عَادَةً فَلَمْ يَتَحَقَّقْ مَعْنَى الرَّدِّ، وَالْعَمَلُ لِنَفْسِهِ لِذَلِكَ افْتَرَقَ الْأَمْرَانِ، وَعَلَى هَذَا سَائِرُ ذَوِي الْأَرْحَامِ مِنْ الْأَخِ وَالْعَمِّ وَالْخَالِ وَغَيْرِهِمْ أَنَّ الرَّادَّ إنْ كَانَ فِي عِيَالِ الْمَالِكِ لَا جُعْلَ لَهُ لِمَا قُلْنَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي عِيَالِهِ فَلَهُ الْجُعْلُ، وَعَلَى هَذَا الْوَصِيُّ إذَا رَدَّ عَبْدَ الْيَتِيمِ لَا جُعْلَ لَهُ؛ لِأَنَّ الْيَتِيمَ فِي عِيَالِهِ، وَحِفْظُ مَالِهِ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ فَلَا يَسْتَحِقُّ الْجُعْلَ عَلَى الرَّدِّ، وَكَذَا عَبْدُ الْوَصِيِّ إذَا رَدَّ عَبْدَ الْيَتِيمِ؛ لِأَنَّ رَدَّ عَبْدِهِ كَرَدِّهِ.
(وَمِنْهَا) أَنْ يَكُونَ الْمَرْدُودُ مَرْقُوقًا مُطْلَقًا كَالْقِنِّ وَالْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ حَتَّى لَوْ كَانَ مُكَاتَبًا لَا جُعْلَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَرْقُوقٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ بَلْ هُوَ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى مَكَاسِبِهِ حُرٌّ، وَلِهَذَا لَمْ يَتَنَاوَلْهُ مُطْلَقُ اسْمِ الْمَمْلُوكِ فِي قَوْلِ الرَّجُلِ " كُلُّ مَمْلُوكٍ لِي حُرٌّ " إلَّا بِالنِّيَّةِ بِخِلَافِ الْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ؛ وَلِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْجُعْلِ مَعْلُولٌ بِالصِّيَانَةِ عَنْ الضَّيَاعِ وَلَا حَاجَةَ إلَى الصِّيَانَةِ فِي الْمُكَاتَبِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَهْرَبُ عَادَةً؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ فِي جَانِبِهِ غَيْرُ لَازِمٍ، فَلَوْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى بَدَلِ الْكِتَابَةِ يُعَجِّزُ نَفْسَهُ بِالْإِبَاءِ عَنْ الْكَسْبِ بِخِلَافِ الْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّهُمَا يُسْتَخْدَمَانِ عَادَةً فَلَعَلَّهُمَا يُكَلَّفَانِ مَا لَا يُطِيقَانِ فَيَحْمِلُهُمَا ذَلِكَ عَلَى الْهَرَبِ فَتَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى الصِّيَانَةِ بِالْجُعْلِ كَمَا فِي الْقِنِّ إلَّا أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْقِنِّ أَنَّهُ إذَا جَاءَ بِالْقِنِّ وَقَدْ مَاتَ الْمَوْلَى قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إلَيْهِ فَلَهُ الْجُعْلُ، وَإِنَّ جَاءَ بِالْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ وَقَدْ مَاتَ الْمَوْلَى قَبْلَ الْوُصُولِ إلَيْهِ لَا جُعْلَ لَهُ.
(وَوَجْهُ) الْفَرْقِ ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُمَا يُعْتَقَانِ بِمَوْتِ السَّيِّدِ فَلَمْ يُوجَدْ رَدُّ الْمَرْقُوقِ أَصْلًا فَلَا يَسْتَحِقُّ الْجُعْلَ بِخِلَافِ الْقِنِّ - وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ -.
(فَصْلٌ) :
وَأَمَّا بَيَانُ مَنْ يُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ: فَالْمُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ هُوَ الْمَالِكُ إذَا أَبِقَ مِنْ يَدِهِ لِأَنَّ الْجُعْلَ مُؤْنَةُ الرَّدِّ وَمَنْفَعَةُ الرَّدِّ عَائِدَةٌ إلَى الْمَالِكِ فَكَانَتْ الْمُؤْنَةُ عَلَيْهِ لِيَكُونَ الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ وَلَوْ أَبَقَ عَبْدُ الرَّهْنِ مِنْ يَدِ الْمُرْتَهِنِ فَالْجُعْلُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الرَّدِّ تَعُودُ إلَيْهِ بِاعْتِبَارِ الْحَبْسِ الَّذِي هُوَ وَسِيلَةٌ إلَى اسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ، فَإِنْ كَانَ فِي قِيمَةِ الْعَبْدِ فَضْلٌ عَلَى الدَّيْنِ يَجِبُ بِقَدْرِ الدَّيْنِ عَلَى الْمُرْتَهِنِ وَالزِّيَادَةُ عَلَى الرَّاهِنِ - وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ -
(فَصْلٌ) :
وَأَمَّا بَيَانُ قَدْرِ الْمُسْتَحَقِّ فَيُنْظَرُ إنْ رَدَّهُ مِنْ مَسِيرَةِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَصَاعِدًا فَلَهُ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا لِمَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَإِنْ رَدَّهُ دُونَ ذَلِكَ فَبِحِسَابِهِ وَإِنْ رَدَّهُ مِنْ أَقْصَى الْمِصْرِ رَضَخَ لَهُ عَلَى قَدْرِ عَنَائِهِ وَتَعَبِهِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ بِمُقَابَلَةِ الْعَمَلِ فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهِ إلَّا أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى مُدَّةِ السَّفَرِ سَقَطَ اعْتِبَارُهَا بِالشَّرْعِ فَيَبْقَى الْوَاجِبُ فِي الْمُدَّةِ بِمُقَابَلَةِ الْعَمَلِ فَيَزْدَادُ بِزِيَادَتِهِ وَيَنْقُصُ بِنُقْصَانِهِ هَذَا إذَا كَانَتْ قِيمَةُ الْعَبْدِ أَكْثَرَ مِنْ الْجُعْلِ، فَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ الْجُعْلِ أَوْ أَنْقَصَ مِنْهُ يَنْقُصُ مِنْ قِيمَتِهِ دِرْهَمٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَهُ الْجُعْلُ تَامًّا، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الْعَبْدِ دِرْهَمًا وَاحِدًا وَاحْتَجَّ بِمَا رَوَيْنَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ مِنْ كُلِّ رَأْسٍ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا اعْتَبَرَ الرَّأْسَ دُونَ الْقِيمَةِ (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الْوَاجِبَ مَعْلُولٌ بِمَعْنَى الصِّيَانَةِ عَنْ الضَّيَاعِ لِمَا ذَكَرْنَا، وَلَا فَائِدَةَ فِي هَذِهِ الصِّيَانَةِ لَوْ اعْتَبَرْنَا الرَّأْسَ دُونَ الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ يُصَانُ مِنْ وَجْهٍ يَضِيعُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الضَّيَاعِ بِتَرْكِ الْأَخْذِ وَالْإِمْسَاكِ وَبَيْنَ الضَّيَاعِ بِالْجُعْلِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ قِيمَتِهِ دِرْهَمٌ لِيَكُونَ الصَّوْنُ بِالْأَخْذِ مُفِيدًا، وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا كَانَتْ قِيمَةُ كُلِّ رَأْسٍ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا تَوْفِيقًا بَيْنَ الدَّلَائِلِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ.