- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ لِوَاجِدِ الْبَعِيرِ الضَّالِّ: " أَرْسِلْهُ حَيْثُ وَجَدَتْهُ " وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى انْتِفَاءِ وُجُوبِ الضَّمَانِ.
(فَصْلٌ) :
وَأَمَّا بَيَانُ مَا يُصْنَعُ بِهَا فَنَقُولُ - وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ -: إذَا أَخَذَ اللُّقَطَةَ فَإِنَّهُ يُعَرِّفُهَا لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «عَرِّفْهَا حَوْلًا» حِينَ سُئِلَ عَنْ اللُّقَطَةِ.
وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلَى عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ سَيِّدِنَا عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - فَقَالَ: إنِّي وَجَدْت لُقَطَةً فَمَا تَأْمُرُنِي فِيهَا فَقَالَ: عَرِّفْهَا سَنَةً وَرَوَيْنَا عَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ أَمَرَ بِتَعْرِيفِ الْبَعِيرِ الضَّالِّ.
ثُمَّ نَقُولُ: الْكَلَامُ فِي التَّعْرِيفِ فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا فِي مُدَّةِ التَّعْرِيفِ وَالثَّانِي فِي بَيَانِ مَكَانِ التَّعْرِيفِ أَمَّا مُدَّةُ التَّعْرِيفِ: فَيَخْتَلِفُ قَدْرُ الْمُدَّةِ لِاخْتِلَافِ قَدْرِ اللُّقَطَةِ إنْ كَانَ شَيْئَا لَهُ قِيمَةٌ تَبْلُغُ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فَصَاعِدًا يُعَرِّفُهُ حَوْلًا، وَإِنْ كَانَ شَيْئًا قِيمَتُهُ أَقَلُّ مِنْ عَشَرَةٍ يُعَرِّفُهُ أَيَّامًا عَلَى قَدْرِ مَا يَرَى.
وَرَوَى الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ التَّعْرِيفُ عَلَى خَطَرِ الْمَالِ إنْ كَانَ مِائَةً وَنَحْوَهَا عَرَّفَهَا سَنَةً، وَإِنْ كَانَ عَشَرَةً وَنَحْوَهَا عَرَّفَهَا شَهْرًا، وَإِنْ كَانَ ثَلَاثَةً وَنَحْوَهَا عَرَّفَهَا جُمُعَةً أَوْ قَالَ عَشَرَةً، وَإِنْ كَانَ دِرْهَمًا وَنَحْوَهُ عَرَّفَهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَإِنْ كَانَ دَانَقًا وَنَحْوَهُ عَرَّفَهُ يَوْمًا، وَإِنْ كَانَ تَمْرَةً أَوْ كِسْرَةً تَصَدَّقَ بِهَا " وَإِنَّمَا تَكْمُلُ مُدَّةَ التَّعْرِيفِ إذَا كَانَ مِمَّا لَا يَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ فَإِنْ خَافَ الْفَسَادَ لَمْ تَكْمُلْ وَيَتَصَدَّقُ بِهَا وَأَمَّا مَكَانُ التَّعْرِيفِ فَالْأَسْوَاقُ وَأَبْوَابُ الْمَسَاجِدِ؛ لِأَنَّهَا مَجْمَعُ النَّاسِ وَمَمَرُّهُمْ فَكَانَ التَّعْرِيفُ فِيهَا أَسْرَعَ إلَى تَشْهِيرِ الْخَبَرِ، ثُمَّ إذَا عَرَّفَهَا فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَتُقَامُ الْبَيِّنَةُ أَنَّهَا مِلْكُهُ أَخَذَهَا لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ وَجَدَ عَيْنَ مَالِهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ وَإِنْ لَمْ يُقِمْ الْبَيِّنَةَ» وَلَكِنَّهُ ذَكَرَ الْعَلَامَةَ بِأَنْ وَصَفَ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا وَوَزْنَهَا وَعَدَدَهَا يَحِلُّ لِلْمُلْتَقِطِ أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ مِنْهُ كَفِيلًا؛ لِأَنَّ الدَّفْعَ بِالْعَلَامَةِ مِمَّا قَدْ وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ فِي الْجُمْلَةِ كَمَا فِي اللَّقِيطِ إلَّا أَنَّ هُنَاكَ يُجْبَرُ عَلَى الدَّفْعِ وَهُنَا لَا يُجْبَرُ.
لِأَنَّ هُنَاكَ يُجْبَرُ عَلَى الدَّفْعِ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى فَمَعَ الْعَلَامَةِ أَوْلَى، وَهُنَا لَا عِبْرَةَ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى بِالْإِجْمَاعِ فَجَازَ أَنْ لَا يُجْبَرَ عَلَى الدَّفْعِ مَعَ الْعَلَامَةِ وَلَكِنْ يَحِلُّ لَهُ الدَّفْعُ، وَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ كَفِيلًا لِجَوَازِ مَجِيءِ آخَرَ فَيَدَّعِيهَا وَيُقِيمُ الْبَيِّنَةَ، ثُمَّ إذَا عَرَّفَهَا وَلَمْ يَحْضُرْ صَاحِبُهَا مُدَّةَ التَّعْرِيفِ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَمْسَكَهَا إلَى أَنْ يَحْضُرَ صَاحِبُهَا، وَإِنْ شَاءَ تَصَدَّقَ بِهَا عَلَى الْفُقَرَاءِ وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهَا فَإِنْ كَانَ غَنِيًّا لَا يَجُوزُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهَا عِنْدَنَا.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذَا عَرَّفَهَا حَوْلًا وَلَمْ يَحْضُرْ صَاحِبُهَا كَانَ لَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهَا وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا، وَتَكُونُ قَرْضًا عَلَيْهِ، وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِمَنْ سَأَلَهُ عَنْ اللُّقَطَةِ «عَرِّفْهَا حَوْلًا فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلَّا فَشَأْنُك بِهَا» وَهَذَا إطْلَاقُ الِانْتِفَاعِ لِلْمُلْتَقِطِ مِنْ غَيْرِ السُّؤَالِ عَنْ حَالِهِ أَنَّهُ فَقِيرٌ أَوْ غَنِيٌّ، بَلْ إنَّ الْحُكْمَ لَا يَخْتَلِفُ.
(وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «لَا تَحِلُّ اللَّقَطُ فَمَنْ الْتَقَطَ شَيْئًا فَلْيُعَرِّفْهُ سَنَةً فَإِنْ جَاءَهُ صَاحِبُهَا فَلْيَرُدَّهَا عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَأْتِ فَلْيَتَصَدَّقْ» وَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ نَفَى الْحِلَّ مُطْلَقًا، وَحَالَةُ الْفَقْرِ غَيْرُ مُرَادَةٍ بِالْإِجْمَاعِ فَتَعَيَّنَ حَالَةُ الْغِنَى وَالثَّانِي أَنَّهُ أَمَرَ بِالتَّصَدُّقِ وَمَصْرِفُ الصَّدَقَةِ الْفَقِيرُ دُونَ الْغَنِيِّ وَأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِمَالِ الْمُسْلِمِ بِغَيْرِ إذْنِهِ لَا يَجُوزُ إلَّا لِضَرُورَةٍ وَلَا ضَرُورَةَ إذَا كَانَ غَنِيًّا.
وَأَمَّا الْحَدِيثُ: فَلَا حُجَّةَ لَهُ فِيهِ لِأَنَّ قَوْلَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَشَأْنُك بِهَا إرْشَادٌ إلَى الِاشْتِغَالِ بِالْحِفْظِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ شَأْنَهُ الْمَعْهُودَ بِاللَّقَطِ إلَى هَذِهِ الْغَايَةِ أَوْ يَحْمِلُهُ عَلَى هَذَا تَوْفِيقًا بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ صِيَانَةً لَهُمَا عَنْ التَّنَاقُضِ وَإِذَا تَصَدَّقَ بِهَا عَلَى الْفُقَرَاءِ فَإِذَا جَاءَ صَاحِبُهَا كَانَ لَهُ الْخِيَارُ إنْ شَاءَ أَمْضَى الصَّدَقَةَ وَلَهُ ثَوَابُهَا، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمُلْتَقِط أَوْ الْفَقِيرَ إنْ وَجَدَهُ؛ لِأَنَّ التَّصَدُّقَ كَانَ مَوْقُوفًا عَلَى إجَازَتِهِ وَأَيُّهُمَا ضَمِنَ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى صَاحِبِهِ كَمَا فِي غَاصِبِ الْغَاصِبِ وَإِنْ كَانَ فَقِيرًا فَإِنْ شَاءَ تَصَدَّقَ بِهَا عَلَى الْفُقَرَاءِ وَإِنْ شَاءَ أَنْفَقَهَا عَلَى نَفْسِهِ، فَإِذَا جَاءَ صَاحِبُهَا خَيَّرَهُ بَيْنَ الْأَجْرِ وَبَيْنَ أَنْ يَضْمَنَهَا لَهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ غَنِيًّا جَازَ لَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهَا عَلَى أَبِيهِ وَابْنِهِ وَزَوْجَتِهِ إذَا كَانُوا فُقَرَاءَ، وَكُلُّ جَوَابٍ عَرَفْتَهُ فِي لُقَطَةِ الْحِلِّ فَهُوَ الْجَوَابُ فِي لُقَطَةِ الْحَرَمِ يُصْنَعُ بِهَا مَا يُصْنَعُ بِلُقَطِ الْحِلِّ مِنْ التَّعْرِيفِ وَغَيْرِهِ وَهَذَا عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لُقَطَةُ الْحَرَمِ تُعَرَّفُ أَبَدًا وَلَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهَا بِحَالٍ وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ فِي صِفَةِ مَكَّةَ «وَلَا تَحِلُّ لُقَطَتُهَا إلَّا لِمُنْشِدٍ» أَيْ لِمُعَرِّفٍ فَالْمُنْشِدُ الْمُعَرِّفُ وَالنَّاشِدُ الطَّالِبُ وَهُوَ الْمَالِكُ، وَمَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّهُ لَا تَحِلُّ لُقَطَةُ الْحَرَمِ إلَّا لِلتَّعْرِيفِ.
(وَلَنَا) مَا ذَكَرْنَا مِنْ الدَّلَائِلِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ لُقَطَةِ الْحِلِّ وَالْحَرَمِ وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِي الْحَدِيثِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ بِمُوجِبِهِ: إنَّهُ لَا يَحِلُّ الْتِقَاطُهَا إلَّا