فَالْمَانِعُ مِنْ صِحَّةِ الْقَبْضِ فِي هَذَا الْفَصْلِ هُوَ الِاتِّصَالُ، وَأَنَّهُ لَا يَخْتَلِفُ، وَالْمَانِعُ مِنْ صِحَّةِ الْقَبْضِ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ هُوَ الشَّغْلُ وَأَنَّهُ يَخْتَلِفُ.
مِثَالُ هَذَا: إذَا رَهَنَ نِصْفَ دَارِهِ مُشَاعًا مِنْ رَجُلٍ وَلَمْ يُسَلِّمْ إلَيْهِ حَتَّى رَهَنَهُ النِّصْفَ الْبَاقِيَ وَسَلَّمَ الْكُلَّ أَنَّهُ يَجُوزُ.
وَلَوْ رَهَنَ النِّصْفَ وَسَلَّمَ ثُمَّ رَهَنَ النِّصْفَ الْبَاقِي وَسَلَّمَ، لَا يَجُوزُ كَذَا هَذَا، وَعَلَى هَذَا إذَا رَهَنَ صُوفًا عَلَى ظَهْرِ غَنَمٍ بِدُونِ الْغَنَمِ، أَنَّهُ لَا يَجُوزُ؛؛ لِأَنَّ الْمَرْهُونَ مُتَّصِلٌ بِمَا لَيْسَ بِمَرْهُونٍ، وَهَذَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْقَبْضِ.
وَلَوْ جَزَّهُ وَسَلَّمَهُ، جَازَ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ قَدْ زَالَ وَعَلَى هَذَا أَيْضًا إذَا رَهَنَ دَابَّةً عَلَيْهَا حِمْلٌ بِدُونِ الْحِمْلِ، لَا يَجُوزُ.
وَلَوْ رَفَعَ الْحِمْلَ عَنْهَا وَسَلَّمَهَا فَارِغَةً، جَازَ؛ لِمَا قُلْنَا، بِخِلَافِ مَا إذَا رَهَنَ مَا فِي بَطْنِ جَارِيَتِهِ أَوْ مَا فِي بَطْنِ غَنَمِهِ أَوْ مَا فِي ضَرْعِهَا، أَوْ رَهَنَ سَمْنًا فِي لَبَنٍ أَوْ دُهْنًا فِي سِمْسِمٍ أَوْ زَيْتًا فِي زَيْتُونٍ أَوْ دَقِيقًا فِي حِنْطَةٍ أَنَّهُ يَبْطُلُ، وَإِنْ سَلَّطَهُ عَلَى قَبْضِهِ عِنْدَ الْوِلَادَةِ أَوْ عِنْدَ اسْتِخْرَاجِ ذَلِكَ فَقَبَضَ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ هُنَاكَ لَمْ يَنْعَقِدْ أَصْلًا؛ لِعَدَمِ الْمَحَلِّ؛ لِكَوْنِهِ مُضَافًا إلَى الْمَعْدُومِ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَنْعَقِدْ الْبَيْعُ الْمُضَافُ إلَيْهَا فَكَذَا الرَّهْنُ.
أَمَّا هُنَا فَالْعَقْدُ مُنْعَقِدٌ مَوْقُوفٌ نَفَاذُهُ عَلَى صِحَّةِ التَّسْلِيمِ بِالْفَصْلِ وَالتَّمْيِيزِ، فَإِذَا وُجِدَ، فَقَدْ زَالَ الْمَانِعُ وَلَوْ رَهَنَ الشَّجَرَ بِمَوَاضِعِهِ مِنْ الْأَرْضِ، جَازَ؛ لِأَنَّ قَبْضَهُ مُمْكِنٌ.
وَلَوْ رَهَنَ شَجَرًا وَفِيهِ ثَمَرٌ لَمْ يُسَمِّهِ فِي الرَّهْنِ، دَخَلَ فِي الرَّهْنِ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ الثَّمَرُ فِي بَيْعِ الشَّجَرِ مِنْ غَيْرِ تَسْمِيَةٍ؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ تَصْحِيحَ الرَّهْنِ، وَلَا صِحَّةَ بِدُونِ الْقَبْضِ وَلَا صِحَّةَ لِلْقَبْضِ بِدُونِ دُخُولِ مَا هُوَ مُتَّصِلٌ بِهِ، فَيَدْخُلُ تَحْتَ الْعَقْدِ تَصْحِيحًا لَهُ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَإِنَّهُ يَصِحُّ فِي الشَّجَرِ بِدُونِ الثَّمَرِ وَلَا ضَرُورَةَ إلَى إدْخَالِ الثَّمَرِ لِلتَّصْحِيحِ وَلَوْ قَالَ: رَهَنْتُكَ هَذِهِ الدَّارَ أَوْ هَذِهِ الْأَرْضَ أَوْ هَذَا الْكَرْمَ، وَأَطْلَقَ الْقَوْلَ وَلَمْ يَخُصَّ شَيْئًا دَخَلَ فِيهِ كُلُّ مَا كَانَ مُتَّصِلًا بِهِ مِنْ الْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ مَعَ أَنَّ الْقَبْضَ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ صِحَّتِهِ فَلَأَنْ يَدْخُلَ فِي الرَّهْنِ أَوْلَى، إلَّا أَنَّهُ يَدْخُلُ فِيهِ الزَّرْعُ وَالثَّمَرُ وَلَا يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا، بِخِلَافِ الْمَتَاعِ أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِي رَهْنِ الدَّارِ، وَيَدْخُلُ الثَّمَرُ فِي رَهْنِ الشَّجَرِ؛؛ لِأَنَّ الثَّمَرَ تَابِعٌ لِلشَّجَرِ وَالْمَتَاعَ لَيْسَ بِتَابِعٍ لِلدَّارِ.
وَلَوْ اسْتَحَقَّ بَعْضَ الْمَرْهُونِ بَعْدَ صِحَّةِ الرَّهْنِ يَنْظُرُ إلَى الْبَاقِي إنْ كَانَ الْبَاقِي بَعْدَ الِاسْتِحْقَاقِ مِمَّا يَجُوزُ رَهْنُهُ ابْتِدَاءً، لَا يَفْسُدُ الرَّهْنُ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَجُوزُ رَهْنُهُ ابْتِدَاءً، فَسَدَ الرَّهْنُ فِي الْكُلِّ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا اُسْتُحِقَّ بَعْضَهُ تَبَيَّنَ أَنَّ الْعَقْدَ لَمْ يَصِحَّ فِي الْقَدْرِ الْمُسْتَحَقِّ، وَأَنَّهُ لَمْ يَقَعْ إلَّا عَلَى الْبَاقِي فَكَأَنَّهُ رَهَنَ هَذَا الْقَدْرَ ابْتِدَاءً، فَيَنْظُرُ فِيهِ إنْ كَانَ مَحَلًّا لِابْتِدَاءِ الرَّهْنِ، يَبْقَى الرَّهْنُ فِيهِ وَإِلَّا فَيَفْسُدُ فِي الْكُلِّ، كَمَا لَوْ رَهَنَ هَذَا الْقَدْرَ ابْتِدَاءً، إلَّا أَنَّهُ إذَا بَقِيَ الرَّهْنُ فِيهِ يَبْقَى بِحِصَّتِهِ حَتَّى لَوْ هَلَكَ الْبَاقِي بِحِصَّتِهِ مِنْ الدَّيْنِ، وَإِنْ كَانَ فِي قِيمَتِهِ وَفَاءٌ بِجَمِيعِ الدَّيْنِ وَلَا يَذْهَبُ جَمِيعُ الدَّيْنِ، وَإِذَا رَهَنَ الْبَاقِي ابْتِدَاءً وَفِيهِ وَفَاءٌ بِالدَّيْنِ فَهَلَكَ، يَهْلِكْ بِجَمِيعِ الدَّيْنِ، وَإِنْ شِئْت أَنْ تَجْعَلَ الْحِيَازَةَ شَرْطًا مُفْرَدًا وَخَرَّجْتَ الْمُشَاعَ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ؛ لِأَنَّهُ مَرْهُونٌ مُتَّصِلٌ بِمَا لَيْسَ بِمَرْهُونٍ حَقِيقَةً، فَكَانَ تَخْرِيجُهُ عَلَيْهِ مُسْتَقِيمًا فَافْهَمْ.
وَمِنْهَا أَهْلِيَّةٌ الْقَبْضِ وَهِيَ الْعَقْلُ؛ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ بِهِ أَهْلِيَّةُ الرُّكْنِ وَهُوَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ فَلَأَنْ تَثْبُتَ بِهِ أَهْلِيَّةُ الشَّرْطِ أَوْلَى.
وَأَمَّا تَفْسِيرُ الْقَبْضِ فَالْقَبْضُ عِبَارَةٌ عَنْ التَّخَلِّي: وَهُوَ التَّمَكُّنُ مِنْ إثْبَاتِ الْيَدِ وَذَلِكَ بِارْتِفَاعِ الْمَوَانِعِ، وَإِنَّهُ يَحْصُلُ بِتَخْلِيَةِ الرَّاهِنِ بَيْنَ الْمَرْهُونِ وَالْمُرْتَهِنِ، فَإِذَا حَصَلَ ذَلِكَ، صَارَ الرَّاهِنُ مُسْلِمًا وَالْمُرْتَهِنُ قَابِضًا، وَهَذَا جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ مَعَهُ النَّقْلُ وَالتَّحْوِيلُ فَمَا لَمْ يُوجَدْ؛ لَا يَصِيرُ قَابِضًا وَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْقَبْضَ شَرْطُ صِحَّةِ الرَّهْنِ، قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] وَمُطْلَقُ الْقَبْضِ يَنْصَرِفُ إلَى الْقَبْضِ الْحَقِيقِيِّ وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إلَّا بِالنَّقْلِ، فَأَمَّا التَّخَلِّي فَقَبْضٌ حُكْمًا لَا حَقِيقَةً، فَلَا يُكْتَفَى بِهِ وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ التَّخَلِّيَ بِدُونِ النَّقْلِ وَالتَّحْوِيلِ قَبْضٌ فِي الْعُرْفِ وَالشَّرْعِ، أَمَّا الْعُرْفُ: فَإِنَّ الْقَبْضَ يَرُدُّ عَلَى مَا لَا يَحْتَمِلُ النَّقْلَ وَالتَّحْوِيلَ مِنْ الدَّارِ وَالْعَقَارِ، يُقَالُ: هَذِهِ الْأَرْضُ أَوْ هَذِهِ الْقَرْيَةُ أَوْ هَذِهِ الْوِلَايَةُ فِي يَدِ فُلَانٍ فَلَا يُفْهَمُ مِنْهُ إلَّا التَّخَلِّيَ وَهُوَ التَّمَكُّنُ مِنْ التَّصَرُّفِ وَأَمَّا الشَّرْعُ: فَإِنَّ التَّخَلِّيَ فِي بَابِ الْبَيْعِ قَبْضٌ بِالْإِجْمَاعِ مِنْ غَيْرِ نَقْلٍ وَتَحْوِيلٍ دَلَّ أَنَّ التَّخَلِّيَ بِدُونِ النَّقْلِ وَالتَّحْوِيلِ قَبْضٌ حَقِيقَةً وَشَرِيعَةً فَيُكْتَفَى بِهِ
وَأَمَّا بَيَانُ أَنْوَاعِ الْقَبْضِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ: الْقَبْضُ نَوْعَانِ: نَوْعٌ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ، وَنَوْعٌ بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ أَمَّا الْقَبْضُ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ: فَهُوَ أَنْ يَقْبِضَ بِنَفْسِهِ لِنَفْسِهِ.
وَأَمَّا الْقَبْضُ بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ فَنَوْعَانِ: نَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى الْقَابِضِ، وَنَوْعٌ يَرْجِعْ إلَى نَفْسِ الْقَبْضِ، أَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْقَابِضِ: فَنَحْوُ قَبْضِ الْأَبِ وَالْوَصِيِّ وَعَنْ الصَّبِيِّ، كَذَا قَبْضُ الْعَدْلِ يَقُومُ مَقَامَ قَبْضِ