الْهِبَةَ مِنْ الْفَقِيرِ صَدَقَةٌ لِأَنَّهُ يُبْتَغَى بِهَا وَجْهُ اللَّهِ تَعَالَى وَسَنَذْكُرُ حُكْمَهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ هِبَةَ الشَّجَرِ دُونَ الثَّمَرِ وَالثَّمَرِ دُونَ الشَّجَرِ وَالْأَرْضِ دُونَ الزَّرْعِ وَالزَّرْعِ دُونَ الْأَرْضِ أَنَّهَا غَيْرُ جَائِزَةٍ لِأَنَّ الْمَوْهُوبَ مُتَّصِلٌ بِمَا لَيْسَ بِمَوْهُوبٍ اتِّصَالَ جُزْءٍ بِجُزْءٍ فَكَانَ كَهِبَةِ الْمُشَاعِ وَلَوْ فُصِلَ وَسُلِّمَ جَازَ كَمَا فِي هِبَةِ الْمُشَاعِ.

وَلَوْ تَصَدَّقَ بِعَشْرَةِ دَرَاهِمَ عَلَى رَجُلَيْنِ فَإِنْ كَانَا غَنِيَّيْنِ لَمْ يَجُزْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَيَجُوزُ عِنْدَهُمَا لِأَنَّ التَّصَدُّقَ عَلَى الْغَنِيِّ هِبَةٌ فِي الْحَقِيقَةِ وَالْهِبَةُ مِنْ اثْنَيْنِ لَا تَجُوزُ وَعِنْدَهُمَا جَائِزَةٌ وَإِنْ كَانَا فَقِيرَيْنِ فَعِنْدَهُمَا تَجُوزُ كَمَا تَجُوزُ فِي الْهِبَةِ مِنْ رَجُلَيْنِ وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِيهِ رِوَايَتَانِ فِي كِتَاب الْهِبَةِ لَا يَجُوزُ وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ يَجُوزُ.

(وَجْهُ) رِوَايَةِ كِتَابِ الْهِبَةِ أَنَّ الشِّيَاعَ كَمَا يَمْنَعُ جَوَازَ الْهِبَةِ يَمْنَعُ جَوَازَ الصَّدَقَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ وَهَهُنَا يَتَحَقَّقُ الشُّيُوعُ فِي الْقَبْضِ.

(وَجْهُ) رِوَايَةِ الْجَامِعِ وَهِيَ الصَّحِيحَةُ أَنَّ مَعْنَى الشُّيُوعِ فِي الْقَبْضِ لَا يَتَحَقَّقُ فِي الصَّدَقَةِ عَلَى فَقِيرَيْنِ لِأَنَّ الْمُتَصَدِّقَ يَتَقَرَّبُ بِالصَّدَقَةِ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ثُمَّ الْفَقِيرُ يَقْبِضُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ} [التوبة: 104] وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الصَّدَقَةُ تَقَعُ فِي يَدِ الرَّحْمَنِ قَبْلَ أَنْ تَقَعَ فِي يَدِ الْفَقِيرِ» وَاَللَّهُ تَعَالَى وَاحِدٌ لَا شَرِيكَ لَهُ فَلَا يَتَحَقَّقُ مَعْنَى الشُّيُوعِ كَمَا لَوْ تَصَدَّقَ عَلَى فَقِيرٍ وَاحِدٍ ثُمَّ وَكَّلَ بِقَبْضِهَا وَكِيلَيْنِ بِخِلَافِ التَّصَدُّقِ عَلَى غَنِيَّيْنِ لِأَنَّ الصَّدَقَةَ عَلَى الْغَنِيِّ يُبْتَغَى بِهَا وَجْهُ الْغَنِيِّ فَكَانَتْ هَدِيَّةً لَا صَدَقَةً قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الصَّدَقَةُ يُبْتَغَى بِهَا وَجْهُ اللَّهِ تَعَالَى وَالدَّارُ الْآخِرَةُ» وَالْهَدِيَّةُ يُبْتَغَى بِهَا وَجْهُ الرَّسُولِ وَقَضَاءُ الْحَاجَةِ وَالْهَدِيَّةُ هِبَةٌ فَيَتَحَقَّقُ مَعْنَى الشُّيُوعِ فِي الْقَبْضِ وَأَنَّهُ مَانِعُ الْجَوَازِ عِنْدَهُ.

(وَمِنْهَا) الْقَبْضُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَوْهُوبُ مَقْبُوضًا وَإِنْ شِئْت رَدَدْتَ هَذَا الشَّرْطَ إلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ لِأَنَّ الْقَابِضَ وَالْمَقْبُوضَ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْإِضَافِيَّةِ وَالْعَلَقَةُ الَّتِي تَدُورُ عَلَيْهَا الْإِضَافَةُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ هِيَ الْقَبْضُ فَيَصِحُّ رَدُّهُ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي صِنَاعَةِ التَّرْتِيبِ فَتَأَمَّلْ وَالْكَلَامُ فِي هَذَا الشَّرْطِ فِي مَوْضِعَيْنِ فِي بَيَانِ أَصْلِ الْقَبْضِ أَنَّهُ شَرْطٌ أَمْ لَا؟ وَفِي بَيَان شَرَائِطِ صِحَّةِ الْقَبْضِ.

(أَمَّا) الْأَوَّلُ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ قَالَ عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ شَرْطٌ وَالْمَوْهُوبُ قَبْلَ الْقَبْضِ عَلَى مِلْكِ الْوَاهِبِ يَتَصَرَّفُ فِيهِ كَيْفَ شَاءَ وَقَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَيْسَ بِشَرْطٍ وَيَمْلِكُهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ مِنْ غَيْرِ قَبْضٍ.

(وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ هَذَا عَقْدُ تَبَرُّعٍ بِتَمْلِيكِ الْعَيْنِ فَيُفِيدُ الْمِلْكَ قَبْلَ الْقَبْضِ كَالْوَصِيَّةِ.

(وَلَنَا) إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَهُوَ مَا رَوَيْنَا أَنَّ سَيِّدَنَا أَبَا بَكْرٍ وَسَيِّدَنَا عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - اعْتَبَرَا الْقِسْمَةَ وَالْقَبْضَ لِجَوَازِ النُّحْلَى بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَيْهِمَا مُنْكِرٌ فَيَكُونُ إجْمَاعًا وَرُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا أَبِي بَكْرٍ وَسَيِّدِنَا عُمَرَ وَسَيِّدِنَا عُثْمَانَ وَسَيِّدِنَا عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا لَا تَجُوزُ الْهِبَةُ إلَّا مَقْبُوضَةً مَحُوزَةً وَلَمْ يَرِدْ عَنْ غَيْرِهِمْ خِلَافُهُ وَلِأَنَّهَا عَقْدُ تَبَرُّعٍ فَلَوْ صَحَّتْ بِدُونِ الْقَبْضِ لَثَبَتَ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ وِلَايَةُ مُطَالَبَةِ الْوَاهِبِ بِالتَّسْلِيمِ فَتَصِيرُ عَقْدَ ضَمَانٍ وَهَذَا تَغْيِيرُ الْمَشْرُوعِ بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي إيجَابِ الْمِلْكِ فِيهَا قَبْلَ الْقَبْضِ تَغْيِيرُهَا عَنْ مَوْضِعهَا إذْ لَا مُطَالَبَةَ قِبَلَ الْمُتَبَرِّعِ وَهُوَ الْمُوصِي لِأَنَّهُ مَيِّتٌ وَكَذَلِكَ الْقَبْضُ شَرْطُ جَوَازِ الصَّدَقَةِ لَا يُمْلَكُ قَبْلَ الْقَبْضِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَغَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ لَيْسَ بِشَرْطٍ وَتَجُوزُ الصَّدَقَةُ إذَا أُعْلِمَتْ وَإِنْ لَمْ تُقْبَضْ وَلَا تَجُوزُ الْهِبَةُ وَلَا النَّحْلَى إلَّا مَقْبُوضَةً وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ سَيِّدنَا عُمَرَ وَسَيِّدنَا عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَا إذَا عُلِمَتْ الصَّدَقَةُ جَازَتْ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ الْقَبْضِ.

(وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ خَبَرًا عَنْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى «يَا ابْنَ آدَمَ تَقُولُ مَالِي وَلَيْسَ لَكَ مِنْ مَالِكَ إلَّا مَا أَكَلْت فَأَفْنَيْتَ أَوْ لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ أَوْ تَصَدَّقْتَ فَأَبْقَيْتَ» اعْتَبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْإِمْضَاءَ فِي الصَّدَقَةِ وَالْإِمْضَاءُ هُوَ التَّسْلِيمُ دَلَّ أَنَّهُ شَرْطٌ وَرُوِيَ عَنْ سَيِّدنَا أَبِي بَكْرٍ وَسَيِّدنَا عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّهُمْ قَالُوا لَا تَتِمُّ الصَّدَقَةُ إلَّا بِالْقَبْضِ وَلِأَنَّ التَّصَدُّقَ عَقْدُ تَبَرُّعٍ فَلَا يُفِيدُ الْحُكْمَ بِنَفْسِهِ كَالْهِبَةِ وَمَا رُوِيَ عَنْ سَيِّدنَا عُمَرَ وَسَيِّدنَا عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مَحْمُولٌ عَلَى صَدَقَةِ الْأَبِ عَلَى ابْنِهِ الصَّغِيرِ وَبِهِ نَقُولُ لَا حَاجَةَ هُنَاكَ إلَى الْقَبْضِ حَمَلْنَاهُ عَلَى هَذَا تَوْفِيقًا بَيْنَ الدَّلَائِلِ صِيَانَةً لَهَا عَنْ التَّنَاقُضِ.

(وَالثَّانِي) شَرَائِطُ صِحَّةِ الْقَبْضِ فَأَنْوَاعٌ.

(مِنْهَا) أَنْ يَكُونَ الْقَبْضُ بِإِذْنِ الْمَالِكِ لِأَنَّ الْإِذْنَ بِالْقَبْضِ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْقَبْضِ فِي بَابِ الْبَيْعِ حَتَّى لَوْ قَبَضَ الْمُشْتَرِي مِنْ غَيْرِ إذْنِ الْبَائِعِ قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ كَانَ لِلْبَائِعِ حَقُّ الِاسْتِرْدَادِ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015