تَفْسِيرُ الْبَيْعِ وَإِنَّمَا اخْتَلَفَتْ الْعِبَارَةُ وَلَا عِبْرَةَ بِاخْتِلَافِهَا بَعْدَ اتِّفَاقِ الْمَعْنَى كَلَفْظِ الْبَيْعِ مَعَ لَفْظَةِ التَّمْلِيكِ.

(وَلَهُمَا) أَنَّ الْهِبَةَ بِشَرْطِ الْعِوَضِ تَقَعُ تَبَرُّعًا ابْتِدَاءً ثُمَّ تَصِيرُ بَيْعًا فِي الِانْتِهَاءِ بِدَلِيلِ أَنَّهَا تُفِيدُ الْمِلْكَ قَبْلَ الْقَبْضِ وَلَوْ وَقَعَتْ بَيْعًا مِنْ حِينِ وُجُودِهَا لَمَا تَوَقَّفَ الْمِلْكُ فِيهِ عَلَى الْقَبْضِ لِأَنَّ الْبَيْعَ يُفِيدَ الْمِلْكَ بِنَفْسِهِ دَلَّ أَنَّهَا وَقَعَتْ تَبَرُّعًا ابْتِدَاءً وَهَؤُلَاءِ لَا يَمْلِكُونَ التَّبَرُّعَ فَلَمْ تَصِحَّ الْهِبَةُ حِينَ وُجُودِهَا فَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ تَصِيرَ بَيْعًا بَعْدَ ذَلِكَ.

(وَأَمَّا) مَا يَرْجِعُ إلَى الْمَوْهُوبِ فَأَنْوَاعٌ:.

(مِنْهَا) أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا وَقْتَ الْهِبَةِ فَلَا تَجُوزُ هِبَةُ مَا لَيْسَ بِمَوْجُودٍ وَقْتَ الْعَقْدِ بِأَنْ وَهَبَ مَا يُثْمِرُ نَخْلُهُ الْعَامَ وَمَا تَلِدُ أَغْنَامُهُ السَّنَةَ وَنَحْوِ ذَلِكَ بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ وَالْفَرْقُ أَنَّ الْهِبَةَ تَمْلِيكٌ لِلْحَالِ وَتَمْلِيكُ الْمَعْدُومِ مُحَالٌ وَالْوَصِيَّةُ تَمْلِيكٌ مُضَافٌ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْإِضَافَةُ لَا تَمْنَعُ جَوَازَهَا وَكَذَلِكَ لَوْ وَهَبَ مَا فِي بَطْنِ هَذِهِ الْجَارِيَةِ أَوْ مَا فِي بَطْنِ هَذِهِ الشَّاةِ أَوْ مَا فِي ضَرْعِهَا لَا يَجُوزُ وَإِنْ سَلَّطَهُ عَلَى الْقَبْضِ عِنْدَ الْوِلَادَةِ وَالْحَلْبِ لِأَنَّهُ لَا وَجْهَ لِتَصْحِيحِهِ لِلْحَالِ لِاحْتِمَالِ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ لِأَنَّ انْتِفَاخَ الْبَطْنِ قَدْ يَكُونُ لِلْحَمْلِ وَقَدْ يَكُونُ لِدَاءٍ فِي الْبَطْنِ وَغَيْرِهِ وَكَذَا انْتِفَاخُ الضَّرْعِ قَدْ يَكُونُ بِاللَّبَنِ وَقَدْ يَكُونُ بِغَيْرِهِ فَكَانَ لَهُ خَطَرُ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ وَلَا سَبِيلَ لِتَصْحِيحِهِ بِالْإِضَافَةِ إلَى مَا بَعْدَ زَمَانِ الْحُدُوثِ لِأَنَّ التَّمْلِيكَ بِالْهِبَةِ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ الْإِضَافَةَ إلَى الْوَقْتِ فَبَطَلَ.

وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ بِخِلَافِ مَا إذَا وَهَبَ الدَّيْنَ مِنْ غَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ وَسَلَّطَهُ عَلَى الْقَبْضِ أَنَّهُ يَصِحُّ اسْتِحْسَانًا لِأَنَّهُ أَمْكَنَ تَصْحِيحُهُ لِلْحَالِ لِكَوْنِ الْمَوْهُوبِ مَوْجُودًا مَمْلُوكًا لِلْحَالِ مَقْدُورَ الْقَبْضِ بِطَرِيقِهِ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَكَذَلِكَ لَوْ وَهَبَ زُبْدًا فِي لَبَنٍ أَوْ دُهْنًا فِي سِمْسِمٍ أَوْ دَقِيقًا فِي حِنْطَةٍ لَا يَجُوزُ وَإِنْ سَلَّطَهُ عَلَى قَبْضِهِ عِنْد حُدُوثِهِ لِأَنَّهُ مَعْدُومٌ لِلْحَالِ فَلَمْ يُوجَدْ مَحَلُّ حُكْمِ الْعَقْدِ لِلْحَالِ فَلَمْ يَنْعَقِدْ وَلَا سَبِيلَ إلَى الْإِضَافَةِ إلَى وَقْتِ الْحُدُوثِ فَبَطَلَ أَصْلًا بِخِلَافِ مَا إذَا وَهَبَ صُوفًا عَلَى ظَهْرِ الْغَنَمِ وَجَزَّهُ وَسَلَّمَهُ أَنَّهُ يَجُوز لِأَنَّ الْمَوْهُوبَ مَوْجُودٌ مَمْلُوكٌ لِلْحَالِ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَنْفُذْ لِلْحَالِ لِمَانِعٍ وَهُوَ كَوْنُ الْمَوْهُوبِ مَشْغُولًا بِمَا لَيْسَ بِمَوْهُوبٍ فَإِذَا جَزَّهُ فَقَدْ زَالَ الْمَانِعُ لِزَوَالِ الشُّغْلِ فَيَنْفُذُ عِنْدَ وُجُودِ الْقَبْضِ كَمَا لَوْ وَهَبَ شِقْصًا مُشَاعًا ثُمَّ قَسَّمَهُ وَسَلَّمَهُ.

(وَمِنْهَا) أَنْ يَكُونَ مَالًا مُتَقَوِّمًا فَلَا تَجُوزُ هِبَةُ مَا لَيْسَ بِمَالٍ أَصْلًا كَالْحُرِّ وَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَصَيْدِ الْحَرَمِ وَالْإِحْرَامِ وَالْخِنْزِيرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الْبُيُوعِ وَلَا هِبَةُ مَا لَيْسَ بِمَالٍ مُطْلَقٍ كَأُمِّ الْوَلَدِ وَالْمُدَبَّرِ الْمُطْلَقِ وَالْمُكَاتَبِ لِكَوْنِهِمْ أَحْرَارًا مِنْ وَجْهٍ وَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ بَيْعُ هَؤُلَاءِ وَلَا هِبَةُ مَا لَيْسَ بِمُتَقَوِّمٍ كَالْخَمْرِ وَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ بَيْعُهَا.

(وَمِنْهَا) أَنْ يَكُونَ مَمْلُوكًا فِي نَفْسِهِ فَلَا تَجُوزُ هِبَةُ الْمُبَاحَاتِ لِأَنَّ الْهِبَةَ تَمْلِيكٌ وَتَمْلِيكُ مَا لَيْسَ بِمَمْلُوكٍ مُحَالٌ.

(وَمِنْهَا) أَنْ يَكُونَ مَمْلُوكًا لِلْوَاهِبِ فَلَا تَجُوزُ هِبَةُ مَالِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ لِاسْتِحَالَةِ تَمْلِيكِ مَا لَيْسَ بِمَمْلُوكٍ وَإِنْ شِئْتَ رَدَدْتَ هَذَا الشَّرْطَ إلَى الْوَاهِبِ وَكُلُّ ذَلِكَ صَحِيحٌ لِأَنَّ الْمَالِكَ وَالْمَمْلُوكَ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْإِضَافِيَّةِ وَالْعَلَقَةُ الَّتِي تَدُورُ عَلَيْهَا الْإِضَافَةُ هِيَ الْمِلْكُ فَيَجُوزُ رَدُّ هَذَا الشَّرْطِ إلَى الْمَوْهُوبِ وَيَجُوزُ رَدُّهُ إلَى الْوَاهِبِ فِي صِنَاعَةِ التَّرْتِيبِ فَافْهَمْ وَسَوَاءٌ كَانَ الْمَمْلُوكُ عَيْنًا أَوْ دَيْنًا فَتَجُوزُ هِبَةُ الدَّيْنِ لِمَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا.

(وَأَمَّا) هِبَةُ الدَّيْنِ لِغَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ فَجَائِزٌ أَيْضًا إذَا أَذِنَ لَهُ بِالْقَبْضِ وَقَبَضَهُ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ وَإِنْ أَذِنَ لَهُ بِالْقَبْضِ.

(وَجْهُ) الْقِيَاسِ أَنَّ الْقَبْضَ شَرْطُ جَوَازِ الْهِبَةِ وَمَا فِي الذِّمَّةِ لَا يَحْتَمِلُ الْقَبْضَ بِخِلَافِ مَا إذَا وَهَبَ لِمَنْ عَلَيْهِ لِأَنَّ الدَّيْنَ فِي ذِمَّتِهِ وَذِمَّتُهُ فِي قَبْضِهِ فَكَانَ الدَّيْنُ فِي قَبْضِهِ بِوَاسِطَةِ قَبْضِ الذِّمَّةِ.

(وَجْهُ) الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ مَا فِي الذِّمَّةِ مَقْدُورُ التَّسْلِيمِ وَالْقَبْضِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَدْيُونَ يُجْبَرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ إلَّا أَنَّ قَبْضَهُ بِقَبْضِ الْعَيْنِ فَإِذَا قَبَضَ الْعَيْنَ قَامَ قَبْضُهَا مَقَامَ قَبْضِ عَيْنِ مَا فِي الذِّمَّةِ إلَّا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الْإِذْنِ بِالْقَبْضِ صَرِيحًا وَلَا يُكْتَفَى فِيهِ بِالْقَبْضِ بِحَضْرَةِ الْوَاهِبِ بِخِلَافِ هِبَةِ الْعَيْنِ لِمَا نَذْكُرهُ فِي مَوْضِعِهِ.

(وَمِنْهَا) أَنْ يَكُونَ مَحُوزًا فَلَا تَجُوزُ هِبَةُ الْمُشَاعِ فِيمَا يُقَسَّمُ وَتَجُوزُ فِيمَا لَا يُقَسَّمُ كَالْعَبْدِ وَالْحَمَّامِ وَالدِّنِّ وَنَحْوِهَا وَهَذَا عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَيْسَ بِشَرْطٍ وَتَجُوزُ هِبَة الْمُشَاعِ فِيمَا يُقَسَّمُ وَفِيمَا لَا يُقَسَّمُ عِنْدَهُ وَاحْتَجَّ بِظَاهِرِ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلا أَنْ يَعْفُونَ} [البقرة: 237] أَوْجَبَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى نِصْفَ الْمَفْرُوضِ فِي الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ إلَّا أَنْ يُوجَدَ الْحَطُّ مِنْ الزَّوْجَاتِ عَنْ النِّصْفِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ وَالْمُشَاعِ وَالْمَقْسُومِ فَيَدُلُّ عَلَى جَوَازِ هِبَةِ الْمُشَاعِ فِي الْجُمْلَةِ وَبِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ لَمَّا شَدَّدَ فِي الْغُلُولِ فِي الْغَنِيمَةِ فِي بَعْضِ الْغَزَوَاتِ فَقَامَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إلَى سَنَامِ بَعِيرٍ وَأَخَذَ مِنْهُ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015